fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

أثينا التي تشبه بيروت ودمشق… ولا تشبههما 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لأثينا جوانب كوزموبوليتية تفوق العاصمتين المشرقيتين، فالسياحة النشطة في هذه المدينة وحدها تعرف أكثر من ستّة ملايين زائر سنوياً، وهذا الرقم يفوق بما لا يُقاس أعداد زائري دمشق وبيروت، خاصّة بعد التدهور السياسي والأمني والاقتصادي في سوريا ولبنان منذ سنوات.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

ما إن نشرت صوراً ومقاطع فيديو قصيرة من أثينا على حسابي الشخصي على تطبيق “إنستغرام”، حتى جاءتني ردود متنوّعة من أصدقاء سوريين ولبنانيين، تُجمع على وجود شبه بين العاصمة اليونانية والعاصمتين السورية واللبنانية، بحسب جنسية صاحب التعليق أو صاحبته.

والحال أنني شخصياً كنت قد استشعرت شيئاً من هذا التماثل خلال ساعات تجوالي الأولى في العاصمة الأوروبية، خاصّة أنني سبق أن أقمت في المدينتين العربيتين، لعقد كامل في دمشق بين ٢٠٠٣ وأوائل ٢٠١٣، ولنحو عام في بيروت في ٢٠١٣.

وبالإضافة إلى روح البلدان المتوسطية، فإن التشابه هذا يعود أيضاً، وعلى الأرجح، إلى تطوّر عمراني غير متّسق عرفته الدول الثلاثة، وعواصمها تحديداً، لأسباب سياسية واقتصادية واجتماعية، وخلال هذا التطوّر، أفرطت هذه البلدان في مركزيتها بالتوازي مع هجرة كثيفة إلى عواصمها.

فأثينا التي كانت قد شهدت نهضة عمرانية في القرن التاسع عشر، محاولةً إحياء النموذج المعماري الإغريقي الكلاسيكي بدعم وضغوط من قوى غربية، عادت لتشهد انحطاطاً عمرانياً سبّبته عوامل متشابكة، أهمها لجوء نحو مليون ونصف المليون يوناني تركي إلى اليونان خلال التبادل السكاني، الذي تلا الحرب اليونانية التركية (١٩١٩- ١٩٢٢) حيث اختار أكثر من ٣٠٠ ألف من هؤلاء الاستقرار في أثينا، فتضاعف عدد سكان المدينة بشكل مُفاجئ، ثم الدمار الواسع الذي شهدته البلاد خلال الحرب العالمية الثانية، ومن ثم الحرب الأهلية التي تلتها. وخلال الخمسينيات من القرن الماضي، وصل إلى أثينا ما يُقدّر بنحو ٥٦٠ ألف مهاجر داخلي، نتيجة تدهور الأوضاع في الأرياف والبلدات الطرفية والمدن الصغيرة، مما أدّى إلى مضاعفة عدد السكان مرة أخرى.

هكذا، ابتكر الأثينيون طريقة خاصّة لحلّ مشكلة التضخّم السكّاني، عُرفت باسم “أنتيباروخي”، التي يمكن ترجمتها تقريبياً باسم “الشقق مقابل الأرض”، ووفق هذا النظام، عُقدت صفقات بين مقاولين وملّاك منازل، بحيث يهدم المقاول بيتاً تقليدياً تملكه أسرة ما، ويُنشئ مكانه مبنى سكنياً من عدّة طوابق، وبينما تحصل الأسرة على شقّتين أو ثلاث شقق من هذا البناء الجديد، كان المقاول يجني أرباحه من بيع الشقق المتبقية لسكّان العاصمة الطارئين الباحثين عن سكن. وكان هذا التوسع العمراني يجري من دون أي تنظيم وتخطيط من مؤسّسات الدولة، وغالباً من دون أي تدخّل منها، بل وبلا عقود مكتوبة في بعض الأحيان!

أذن وذائقة…

التبادل السكّاني الذي أعقب الحرب التركية اليونانية في الربع الأول من القرن العشرين، أسهم بشكل غير مباشر في بزوغ موسيقى يونانية خاصّة، شقّت طريقها بشكل مستقلّ ومتباين عن الإرث الموسيقي العثماني، الذي طبع جزءاً كبيراً من الموسيقى الشرقية (والعربية تحديداً) بطابعه.

