fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

أبو ظبي وقطر: متنافسان في خدمة الإمبراطوريّة الأمريكيّة 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

بغض النظر عن كيفية اصطفاف المعسكرات داخل واشنطن، فالحقيقة الثابتة أنّ لكلٍ من أبو ظبي وقطر أدواراً مفيدة للولايات المتحدة. فإن التباين الحاد في استراتيجيات السياسة الخارجية بين الإمارتين، إنما يُشكّل في الواقع نعمة لسياسة واشنطن في منطقة الشرق الأوسط الأوسع.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

أبو ظبي وقطر هما الأخَوان العدوّان في مجلس التعاون الخليجي. تتجلى القرابة بينهما في مجالات عدة. فلكلتا الإمارتين سمات سكانية متقاربة – 3.8 مليون في الأولى و2.8 مليون نسمة في الثانية، مع أقلية من المواطنين (20 في المئة في أبو ظبي، و12 في المئة في قطر). كلٌ منهما ثريٌّ ثراءً مهولاً. في 2023، بلغ إجمالي الناتج المحلي لأبو ظبي 310 مليارات دولار، ونصيب الفرد 81,579 دولاراً. أما قطر، فقد بلغ إجمالي ناتجها المحلي في السنة ذاتها 234 مليار دولار، ونصيب الفرد 83,571 دولاراً. على المستوى المؤسسي، لكلّ من البلدين صناديق سيادية تدير “فائضه” المكتسب من صادراته من النفط والغاز. في الواقع، لدى أبو ظبي ثلاثةٌ منها، ويمتلك أكبرها (جهاز أبو ظبي للاستثمار) إجمالي أصول يقدَّر بـ993 مليار دولار. أما جهاز قطر للاستثمار، فطرفٌ قوي في الأسواق المالية العالمية وإن كان أصغر حجماً بإجمالي أصول يبلغ 526 مليار دولار. وعموماً، يتشابه السلوك الاقتصادي لكلّ منهما إلى حدّ كبير. فكلتا الإمارتين مساهمة رئيسية في إدماج مجلس التعاون الخليجي في دوائر الرأسمالية العالمية والإقليمية، ويسيطر عليهما المنطق الريعي و”التفاني في خدمة إمبراطورية رأس المال” على حد تعبير أحد المحللين.

كما تتشابه أبو ظبي وقطر في مسائل الأمن في بعض الجوانب الأساسية. فكلتاهما تخصص مبالغ هائلة للإنفاق العسكري على غرار دول مجلس التعاون الأخرى. في عام 2023، بلغت حصة الفرد من الإنفاق العسكري في قطر 3,562 دولاراً، بينما بلغت في الإمارات العربية المتحدة 2,080 دولاراً، كانت الحصة الأكبر فيها من إنفاق أبو ظبي. وللمقارنة، تُقدر حصة الفرد من الإنفاق العسكري في عام 2023 في إيران بـ85 دولاراً، وقد بلغت الحصة في إسرائيل في العام نفسه 2,120 دولاراً، بعدما رفعتها حربها على غزة، أما في روسيا، وهي في حالة حرب أيضاً، فقد بلغت 524 دولاراً. في الولايات المتحدة، الدولة الكبرى الوحيدة القادرة على مواكبة الإسراف العسكري لدول الخليج على أساس الفرد، بلغت حصة الفرد من إنفاقها العسكري 2,666 دولاراً. ويرتبط كلّ من أبو ظبي وقطر برباط وثيق على الصعيد العسكري مع الكتلة الجيوسياسية الغربية. فغالبية وارداتهما العسكرية تأتي من الولايات المتحدة وأوروبا (المورد الأوروبي الرئيسي هو فرنسا). وبالإضافة إلى إتاحة مرافئهما للقوات البحرية الأميركية، تستضيف الإمارتان أيضاً القوات الجوية الأميركية وتغطيان جزءاً كبيراً من تكاليف تشغيلها المحلية. يوجد حالياً 5 آلاف عسكري أميركي في قاعدة الظفرة الجوية في الإمارات، حيث يتمركز الجناح 380 التابع للقيادة المركزية للقوات الجوية الأميركية. في المقابل، تستضيف قطر 10 آلاف عسكري أميركي في قاعدة العديد الجوية، أكبر منشأة عسكرية أميركية في الشرق الأوسط، وتضم المقر الأمامي للقيادة المركزية الأميركية والجناح 379 التابع للقيادة المركزية للقوات الجوية الأميركية. في مقابل ذلك، تمكّنت الإمارتان أخيراً من مأسسة تعاونهما الدفاعي مع الولايات المتحدة. ففي عام 2019، في عهد إدارة ترامب الأولى، تحوّلت التعاملات الإماراتية الطويلة مع واشنطن إلى اتفاقية تعاون دفاعي. ولم تشأ قطر أن تتفوق عليها جارتها، فحصلت لنفسها في عام 2022 من إدارة بايدن على تصنيف رسمي بأنّها “حليف رئيسي من خارج الناتو”.

بوتقة غزّة

على الرغم من القواسم المشتركة الكثيرة بين أبو ظبي وقطر، تمضي مساراتهما في السياسة الخارجية كلّ في اتجاه. ويعود هذا التباعد إلى عهد حمد بن خليفة آل ثاني في الدوحة وصعود محمد بن زايد آل نهيان في أبو ظبي. كان الأول أمير قطر من عام 1995 حتى عام 2013، سلّم بعدها الإمارة لابنه تميم. أما الثاني، فقد عُيّن ولي عهد أبو ظبي في 2004، وأصبح حاكم الإمارة الفعلي في 2014، ثم خلف رسمياً شقيقه الأكبر، الذي عانى من مرض طويل، في منصبي أمير أبو ظبي ورئيس الإمارات العربية المتحدة في 2022. وكما يظهر من الحرب الإسرائيلية على غزة، لا يزال التباين بين الطرفين في السياسة الخارجية فاقعاً. تمارس قطر دوراً محورياً في تنظيم المفاوضات بين “حماس” وإسرائيل، بمشاركة مصر والولايات المتحدة، حول وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى. 

في المقابل، تنشط الإمارات في الإعداد لـ”اليوم التالي” بالتنسيق مع إسرائيل والولايات المتحدة. وتُظهر التقارير أنّ اليوم التالي الذي يتصوّرونه هو يومٌ تتولى فيه إدارة فلسطينية “منعشة” (حسب تعبير جو بايدن) السلطة في غزة تحت السيطرة الإسرائيلية والأميركية، مع نشر قوات حفظ سلام من الإمارات ومصر والمغرب.

على مستوى ظاهريّ، يستندُ الدوران المختلفان للإمارتين في غزة إلى العلاقات المختلفة لكلّ منهما مع الفاعلين الفلسطينيين. كانت قطر ولا تزال من أكبر مموّلي إدارة “حماس” في قطاع غزة، وكي تحافظ على علاقتها الوثيقة مع المنظمة، استضافت على أراضيها قيادة “حماس” السياسية في المنفى. في المقابل، استعانت أبو ظبي منذ زمن طويل بمشورة منفي فلسطيني آخر، هو محمد دحلان، العدو اللدود لـ”حماس” عندما كان لا يزال يقطن في قطاع غزة. ومن المعلوم أن دحلان كان نظّم بصفته رئيساً لقوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية، وبالتعاون مع البيت الأبيض في عهد جورج دبليو بوش، محاولة فاشلة لإطاحة “حماس” بالقوة من السلطة في غزة في عام 2007. وبعدما اختلف لاحقاً مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس بشأن خطط خلافته، لجأ إلى أبو ظبي، حيث أصبح مذاك مستشاراً لمحمد بن زايد.

لكن على مستوى أعمق، يتعلق الأمر بالموقفين المتناقضين من جماعة الإخوان المسلمين وفرعها الفلسطيني “حماس”. في هذا الشأن، تضطلع مسائل الدين والثقافة بدور معين، إلى حد ما على الأقل. يتبنى سُنَّة قطر المذهب المتشدّد المعروف بتسمية “الوهّابية”. وقد كانت الوهّابية القطرية أكثر ليناً بلا شك من النسخة السعودية قبل صعود محمد بن سلمان، إلّا أنّها أكثر تشدداً من نسخة الإسلام السُنّي الشائعة في الإمارات العربية المتحدة. فقد يساهم التقارب الديني الأيديولوجي بين كل من السعوديين والقطريين، من جهة، وجماعة الإخوان المسلمين، من جهة أخرى، في تفسير كون الدوحة خَلَفت الرياض في دور الراعي الرئيسي للجماعة. وقد تولّى حمد بن خليفة هذا الدور بعدما أدارت الرياض ظهرها للإخوان بسبب معارضتهم التدخل الأميركي في العراق في عام 1990.

بيد أنّ التفسير بالألفة الدينية محدود القيمة. فهو يطرح تساؤلاً عمّا يدفع قطر الصغيرة إلى المخاطرة باستفزاز جارتها السعودية الأكبر والأقوى عبر إنقاذ من أرادت الأخيرة معاقبتهم؟ ولماذا تنخرط قطر في السياسة الإقليمية بنوعٍ من المجازفة من خلال رعايتها الشبكة الإقليمية لجماعة الإخوان المسلمين وتعزيز نفوذ الأخيرة الإقليمي من خلال قناة “الجزيرة” التلفزيونية، وهي شبكة قنوات فضائية جاءت في الأساس مشروعاً سياسياً مشتركاً بين قطر وجماعة الإخوان المسلمين؟ قد يساهم التباين في المواقف المتناقضة من الدين بين أبو ظبي والإخوان المسلمين في تفسير الكراهية بينهما. لكن، مرة أخرى، هذا تفسيرٌ محدود القيمة، لا سيما أنّ المملكة السعودية كانت تطبّق حتى عام 2017 تفسيراً للإسلام أكثر تشدداً من تفسير كلّ من قطر والإخوان المسلمين – ومع ذلك، حافظت الإمارات على علاقات أخوية مع جارتها السعودية.

ذلك أن ثمة متغيراً أهم من الدين في تفسير القطيعة بين أبو ظبي وقطر إزاء جماعة الإخوان المسلمين، هو الاختلافات السياسية بين الطرفين. فمحمد بن زايد، المؤيّد لشكل قمعي جداً من السلطوية، يؤيد الحكم الهرَمي المناهض للديمقراطية ويراه الأنسب للشرق الأوسط. وهو يرى جماعة الإخوان المسلمين مصدراً لعدم الاستقرار والاضطراب، لا سيما أنها لعبت دوراً بارزاً في الانتفاضات العربية لعام 2011. في المقابل، كان حمد بن خليفة، وإنْ لم يكن أكثر انفتاحاً داخل إمارته، يرى في رعايته جماعة الإخوان المسلمين وسيلةً لتعزيز نفوذ قطر السياسي، وقد اغتنم فرصة القطيعة السعودية معها.

بالطبع، تصطدم أبو ظبي والدوحة في مجالات تتجاوز غزة بكثير، وفي قضايا تتعدّى مصير جماعة الإخوان المسلمين. ويمكن إرجاع خلافاتهما إلى اتّباعهما استراتيجيات على طرفي نقيض. كقاعدة عامة، تتحوّط قطر من مخاطرها السياسية عبر تعزيز علاقاتها مع أوسع طيف ممكن من القوى السياسية، سواء كانت دولاً أو جماعات، كما يظهر في تعاملات الدوحة مع طيف يبدأ من إسرائيل والولايات المتحدة ويصل إلى إيران وحلفائها الإقليميين، ويشمل جماعات متطرفة مثل طالبان وتنظيم القاعدة. قاعدة أخرى تتحكّم بسياسة قطر، هي أنها تميل إلى التحفظ في تحركاتها العسكرية خارج حدودها، فقواتها لم تشارك في عمليات إلّا ضمن مبادرات أوسع نطاقاً تابعة لمجلس التعاون الخليجي أو الولايات المتحدة، وذلك رغبةً منها في البقاء بعيدة عن الأنظار في هذا المجال. فقد شاركت قطر في حملة الناتو على القذافي في عام 2011، وانضمت في البداية إلى التدخل الذي قادته السعودية في اليمن عام 2015، لكنها انسحبت منه في عام 2017 بعدما قاطعتها بعض دول مجلس التعاون الخليجي ودول عربية وإسلامية أخرى، بقيادة الإمارات والمملكة السعودية، في محاولة لإرغامها على قطع علاقاتها مع جماعة الإخوان المسلمين. 