فمئات آلاف اللاجئين من الأناضول إلى اليونان، جلبوا معهم إلى جانب ذكرياتهم وخسائرهم ومشاعر الفقد الخاصّة بهم، موسيقاهم. وفي هذه الأجواء المتفاعلة مع البيئات العمّالية والفقيرة في ضواحي المدن، نشأت موسيقى الريبتيكو Rebetico التي باتت جزءاً لا يتجزأ من الثقافة اليونانية الحديثة. وإن كان العديد من المطاعم والحانات الأثينية يقدّم موسيقى حيّة يومية، فإن العثور على مكان يقدّم هذا النوع  الأصيل من الموسيقى، تطلّب جهداً مضاعفاً من البحث.

عثرت على ضالّتي في حانة ومطعم خارج المركز السياحي للمدينة تُدعى ماراثونيتيس، وكان لافتاً بالنسبة لي، أن الأمسية التي تبدأ في التاسعة مساء خلال يوم عمل في منتصف الأسبوع، تستمرّ لنحو الثالثة فجراً، ولم أكن بحاجة إلى أي معرفة باللغة اليونانية، لأستمتع بالغناء الشجيّ المصحوب بالعزف على آلتيْ البزق والغيتار، هذا بينما لم يتردّد عدد من روّاد الحانة بهجر كراسيهم للرقص في المساحات الضيقة بين الطاولات، تحت تأثير الألحان والإفراط في شرب الأوزو.

ومشروب الأوزو المشابه حدّ التطابق لمشروب العرق السوري واللبناني، ليس إلّا نموذجاً واحداً للتقاطعات الكبيرة بين مطابخ هذه البلدان، بتأثير مرجّح للسيطرة العثمانية المديدة على البلقان والمشرق العربي (لا بدّ من الإشارة هنا إلى أن الوجود العثماني في هذه المناطق استمرّ لنحو ٤ قرون كاملة في العاصمتين السورية واللبنانية، ولأقل من ذلك بقليل- قرابة ٣٧٥ عاماً في العاصمة اليونانية).

كانت المصادفة وحدها قد قادتني للعثور على ما اعتبرته جوهرة أثينية مخبّأة غير معروفة للغرباء، فليس بعيداً عن حانة ماراثونيتيس، تناولت عشاءً مبكراً في مطعم صغير يملكه شقيقان مسنّان منذ نحو خمسين عاماً.

 في مطعم توما، على اسم المالك، الشقيق الأكبر، الذي تجاوز الثمانين من العمر، والجالس دائماً بعينين ناعستين على طاولة الإدارة والمحاسبة، تناولت على مدى يومين أطباقاً يونانية متنوّعة لا تختلف كثيراً عن وجبات يومية تصنعها ربّات البيوت السورية أو اللبنانية. أدخلني الشقيق الأصغر مانو، الذي عمل في لندن في سبعينيات القرن الماضي، إلى المطبخ المتواضع لأختار بنفسي ما أشتهي من قائمة طويلة، ضمّت في ما ضمّت: الملفوف المحشي بالأرز، والدجاج المشوي بالفرن مع شرائح البطاطا، وشوربة الجزر والبازلاء بصلصة البندورة، وكذلك الفاصولياء البيضاء بالصلصة نفسها، والفاصولياء الخضراء المطهية بزيت الزيتون، والسبانخ، والبطاطا المقلية، وكرات اللحم المفروم، والكراث مع البطاطا والأرضي شوكي، وغيرها.

وتشتهر أثينا بالطبع بمطاعم السوڤلاكي، أي المشويات المكوّنة من قطع اللحم الصغيرة، الذي عادة ما يكون من لحم الخنزير في قبرص واليونان، وكأن الاعتماد شبه الحصري على لحم الخنزير، أتى كردّ فعل معاكس للعيش قروناً تحت سلطة المسلمين الذين يحرّمون تناوله.