وعلى النقيض، اكتسبت الإمارات لقب “إسبرطة الصغرى” في أوساط البنتاغون نظراً الى فعاليتها العسكرية، وهي فعالية تحولت في نهاية المطاف إلى رعونة وعدوانية في التدخلات الإقليمية. ولئن مالت الإمارات إلى الحذر بعض الشيء في السنوات الأخيرة، فإنّ تبنّيها هذا النهج المغامر الذي جلبها مراراً إلى تحالفات مع روسيا بقيادة فلاديمير بوتين، جاء نتيجةً مباشرة لقيادة محمد بن زايد. وقد شاركت أبو ظبي في التدخل السعودي في اليمن منذ البداية، وحاولت السيطرة في عام 2018 على جزيرة سقطرى اليمنية ذات الموقع الاستراتيجي في الممر المؤدي إلى البحر الأحمر، إلى أن أُحبِطت هذه المحاولة بتدخل سعودي مضاد على الجزيرة، أجبر أبو ظبي على التراجع، فأكملت الإمارات سحب قواتها من اليمن بعد عامين. ويتواصل نهج محمد بن زايد بوضوح في دعم الإمارات خليفة حفتر، زبون روسيا المفضل في ليبيا، ودعمها المتعدد الأوجه لقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (المعروف بحميدتي) في السودان.

أسباب المنافسة

يترك ذلك كله سؤالنا الأول مفتوحاً: من أين تأتي هذه الخيارات المتباينة في صنع السياسة الخارجية؟

في نهاية المطاف، لا بد من أن نُرجع جزءاً كبيراً من الاختلاف إلى شخصيتَي وطموحات مهندسَيّ السياسة الخارجية المعاصرة في كل من قطر والإمارات: حمد بن خليفة ومحمد بن زايد. يعود ثقل هذين الفردين في المقام الأول إلى الطبيعة الأوتوقراطية للنظامين السياسيين في كل من الدولتين. كما ينبع من عاملين تنفرد بهما طبيعتهما الريعية. يتمثَّل العامل الأول في طبيعتهما الميراثية. في الإمارات وقطر، تحلُّ سيطرة العائلة الموسّعة محل أي هيمنة “طبقية” تقليدية: فالطبقة الرأسمالية المحلية – وتحديداً فئتها التي لا تنتمي إلى العائلة الحاكمة – تخضع تماماً للعائلة الحاكمة. أما العامل الثاني، فيتمثَّل في الأمان الاقتصادي الذي توفره الموارد الطبيعية، وخصوصاً المحروقات. وهذه الخصوصية تمنح حكّام هذين النظامين مرونة كبيرة، إذ تعفيهم (جزئياً) من حتمية “العقلانية الاقتصادية”، وهي حتمية تُقيّد حكاّم الدول الرأسمالية التقليدية.

لكن، وعلى رغم تحررهم النسبي من القيود الاقتصادية، يخضع حكّام قطر والإمارات في إدارة شؤونهم لقيد غير اقتصادي قوي. فرئاستهم لدول غنية جداً لكنّها صغيرة، تجعلهم في موقفٍ هش، عرضة للأطماع المعادية. ولهذا، يحتاج كلا النظامين إلى حماية قوة عظمى لتحصين ذاته من الأخ الأكبر في مجلس التعاون الخليجي، المملكة السعودية، التي يخشى كلاهما طموحاتها على أراضيهما. في الواقع، يعود الفضل في وجود الإمارات وقطر كدولتين مستقلتين إلى الهيمنة البريطانية على الخليج. ولولا تلك الهيمنة، لكان السعوديون قد ضمّوا أراضيهما إلى المملكة التي بنوها قبل قرن من الزمان بالتوسع العسكري. ومع تراجع الهيمنة البريطانية على الخليج بعد إغلاق قناة السويس في عام 1967، بدأت بصورة طبيعية عملية البحث عن حامٍ جديد، وهي ضرورة تعاظمت بعد غزو العراق للكويت عام 1990. وبما أنّ التدخل العسكري الأميركي هو ما أتاح إعادة أمير الكويت إلى عرشه، كان من المحتوم أن تصبح الولايات المتحدة القوة المهيمنة الإقليمية التي لم ترَ أبو ظبي وقطر بداً من خطب ودّها. في الواقع، يُعَدُّ التودّد لواشنطن العامل المشترك الوحيد الكبير بين الإمارتين في السياسة الخارجية.

خصومة تخدم الإمبراطورية

السؤال التالي الذي يحتاج إلى إجابة يتعلق بتبعات هذا الارتباط الثلاثي بين الإمارات وقطر والولايات المتحدة على الشؤون الإقليمية والعالمية. أيّ فائدة، إنْ وجدت، تجنيها واشنطن من طلب هذين المتنافسَيْن الحماية منها؟ وماذا تكشف تعاملاتهما مع القوة المهيمنة عن اختيارات واشنطن السياسية الإقليمية ومسارها المستقبلي؟

يجب أن نبدأ من النظر في كيفية إدماج الإمارات وقطر في نظام الهيمنة الإقليمي الذي تديره واشنطن. فالإمارتان منخرطتان، بدرجات متفاوتة، في مساحة الاختلاف في الرأي التي تحرّك مجتمع السياسة الخارجية الأميركية وتُقسم الدوائر الحاكمة. وعلى عكس الرأي التقليدي القائل بميل السياسة الخارجية في الولايات المتحدة إلى الخضوع للثنائية الحزبية، فقد برزت على الدوام اختلافات مهمة في هذا المجال، سواء بين الديمقراطيين والجمهوريين، أو بشكل أفقي، بين مختلف جماعات الرأي أو الضغط داخل كلَي الحزبين.

ونجد في الجدل الساخن حول مستقبل الناتو والتعامل مع روسيا ما بعد الاتحاد السوفياتي في التسعينات مثالاً نموذجياً عن كيفية تصادم وجهات النظر المختلفة في السياسة الخارجية داخل المؤسسة الأميركية. كما نجد في الخلاف حول الانتفاضات العربية منذ عام 2011 مثالاً آخر. وفي هذا المثال الأخير، تتوافق اختلافات أبو ظبي وقطر مع الاختلافات داخل المؤسسة الأميركية.