أما أشهر الحلويات اليونانية، فلا يمكن أحياناً تمييزها عن نظيرتها التركية، بما تحمله الأخيرة من تأثيرات على الحلويات السورية واللبنانية، فالعديد من المقاهي والمخابز الأثينية يقدّم البقلاوة (Baklava) والأرز مع الحليب (Rizogalo) والقطايف (Kadifi) والحلاوة بالسميد (Halva) ولوكوماديس، وهي النسخة اليونانية من العوّامة، أي كرات العجين المقلية والمحلّاة بالقطر، والباستيلي، الذي يتطابق مع بعض أنواع الحلوى المصنوعة من السمسم في المشرق العربي، وإلى جانب هذا بالطبع، بالإمكان العثور على أنواع فطائر وحلويات يونانية أقرب إلى الحلويات المصنوعة في فرنسا ودول غربية أخرى.

كوزموبوليتانية مبتورة

ولأثينا جوانب كوزموبوليتية تفوق العاصمتين المشرقيتين، فالسياحة النشطة في هذه المدينة وحدها تعرف أكثر من ستّة ملايين زائر سنوياً، وهذا الرقم يفوق بما لا يُقاس أعداد زائري دمشق وبيروت، خاصّة بعد التدهور السياسي والأمني والاقتصادي في سوريا ولبنان منذ سنوات.

 ولأن المدينة تقع على طريق الهجرة الرئيسي، الذي ينقل مهاجرين من الشرق الأوسط وجنوبي آسيا وشرق وشمال أفريقيا باتجاه دول غرب وشمال غرب أوروبا، فهي كذلك مستقرّ مؤقّت أو دائم لمجتمعات صغيرة ومتفاوتة الحجم من هذه المناطق، ولا يندر أن تمرّ بمحاذاة مطعم باكستاني أو بنغالي مثلاً، ليس بعيداً عن ساحة أومونيا الرئيسة، كما تمكن قراءة لافتات باللغة العربية لبعض المتاجر، التي تستهدف مقيمين من العراق وسوريا ومصر ولبنان وتونس والمغرب وغيرها. ومع ذلك، سجّلت الهجمات ضدّ المهاجرين واللاجئين وأفراد مجتمع الميم أعلى مستوى لها في نحو عقد، العام الفائت، لتقارب المستويات التي سجّلتها في العام ٢٠١٥ عندما كانت اليونان في الخطوط الأمامية لما عُرف بأزمة الهجرة الأوروبية.

كما تمنح عضوية اليونان في الاتحاد الأوروبي آفاقاً أوسع لهذا البلد الصغير نسبياً، فيما أتاحت استضافة أثينا لدورة الألعاب الأولمبية عام ٢٠٠٤، الفرصة لتنشيط مشاريع البنى التحتية والسياحة، بل إن أعمال بناء المترو لتطوير قطاع النقل قبيل الأولمبياد أدّت إلى أكبر حفريات في المدينة، حيث تمّ التنقيب عن أكثر من خمسين ألف قطعة أثرية، وما تزال بعض محطّات المترو تعرض بعض الاكتشافات إلى يومنا هذا، وأُعيد بالطبع تسليط الضوء بشكل أوسع على الآثار الإغريقية الأشهر، وفي  مقدّمتها تلة الأكروبوليس ذائعة الصيت.

لكن، غير بعيد عن الأكروبوليس، يقع مبنى أثري يقدّم صورة مغايرة وكالحة للعاصمة الأوروبية، فمسجد تزيستاراكيس على كتف ساحة موناستيراكي، يعمل اليوم كمرفق تابع لمتحف الفن الشعبي اليوناني، ويبقى شاهداً على نزع قسري للإرث العثماني والإسلامي من المدينة، بل إن أثينا بقيت لعقود طويلة العاصمة الوحيدة في القارة العجوز، من دون دار عبادة إسلامية رسمية، حيث كان المسلمون يصلّون في شقق سكنية أو أقبية أو مستودعات ومخازن تجارية، لا يحمل أي منها تصاريح لهذا الغرض. وفي مقابل هذا، لا تكاد قائمة لأبرز المواقع الأثرية والسياحية في كلّ من بيروت ودمشق، تخلو من مسجد تاريخي أو اثنين على أقلّ تقدير.