فقد مثَّلت الإمارات وقطر ودعمت البديلين اللذين أخذتهما واشنطن في الاعتبار لمواجهة ما غدا يُعرف باسم “الربيع العربي”. دعمت قطر خيار الاحتواء من خلال جماعة الإخوان المسلمين، بينما دفعت الإمارات (ومعها المملكة السعودية) نحو الثورة المضادة وفق النهج المحافظ التقليدي، عدا في ليبيا، حيث كان القذافي يزعجهما منذ زمن طويل. وقد اضطلعت الإمارات المتحدة والمملكة السعودية بدور حاسم في مساعدة النظام الملكي البحريني على قمع الانتفاضة التي هددت عرشه، في حين اشتُبِه في تعاطف قطر مع المعارضة. وبعد ذلك، اضطرت الإمارات والمملكة إلى دعم المعارضة السورية حين أخذت الحرب الأهلية في سوريا طابعاً طائفياً حاداً. فالسعودية (وهي التي اعتمدت طويلاً على الطائفية السنية المناهضة للشيعة كأداة أيديولوجية رئيسية لمواجهة نفوذ الجمهورية الإسلامية الإيرانية)، لم تستطع تجنب الوقوف مع المعارضة السُنّية ضد النظام “العلوي” المدعوم من إيران بقيادة بشار الأسد. ومع ذلك، انتهى الأمر بالمتنافسين السياسيّين الخليجيّين إلى دعم فصائل متنافسة من المعارضة في كل من ليبيا وسوريا: الإمارات مقابل قطر في ليبيا، والمملكة السعودية مقابل قطر في سوريا. وبينما اختارت الرياض البقاء على الهامش في ليبيا، ظلت أبو ظبي بعيدة نسبياً عن التدخل العسكري في سوريا.

فضّلت إدارة أوباما بوضوح الخيار القطري، واعتمدت على الدوحة للتوسط مع فروع الإخوان المسلمين المحلية في الدول المتأثرة بالاضطرابات الإقليمية، فأوكلت إليها مهمة إقناع الجماعة بالتعاون مع واشنطن. كما شجّعت الإدارة أيضاً، حيثما أمكن، على التوصل إلى تسويات بين قوى النظام القديم والمعارضة التي كان للإخوان المسلمين فيها دور قيادي أو مهيمن. وقد حققت هذه السياسة بعض النجاح في المغرب واليمن (ولاحقاً في تونس). لكنّها فشلت فشلاً ذريعاً في مصر، حيث أشار الانقلاب العسكري على الرئيس الإخواني المنتخب ديمقراطياً الذي حصل في عام 2013، بعد عام واحد من انتخابه، إلى هزيمة الخيار القطري. أما إدارة ترامب، فقد فضّلت المحور الإماراتي-السعودي وأيّدته. هكذا، كانت الرياض مقصد أول زيارة رئاسية لترامب خارج بلاده، وقد اجتمع فيها حلفاء واشنطن العرب للقائه في أيار/ مايو 2017، إلى جانب حكام دول إسلامية أخرى. وبعد أسبوعين من تلك الزيارة، نظّم المحور السعودي-الإماراتي مقاطعة إقليمية لقطر، فاقمها حصار على شبه الجزيرة، لم ينتهِ إلّا قبل أسبوعين من تخلّي ترامب عن السلطة في كانون الثاني/ يناير 2021 لصالح نائب أوباما السابق، جو بايدن.

انعكس توافق الاختلافات داخل مجلس التعاون الخليجي مع الاختلافات داخل الدوائر الحاكمة في الولايات المتحدة إلى اختلافٍ في اصطفاف الأطراف الخليجية في السياسة الداخلية الأميركية. كانت علاقة الدوحة مع إدارة أوباما أفضل بكثير من علاقة أبو ظبي والرياض معها، وزادت من حدة هذا الاختلاف المواقف المتباينة تجاه إيران. ففي حين رحبت قطر بالاتفاق النووي الذي أبرمته إدارة أوباما مع طهران في عام 2015، كانت السعودية والإمارات غاضبتين منه. وعلى النقيض، ابتهج محور أبو ظبي-الرياض حين وصل دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، بل ثمة إشارات إلى مساعدة الأخير على الوصول إلى المنصب عبر تقديم دعم مالي غير مشروع لحملته الانتخابية. (مارس سفير الإمارات في واشنطن دوراً محورياً في بناء العلاقات مع حملة ترامب في عام 2016، ما يفسر امتلاك أبو ظبي العلاقة الأكثر تميزاً بين جميع الحكومات العربية مع إدارة ترامب.) وكان الإنجاز في السياسة الخارجية الذي تفاخر به دونالد ترامب بصورة خاصة – والذي جاء في توقيت مريح وسط حملته الرئاسية لعام 2020، بحيث عززها – متمثلاً باتفاقيات أبراهام، التي فتحت الباب أمام إقامة علاقات دبلوماسية رسمية بين إسرائيل وكل من الإمارات المتحدة والبحرين، ثم تلاهما بوقت قصير المغرب والمجلس العسكري السوداني. وقد كانت أبو ظبي مهندس هذا الإنجاز. أما إدارة بايدن فقد أعادت خلط الأوراق، إذ أحيت العلاقة المميزة مع قطر. وفي المجمل، يمكن القول إن كلاً من أبو ظبي والرياض، حالهما حال حكومة بنيامين نتانياهو في إسرائيل، تمنى فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة، أما الدوحة فلا شك في أنها فضلت كامالا هاريس.

وبغض النظر عن كيفية اصطفاف المعسكرات داخل واشنطن، فالحقيقة الثابتة أنّ لكلٍ من أبو ظبي وقطر أدواراً مفيدة للولايات المتحدة. فإن التباين الحاد في استراتيجيات السياسة الخارجية بين الإمارتين، إنما يُشكّل في الواقع نعمة لسياسة واشنطن في منطقة الشرق الأوسط الأوسع. ففي النهاية، تزيد مواقعهما المتعارضة من مروحة الخيارات الإقليمية التي بإمكان واشنطن الاستفادة منها. فحتى عندما كان ترامب يغازل الإمارات خلال ولايته الأولى، ظل بوسعه الاعتماد على قطر للتوسط في المفاوضات مع طالبان، ما مكّن الولايات المتحدة في النهاية من الانسحاب من المستنقع الأفغاني. وكما جاء في بداية هذه الدراسة، اعتمدت إدارة بايدن على كلّ من قطر وأبو ظبي في تعاملها مع العدوان الإسرائيلي على غزة. 

في المحصلة، يوفر اتباع الإمارتين مسارات متباينة فرصاً متضافرة تستفيد منها الولايات المتحدة، ويعزز تنافسهما في الواقع مصالح الهيمنة الأميركية.

عمّار المأمون - فراس دالاتي | 15.02.2025

“هيئة تحرير الشام” بعيون المخابرات السوريّة: “التوك توك” الذي تحوّل إلى حوّامة!

التنوع في التقارير و"المصادر" الاستخباراتيّة يكشف أن أعداء النظام السوري كثر، ماسونيون، إرهابيون، شتّامو الأسد، لكن نظرياً أبرز "الأعداء" هم " هيئة تحرير الشام" ، التي أحاطت بها من وجهة نظر المخابرات الكثير من الفرضيات التي يصل بعضها إلى مستوى نظريات المؤامرة !
24.01.2025
زمن القراءة: 12 minutes

بغض النظر عن كيفية اصطفاف المعسكرات داخل واشنطن، فالحقيقة الثابتة أنّ لكلٍ من أبو ظبي وقطر أدواراً مفيدة للولايات المتحدة. فإن التباين الحاد في استراتيجيات السياسة الخارجية بين الإمارتين، إنما يُشكّل في الواقع نعمة لسياسة واشنطن في منطقة الشرق الأوسط الأوسع.

أبو ظبي وقطر هما الأخَوان العدوّان في مجلس التعاون الخليجي. تتجلى القرابة بينهما في مجالات عدة. فلكلتا الإمارتين سمات سكانية متقاربة – 3.8 مليون في الأولى و2.8 مليون نسمة في الثانية، مع أقلية من المواطنين (20 في المئة في أبو ظبي، و12 في المئة في قطر). كلٌ منهما ثريٌّ ثراءً مهولاً. في 2023، بلغ إجمالي الناتج المحلي لأبو ظبي 310 مليارات دولار، ونصيب الفرد 81,579 دولاراً. أما قطر، فقد بلغ إجمالي ناتجها المحلي في السنة ذاتها 234 مليار دولار، ونصيب الفرد 83,571 دولاراً. على المستوى المؤسسي، لكلّ من البلدين صناديق سيادية تدير “فائضه” المكتسب من صادراته من النفط والغاز. في الواقع، لدى أبو ظبي ثلاثةٌ منها، ويمتلك أكبرها (جهاز أبو ظبي للاستثمار) إجمالي أصول يقدَّر بـ993 مليار دولار. أما جهاز قطر للاستثمار، فطرفٌ قوي في الأسواق المالية العالمية وإن كان أصغر حجماً بإجمالي أصول يبلغ 526 مليار دولار. وعموماً، يتشابه السلوك الاقتصادي لكلّ منهما إلى حدّ كبير. فكلتا الإمارتين مساهمة رئيسية في إدماج مجلس التعاون الخليجي في دوائر الرأسمالية العالمية والإقليمية، ويسيطر عليهما المنطق الريعي و”التفاني في خدمة إمبراطورية رأس المال” على حد تعبير أحد المحللين.

كما تتشابه أبو ظبي وقطر في مسائل الأمن في بعض الجوانب الأساسية. فكلتاهما تخصص مبالغ هائلة للإنفاق العسكري على غرار دول مجلس التعاون الأخرى. في عام 2023، بلغت حصة الفرد من الإنفاق العسكري في قطر 3,562 دولاراً، بينما بلغت في الإمارات العربية المتحدة 2,080 دولاراً، كانت الحصة الأكبر فيها من إنفاق أبو ظبي. وللمقارنة، تُقدر حصة الفرد من الإنفاق العسكري في عام 2023 في إيران بـ85 دولاراً، وقد بلغت الحصة في إسرائيل في العام نفسه 2,120 دولاراً، بعدما رفعتها حربها على غزة، أما في روسيا، وهي في حالة حرب أيضاً، فقد بلغت 524 دولاراً. في الولايات المتحدة، الدولة الكبرى الوحيدة القادرة على مواكبة الإسراف العسكري لدول الخليج على أساس الفرد، بلغت حصة الفرد من إنفاقها العسكري 2,666 دولاراً. ويرتبط كلّ من أبو ظبي وقطر برباط وثيق على الصعيد العسكري مع الكتلة الجيوسياسية الغربية. فغالبية وارداتهما العسكرية تأتي من الولايات المتحدة وأوروبا (المورد الأوروبي الرئيسي هو فرنسا). وبالإضافة إلى إتاحة مرافئهما للقوات البحرية الأميركية، تستضيف الإمارتان أيضاً القوات الجوية الأميركية وتغطيان جزءاً كبيراً من تكاليف تشغيلها المحلية. يوجد حالياً 5 آلاف عسكري أميركي في قاعدة الظفرة الجوية في الإمارات، حيث يتمركز الجناح 380 التابع للقيادة المركزية للقوات الجوية الأميركية. في المقابل، تستضيف قطر 10 آلاف عسكري أميركي في قاعدة العديد الجوية، أكبر منشأة عسكرية أميركية في الشرق الأوسط، وتضم المقر الأمامي للقيادة المركزية الأميركية والجناح 379 التابع للقيادة المركزية للقوات الجوية الأميركية. في مقابل ذلك، تمكّنت الإمارتان أخيراً من مأسسة تعاونهما الدفاعي مع الولايات المتحدة. ففي عام 2019، في عهد إدارة ترامب الأولى، تحوّلت التعاملات الإماراتية الطويلة مع واشنطن إلى اتفاقية تعاون دفاعي. ولم تشأ قطر أن تتفوق عليها جارتها، فحصلت لنفسها في عام 2022 من إدارة بايدن على تصنيف رسمي بأنّها “حليف رئيسي من خارج الناتو”.

بوتقة غزّة

على الرغم من القواسم المشتركة الكثيرة بين أبو ظبي وقطر، تمضي مساراتهما في السياسة الخارجية كلّ في اتجاه. ويعود هذا التباعد إلى عهد حمد بن خليفة آل ثاني في الدوحة وصعود محمد بن زايد آل نهيان في أبو ظبي. كان الأول أمير قطر من عام 1995 حتى عام 2013، سلّم بعدها الإمارة لابنه تميم. أما الثاني، فقد عُيّن ولي عهد أبو ظبي في 2004، وأصبح حاكم الإمارة الفعلي في 2014، ثم خلف رسمياً شقيقه الأكبر، الذي عانى من مرض طويل، في منصبي أمير أبو ظبي ورئيس الإمارات العربية المتحدة في 2022. وكما يظهر من الحرب الإسرائيلية على غزة، لا يزال التباين بين الطرفين في السياسة الخارجية فاقعاً. تمارس قطر دوراً محورياً في تنظيم المفاوضات بين “حماس” وإسرائيل، بمشاركة مصر والولايات المتحدة، حول وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى. 