وفي عام ٢٠٢٠،  افتتح أول مسجد رسمي في أثينا أبوابه أمام المصلّين للمرة الأولى منذ نحو قرنين. كان عليّ أن أستقلّ حافلة باتّجاه ضاحية إليوناس الصناعية بحثاً عن البناء الجديد، وكانت المفارقة أن أجد المسجد الذي لا يضمّ أي مئذنة، خالياً من المصلّين، في مقابل سيارة شرطة يبدو أنها موجودة في المكان احترازاً. كان هذا المشروع قد بدأ في العام ٢٠٠٧ قبل أن يتمّ تعطيله وتأخيره بسبب معارضة مزدوجة من الكنيسة الأرثوذكسية النافذة، وبعض حركات اليمين القومي الراديكالي. أشارت إليّ شرطية في باحة المسجد الخارجية بأن أُعيد الكاميرا إلى حقيبتي بسبب منع التصوير في المكان، لكنني سرعان ما أعدت إخراج الكاميرا من الحقيبة داخل المسجد مستغلّاً خلوّ المكان.

11.04.2025
زمن القراءة: 6 minutes

لأثينا جوانب كوزموبوليتية تفوق العاصمتين المشرقيتين، فالسياحة النشطة في هذه المدينة وحدها تعرف أكثر من ستّة ملايين زائر سنوياً، وهذا الرقم يفوق بما لا يُقاس أعداد زائري دمشق وبيروت، خاصّة بعد التدهور السياسي والأمني والاقتصادي في سوريا ولبنان منذ سنوات.

ما إن نشرت صوراً ومقاطع فيديو قصيرة من أثينا على حسابي الشخصي على تطبيق “إنستغرام”، حتى جاءتني ردود متنوّعة من أصدقاء سوريين ولبنانيين، تُجمع على وجود شبه بين العاصمة اليونانية والعاصمتين السورية واللبنانية، بحسب جنسية صاحب التعليق أو صاحبته.

والحال أنني شخصياً كنت قد استشعرت شيئاً من هذا التماثل خلال ساعات تجوالي الأولى في العاصمة الأوروبية، خاصّة أنني سبق أن أقمت في المدينتين العربيتين، لعقد كامل في دمشق بين ٢٠٠٣ وأوائل ٢٠١٣، ولنحو عام في بيروت في ٢٠١٣.

وبالإضافة إلى روح البلدان المتوسطية، فإن التشابه هذا يعود أيضاً، وعلى الأرجح، إلى تطوّر عمراني غير متّسق عرفته الدول الثلاثة، وعواصمها تحديداً، لأسباب سياسية واقتصادية واجتماعية، وخلال هذا التطوّر، أفرطت هذه البلدان في مركزيتها بالتوازي مع هجرة كثيفة إلى عواصمها.

فأثينا التي كانت قد شهدت نهضة عمرانية في القرن التاسع عشر، محاولةً إحياء النموذج المعماري الإغريقي الكلاسيكي بدعم وضغوط من قوى غربية، عادت لتشهد انحطاطاً عمرانياً سبّبته عوامل متشابكة، أهمها لجوء نحو مليون ونصف المليون يوناني تركي إلى اليونان خلال التبادل السكاني، الذي تلا الحرب اليونانية التركية (١٩١٩- ١٩٢٢) حيث اختار أكثر من ٣٠٠ ألف من هؤلاء الاستقرار في أثينا، فتضاعف عدد سكان المدينة بشكل مُفاجئ، ثم الدمار الواسع الذي شهدته البلاد خلال الحرب العالمية الثانية، ومن ثم الحرب الأهلية التي تلتها. وخلال الخمسينيات من القرن الماضي، وصل إلى أثينا ما يُقدّر بنحو ٥٦٠ ألف مهاجر داخلي، نتيجة تدهور الأوضاع في الأرياف والبلدات الطرفية والمدن الصغيرة، مما أدّى إلى مضاعفة عدد السكان مرة أخرى.