في المقابل، تنشط الإمارات في الإعداد لـ”اليوم التالي” بالتنسيق مع إسرائيل والولايات المتحدة. وتُظهر التقارير أنّ اليوم التالي الذي يتصوّرونه هو يومٌ تتولى فيه إدارة فلسطينية “منعشة” (حسب تعبير جو بايدن) السلطة في غزة تحت السيطرة الإسرائيلية والأميركية، مع نشر قوات حفظ سلام من الإمارات ومصر والمغرب.

على مستوى ظاهريّ، يستندُ الدوران المختلفان للإمارتين في غزة إلى العلاقات المختلفة لكلّ منهما مع الفاعلين الفلسطينيين. كانت قطر ولا تزال من أكبر مموّلي إدارة “حماس” في قطاع غزة، وكي تحافظ على علاقتها الوثيقة مع المنظمة، استضافت على أراضيها قيادة “حماس” السياسية في المنفى. في المقابل، استعانت أبو ظبي منذ زمن طويل بمشورة منفي فلسطيني آخر، هو محمد دحلان، العدو اللدود لـ”حماس” عندما كان لا يزال يقطن في قطاع غزة. ومن المعلوم أن دحلان كان نظّم بصفته رئيساً لقوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية، وبالتعاون مع البيت الأبيض في عهد جورج دبليو بوش، محاولة فاشلة لإطاحة “حماس” بالقوة من السلطة في غزة في عام 2007. وبعدما اختلف لاحقاً مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس بشأن خطط خلافته، لجأ إلى أبو ظبي، حيث أصبح مذاك مستشاراً لمحمد بن زايد.

لكن على مستوى أعمق، يتعلق الأمر بالموقفين المتناقضين من جماعة الإخوان المسلمين وفرعها الفلسطيني “حماس”. في هذا الشأن، تضطلع مسائل الدين والثقافة بدور معين، إلى حد ما على الأقل. يتبنى سُنَّة قطر المذهب المتشدّد المعروف بتسمية “الوهّابية”. وقد كانت الوهّابية القطرية أكثر ليناً بلا شك من النسخة السعودية قبل صعود محمد بن سلمان، إلّا أنّها أكثر تشدداً من نسخة الإسلام السُنّي الشائعة في الإمارات العربية المتحدة. فقد يساهم التقارب الديني الأيديولوجي بين كل من السعوديين والقطريين، من جهة، وجماعة الإخوان المسلمين، من جهة أخرى، في تفسير كون الدوحة خَلَفت الرياض في دور الراعي الرئيسي للجماعة. وقد تولّى حمد بن خليفة هذا الدور بعدما أدارت الرياض ظهرها للإخوان بسبب معارضتهم التدخل الأميركي في العراق في عام 1990.

بيد أنّ التفسير بالألفة الدينية محدود القيمة. فهو يطرح تساؤلاً عمّا يدفع قطر الصغيرة إلى المخاطرة باستفزاز جارتها السعودية الأكبر والأقوى عبر إنقاذ من أرادت الأخيرة معاقبتهم؟ ولماذا تنخرط قطر في السياسة الإقليمية بنوعٍ من المجازفة من خلال رعايتها الشبكة الإقليمية لجماعة الإخوان المسلمين وتعزيز نفوذ الأخيرة الإقليمي من خلال قناة “الجزيرة” التلفزيونية، وهي شبكة قنوات فضائية جاءت في الأساس مشروعاً سياسياً مشتركاً بين قطر وجماعة الإخوان المسلمين؟ قد يساهم التباين في المواقف المتناقضة من الدين بين أبو ظبي والإخوان المسلمين في تفسير الكراهية بينهما. لكن، مرة أخرى، هذا تفسيرٌ محدود القيمة، لا سيما أنّ المملكة السعودية كانت تطبّق حتى عام 2017 تفسيراً للإسلام أكثر تشدداً من تفسير كلّ من قطر والإخوان المسلمين – ومع ذلك، حافظت الإمارات على علاقات أخوية مع جارتها السعودية.

ذلك أن ثمة متغيراً أهم من الدين في تفسير القطيعة بين أبو ظبي وقطر إزاء جماعة الإخوان المسلمين، هو الاختلافات السياسية بين الطرفين. فمحمد بن زايد، المؤيّد لشكل قمعي جداً من السلطوية، يؤيد الحكم الهرَمي المناهض للديمقراطية ويراه الأنسب للشرق الأوسط. وهو يرى جماعة الإخوان المسلمين مصدراً لعدم الاستقرار والاضطراب، لا سيما أنها لعبت دوراً بارزاً في الانتفاضات العربية لعام 2011. في المقابل، كان حمد بن خليفة، وإنْ لم يكن أكثر انفتاحاً داخل إمارته، يرى في رعايته جماعة الإخوان المسلمين وسيلةً لتعزيز نفوذ قطر السياسي، وقد اغتنم فرصة القطيعة السعودية معها.

بالطبع، تصطدم أبو ظبي والدوحة في مجالات تتجاوز غزة بكثير، وفي قضايا تتعدّى مصير جماعة الإخوان المسلمين. ويمكن إرجاع خلافاتهما إلى اتّباعهما استراتيجيات على طرفي نقيض. كقاعدة عامة، تتحوّط قطر من مخاطرها السياسية عبر تعزيز علاقاتها مع أوسع طيف ممكن من القوى السياسية، سواء كانت دولاً أو جماعات، كما يظهر في تعاملات الدوحة مع طيف يبدأ من إسرائيل والولايات المتحدة ويصل إلى إيران وحلفائها الإقليميين، ويشمل جماعات متطرفة مثل طالبان وتنظيم القاعدة. قاعدة أخرى تتحكّم بسياسة قطر، هي أنها تميل إلى التحفظ في تحركاتها العسكرية خارج حدودها، فقواتها لم تشارك في عمليات إلّا ضمن مبادرات أوسع نطاقاً تابعة لمجلس التعاون الخليجي أو الولايات المتحدة، وذلك رغبةً منها في البقاء بعيدة عن الأنظار في هذا المجال. فقد شاركت قطر في حملة الناتو على القذافي في عام 2011، وانضمت في البداية إلى التدخل الذي قادته السعودية في اليمن عام 2015، لكنها انسحبت منه في عام 2017 بعدما قاطعتها بعض دول مجلس التعاون الخليجي ودول عربية وإسلامية أخرى، بقيادة الإمارات والمملكة السعودية، في محاولة لإرغامها على قطع علاقاتها مع جماعة الإخوان المسلمين. 

وعلى النقيض، اكتسبت الإمارات لقب “إسبرطة الصغرى” في أوساط البنتاغون نظراً الى فعاليتها العسكرية، وهي فعالية تحولت في نهاية المطاف إلى رعونة وعدوانية في التدخلات الإقليمية. ولئن مالت الإمارات إلى الحذر بعض الشيء في السنوات الأخيرة، فإنّ تبنّيها هذا النهج المغامر الذي جلبها مراراً إلى تحالفات مع روسيا بقيادة فلاديمير بوتين، جاء نتيجةً مباشرة لقيادة محمد بن زايد. وقد شاركت أبو ظبي في التدخل السعودي في اليمن منذ البداية، وحاولت السيطرة في عام 2018 على جزيرة سقطرى اليمنية ذات الموقع الاستراتيجي في الممر المؤدي إلى البحر الأحمر، إلى أن أُحبِطت هذه المحاولة بتدخل سعودي مضاد على الجزيرة، أجبر أبو ظبي على التراجع، فأكملت الإمارات سحب قواتها من اليمن بعد عامين. ويتواصل نهج محمد بن زايد بوضوح في دعم الإمارات خليفة حفتر، زبون روسيا المفضل في ليبيا، ودعمها المتعدد الأوجه لقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (المعروف بحميدتي) في السودان.

أسباب المنافسة

يترك ذلك كله سؤالنا الأول مفتوحاً: من أين تأتي هذه الخيارات المتباينة في صنع السياسة الخارجية؟

في نهاية المطاف، لا بد من أن نُرجع جزءاً كبيراً من الاختلاف إلى شخصيتَي وطموحات مهندسَيّ السياسة الخارجية المعاصرة في كل من قطر والإمارات: حمد بن خليفة ومحمد بن زايد. يعود ثقل هذين الفردين في المقام الأول إلى الطبيعة الأوتوقراطية للنظامين السياسيين في كل من الدولتين. كما ينبع من عاملين تنفرد بهما طبيعتهما الريعية. يتمثَّل العامل الأول في طبيعتهما الميراثية. في الإمارات وقطر، تحلُّ سيطرة العائلة الموسّعة محل أي هيمنة “طبقية” تقليدية: فالطبقة الرأسمالية المحلية – وتحديداً فئتها التي لا تنتمي إلى العائلة الحاكمة – تخضع تماماً للعائلة الحاكمة. أما العامل الثاني، فيتمثَّل في الأمان الاقتصادي الذي توفره الموارد الطبيعية، وخصوصاً المحروقات. وهذه الخصوصية تمنح حكّام هذين النظامين مرونة كبيرة، إذ تعفيهم (جزئياً) من حتمية “العقلانية الاقتصادية”، وهي حتمية تُقيّد حكاّم الدول الرأسمالية التقليدية.

لكن، وعلى رغم تحررهم النسبي من القيود الاقتصادية، يخضع حكّام قطر والإمارات في إدارة شؤونهم لقيد غير اقتصادي قوي. فرئاستهم لدول غنية جداً لكنّها صغيرة، تجعلهم في موقفٍ هش، عرضة للأطماع المعادية. ولهذا، يحتاج كلا النظامين إلى حماية قوة عظمى لتحصين ذاته من الأخ الأكبر في مجلس التعاون الخليجي، المملكة السعودية، التي يخشى كلاهما طموحاتها على أراضيهما. في الواقع، يعود الفضل في وجود الإمارات وقطر كدولتين مستقلتين إلى الهيمنة البريطانية على الخليج. ولولا تلك الهيمنة، لكان السعوديون قد ضمّوا أراضيهما إلى المملكة التي بنوها قبل قرن من الزمان بالتوسع العسكري. ومع تراجع الهيمنة البريطانية على الخليج بعد إغلاق قناة السويس في عام 1967، بدأت بصورة طبيعية عملية البحث عن حامٍ جديد، وهي ضرورة تعاظمت بعد غزو العراق للكويت عام 1990. وبما أنّ التدخل العسكري الأميركي هو ما أتاح إعادة أمير الكويت إلى عرشه، كان من المحتوم أن تصبح الولايات المتحدة القوة المهيمنة الإقليمية التي لم ترَ أبو ظبي وقطر بداً من خطب ودّها. في الواقع، يُعَدُّ التودّد لواشنطن العامل المشترك الوحيد الكبير بين الإمارتين في السياسة الخارجية.

خصومة تخدم الإمبراطورية

السؤال التالي الذي يحتاج إلى إجابة يتعلق بتبعات هذا الارتباط الثلاثي بين الإمارات وقطر والولايات المتحدة على الشؤون الإقليمية والعالمية. أيّ فائدة، إنْ وجدت، تجنيها واشنطن من طلب هذين المتنافسَيْن الحماية منها؟ وماذا تكشف تعاملاتهما مع القوة المهيمنة عن اختيارات واشنطن السياسية الإقليمية ومسارها المستقبلي؟

يجب أن نبدأ من النظر في كيفية إدماج الإمارات وقطر في نظام الهيمنة الإقليمي الذي تديره واشنطن. فالإمارتان منخرطتان، بدرجات متفاوتة، في مساحة الاختلاف في الرأي التي تحرّك مجتمع السياسة الخارجية الأميركية وتُقسم الدوائر الحاكمة. وعلى عكس الرأي التقليدي القائل بميل السياسة الخارجية في الولايات المتحدة إلى الخضوع للثنائية الحزبية، فقد برزت على الدوام اختلافات مهمة في هذا المجال، سواء بين الديمقراطيين والجمهوريين، أو بشكل أفقي، بين مختلف جماعات الرأي أو الضغط داخل كلَي الحزبين.

ونجد في الجدل الساخن حول مستقبل الناتو والتعامل مع روسيا ما بعد الاتحاد السوفياتي في التسعينات مثالاً نموذجياً عن كيفية تصادم وجهات النظر المختلفة في السياسة الخارجية داخل المؤسسة الأميركية. كما نجد في الخلاف حول الانتفاضات العربية منذ عام 2011 مثالاً آخر. وفي هذا المثال الأخير، تتوافق اختلافات أبو ظبي وقطر مع الاختلافات داخل المؤسسة الأميركية.