هكذا، ابتكر الأثينيون طريقة خاصّة لحلّ مشكلة التضخّم السكّاني، عُرفت باسم “أنتيباروخي”، التي يمكن ترجمتها تقريبياً باسم “الشقق مقابل الأرض”، ووفق هذا النظام، عُقدت صفقات بين مقاولين وملّاك منازل، بحيث يهدم المقاول بيتاً تقليدياً تملكه أسرة ما، ويُنشئ مكانه مبنى سكنياً من عدّة طوابق، وبينما تحصل الأسرة على شقّتين أو ثلاث شقق من هذا البناء الجديد، كان المقاول يجني أرباحه من بيع الشقق المتبقية لسكّان العاصمة الطارئين الباحثين عن سكن. وكان هذا التوسع العمراني يجري من دون أي تنظيم وتخطيط من مؤسّسات الدولة، وغالباً من دون أي تدخّل منها، بل وبلا عقود مكتوبة في بعض الأحيان!

أذن وذائقة…

التبادل السكّاني الذي أعقب الحرب التركية اليونانية في الربع الأول من القرن العشرين، أسهم بشكل غير مباشر في بزوغ موسيقى يونانية خاصّة، شقّت طريقها بشكل مستقلّ ومتباين عن الإرث الموسيقي العثماني، الذي طبع جزءاً كبيراً من الموسيقى الشرقية (والعربية تحديداً) بطابعه.

فمئات آلاف اللاجئين من الأناضول إلى اليونان، جلبوا معهم إلى جانب ذكرياتهم وخسائرهم ومشاعر الفقد الخاصّة بهم، موسيقاهم. وفي هذه الأجواء المتفاعلة مع البيئات العمّالية والفقيرة في ضواحي المدن، نشأت موسيقى الريبتيكو Rebetico التي باتت جزءاً لا يتجزأ من الثقافة اليونانية الحديثة. وإن كان العديد من المطاعم والحانات الأثينية يقدّم موسيقى حيّة يومية، فإن العثور على مكان يقدّم هذا النوع  الأصيل من الموسيقى، تطلّب جهداً مضاعفاً من البحث.

عثرت على ضالّتي في حانة ومطعم خارج المركز السياحي للمدينة تُدعى ماراثونيتيس، وكان لافتاً بالنسبة لي، أن الأمسية التي تبدأ في التاسعة مساء خلال يوم عمل في منتصف الأسبوع، تستمرّ لنحو الثالثة فجراً، ولم أكن بحاجة إلى أي معرفة باللغة اليونانية، لأستمتع بالغناء الشجيّ المصحوب بالعزف على آلتيْ البزق والغيتار، هذا بينما لم يتردّد عدد من روّاد الحانة بهجر كراسيهم للرقص في المساحات الضيقة بين الطاولات، تحت تأثير الألحان والإفراط في شرب الأوزو.

ومشروب الأوزو المشابه حدّ التطابق لمشروب العرق السوري واللبناني، ليس إلّا نموذجاً واحداً للتقاطعات الكبيرة بين مطابخ هذه البلدان، بتأثير مرجّح للسيطرة العثمانية المديدة على البلقان والمشرق العربي (لا بدّ من الإشارة هنا إلى أن الوجود العثماني في هذه المناطق استمرّ لنحو ٤ قرون كاملة في العاصمتين السورية واللبنانية، ولأقل من ذلك بقليل- قرابة ٣٧٥ عاماً في العاصمة اليونانية).

كانت المصادفة وحدها قد قادتني للعثور على ما اعتبرته جوهرة أثينية مخبّأة غير معروفة للغرباء، فليس بعيداً عن حانة ماراثونيتيس، تناولت عشاءً مبكراً في مطعم صغير يملكه شقيقان مسنّان منذ نحو خمسين عاماً.