فقد مثَّلت الإمارات وقطر ودعمت البديلين اللذين أخذتهما واشنطن في الاعتبار لمواجهة ما غدا يُعرف باسم “الربيع العربي”. دعمت قطر خيار الاحتواء من خلال جماعة الإخوان المسلمين، بينما دفعت الإمارات (ومعها المملكة السعودية) نحو الثورة المضادة وفق النهج المحافظ التقليدي، عدا في ليبيا، حيث كان القذافي يزعجهما منذ زمن طويل. وقد اضطلعت الإمارات المتحدة والمملكة السعودية بدور حاسم في مساعدة النظام الملكي البحريني على قمع الانتفاضة التي هددت عرشه، في حين اشتُبِه في تعاطف قطر مع المعارضة. وبعد ذلك، اضطرت الإمارات والمملكة إلى دعم المعارضة السورية حين أخذت الحرب الأهلية في سوريا طابعاً طائفياً حاداً. فالسعودية (وهي التي اعتمدت طويلاً على الطائفية السنية المناهضة للشيعة كأداة أيديولوجية رئيسية لمواجهة نفوذ الجمهورية الإسلامية الإيرانية)، لم تستطع تجنب الوقوف مع المعارضة السُنّية ضد النظام “العلوي” المدعوم من إيران بقيادة بشار الأسد. ومع ذلك، انتهى الأمر بالمتنافسين السياسيّين الخليجيّين إلى دعم فصائل متنافسة من المعارضة في كل من ليبيا وسوريا: الإمارات مقابل قطر في ليبيا، والمملكة السعودية مقابل قطر في سوريا. وبينما اختارت الرياض البقاء على الهامش في ليبيا، ظلت أبو ظبي بعيدة نسبياً عن التدخل العسكري في سوريا.

فضّلت إدارة أوباما بوضوح الخيار القطري، واعتمدت على الدوحة للتوسط مع فروع الإخوان المسلمين المحلية في الدول المتأثرة بالاضطرابات الإقليمية، فأوكلت إليها مهمة إقناع الجماعة بالتعاون مع واشنطن. كما شجّعت الإدارة أيضاً، حيثما أمكن، على التوصل إلى تسويات بين قوى النظام القديم والمعارضة التي كان للإخوان المسلمين فيها دور قيادي أو مهيمن. وقد حققت هذه السياسة بعض النجاح في المغرب واليمن (ولاحقاً في تونس). لكنّها فشلت فشلاً ذريعاً في مصر، حيث أشار الانقلاب العسكري على الرئيس الإخواني المنتخب ديمقراطياً الذي حصل في عام 2013، بعد عام واحد من انتخابه، إلى هزيمة الخيار القطري. أما إدارة ترامب، فقد فضّلت المحور الإماراتي-السعودي وأيّدته. هكذا، كانت الرياض مقصد أول زيارة رئاسية لترامب خارج بلاده، وقد اجتمع فيها حلفاء واشنطن العرب للقائه في أيار/ مايو 2017، إلى جانب حكام دول إسلامية أخرى. وبعد أسبوعين من تلك الزيارة، نظّم المحور السعودي-الإماراتي مقاطعة إقليمية لقطر، فاقمها حصار على شبه الجزيرة، لم ينتهِ إلّا قبل أسبوعين من تخلّي ترامب عن السلطة في كانون الثاني/ يناير 2021 لصالح نائب أوباما السابق، جو بايدن.

انعكس توافق الاختلافات داخل مجلس التعاون الخليجي مع الاختلافات داخل الدوائر الحاكمة في الولايات المتحدة إلى اختلافٍ في اصطفاف الأطراف الخليجية في السياسة الداخلية الأميركية. كانت علاقة الدوحة مع إدارة أوباما أفضل بكثير من علاقة أبو ظبي والرياض معها، وزادت من حدة هذا الاختلاف المواقف المتباينة تجاه إيران. ففي حين رحبت قطر بالاتفاق النووي الذي أبرمته إدارة أوباما مع طهران في عام 2015، كانت السعودية والإمارات غاضبتين منه. وعلى النقيض، ابتهج محور أبو ظبي-الرياض حين وصل دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، بل ثمة إشارات إلى مساعدة الأخير على الوصول إلى المنصب عبر تقديم دعم مالي غير مشروع لحملته الانتخابية. (مارس سفير الإمارات في واشنطن دوراً محورياً في بناء العلاقات مع حملة ترامب في عام 2016، ما يفسر امتلاك أبو ظبي العلاقة الأكثر تميزاً بين جميع الحكومات العربية مع إدارة ترامب.) وكان الإنجاز في السياسة الخارجية الذي تفاخر به دونالد ترامب بصورة خاصة – والذي جاء في توقيت مريح وسط حملته الرئاسية لعام 2020، بحيث عززها – متمثلاً باتفاقيات أبراهام، التي فتحت الباب أمام إقامة علاقات دبلوماسية رسمية بين إسرائيل وكل من الإمارات المتحدة والبحرين، ثم تلاهما بوقت قصير المغرب والمجلس العسكري السوداني. وقد كانت أبو ظبي مهندس هذا الإنجاز. أما إدارة بايدن فقد أعادت خلط الأوراق، إذ أحيت العلاقة المميزة مع قطر. وفي المجمل، يمكن القول إن كلاً من أبو ظبي والرياض، حالهما حال حكومة بنيامين نتانياهو في إسرائيل، تمنى فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة، أما الدوحة فلا شك في أنها فضلت كامالا هاريس.

وبغض النظر عن كيفية اصطفاف المعسكرات داخل واشنطن، فالحقيقة الثابتة أنّ لكلٍ من أبو ظبي وقطر أدواراً مفيدة للولايات المتحدة. فإن التباين الحاد في استراتيجيات السياسة الخارجية بين الإمارتين، إنما يُشكّل في الواقع نعمة لسياسة واشنطن في منطقة الشرق الأوسط الأوسع. ففي النهاية، تزيد مواقعهما المتعارضة من مروحة الخيارات الإقليمية التي بإمكان واشنطن الاستفادة منها. فحتى عندما كان ترامب يغازل الإمارات خلال ولايته الأولى، ظل بوسعه الاعتماد على قطر للتوسط في المفاوضات مع طالبان، ما مكّن الولايات المتحدة في النهاية من الانسحاب من المستنقع الأفغاني. وكما جاء في بداية هذه الدراسة، اعتمدت إدارة بايدن على كلّ من قطر وأبو ظبي في تعاملها مع العدوان الإسرائيلي على غزة. 

في المحصلة، يوفر اتباع الإمارتين مسارات متباينة فرصاً متضافرة تستفيد منها الولايات المتحدة، ويعزز تنافسهما في الواقع مصالح الهيمنة الأميركية.