 في مطعم توما، على اسم المالك، الشقيق الأكبر، الذي تجاوز الثمانين من العمر، والجالس دائماً بعينين ناعستين على طاولة الإدارة والمحاسبة، تناولت على مدى يومين أطباقاً يونانية متنوّعة لا تختلف كثيراً عن وجبات يومية تصنعها ربّات البيوت السورية أو اللبنانية. أدخلني الشقيق الأصغر مانو، الذي عمل في لندن في سبعينيات القرن الماضي، إلى المطبخ المتواضع لأختار بنفسي ما أشتهي من قائمة طويلة، ضمّت في ما ضمّت: الملفوف المحشي بالأرز، والدجاج المشوي بالفرن مع شرائح البطاطا، وشوربة الجزر والبازلاء بصلصة البندورة، وكذلك الفاصولياء البيضاء بالصلصة نفسها، والفاصولياء الخضراء المطهية بزيت الزيتون، والسبانخ، والبطاطا المقلية، وكرات اللحم المفروم، والكراث مع البطاطا والأرضي شوكي، وغيرها.

وتشتهر أثينا بالطبع بمطاعم السوڤلاكي، أي المشويات المكوّنة من قطع اللحم الصغيرة، الذي عادة ما يكون من لحم الخنزير في قبرص واليونان، وكأن الاعتماد شبه الحصري على لحم الخنزير، أتى كردّ فعل معاكس للعيش قروناً تحت سلطة المسلمين الذين يحرّمون تناوله.

أما أشهر الحلويات اليونانية، فلا يمكن أحياناً تمييزها عن نظيرتها التركية، بما تحمله الأخيرة من تأثيرات على الحلويات السورية واللبنانية، فالعديد من المقاهي والمخابز الأثينية يقدّم البقلاوة (Baklava) والأرز مع الحليب (Rizogalo) والقطايف (Kadifi) والحلاوة بالسميد (Halva) ولوكوماديس، وهي النسخة اليونانية من العوّامة، أي كرات العجين المقلية والمحلّاة بالقطر، والباستيلي، الذي يتطابق مع بعض أنواع الحلوى المصنوعة من السمسم في المشرق العربي، وإلى جانب هذا بالطبع، بالإمكان العثور على أنواع فطائر وحلويات يونانية أقرب إلى الحلويات المصنوعة في فرنسا ودول غربية أخرى.

كوزموبوليتانية مبتورة

ولأثينا جوانب كوزموبوليتية تفوق العاصمتين المشرقيتين، فالسياحة النشطة في هذه المدينة وحدها تعرف أكثر من ستّة ملايين زائر سنوياً، وهذا الرقم يفوق بما لا يُقاس أعداد زائري دمشق وبيروت، خاصّة بعد التدهور السياسي والأمني والاقتصادي في سوريا ولبنان منذ سنوات.

 ولأن المدينة تقع على طريق الهجرة الرئيسي، الذي ينقل مهاجرين من الشرق الأوسط وجنوبي آسيا وشرق وشمال أفريقيا باتجاه دول غرب وشمال غرب أوروبا، فهي كذلك مستقرّ مؤقّت أو دائم لمجتمعات صغيرة ومتفاوتة الحجم من هذه المناطق، ولا يندر أن تمرّ بمحاذاة مطعم باكستاني أو بنغالي مثلاً، ليس بعيداً عن ساحة أومونيا الرئيسة، كما تمكن قراءة لافتات باللغة العربية لبعض المتاجر، التي تستهدف مقيمين من العراق وسوريا ومصر ولبنان وتونس والمغرب وغيرها. ومع ذلك، سجّلت الهجمات ضدّ المهاجرين واللاجئين وأفراد مجتمع الميم أعلى مستوى لها في نحو عقد، العام الفائت، لتقارب المستويات التي سجّلتها في العام ٢٠١٥ عندما كانت اليونان في الخطوط الأمامية لما عُرف بأزمة الهجرة الأوروبية.

كما تمنح عضوية اليونان في الاتحاد الأوروبي آفاقاً أوسع لهذا البلد الصغير نسبياً، فيما أتاحت استضافة أثينا لدورة الألعاب الأولمبية عام ٢٠٠٤، الفرصة لتنشيط مشاريع البنى التحتية والسياحة، بل إن أعمال بناء المترو لتطوير قطاع النقل قبيل الأولمبياد أدّت إلى أكبر حفريات في المدينة، حيث تمّ التنقيب عن أكثر من خمسين ألف قطعة أثرية، وما تزال بعض محطّات المترو تعرض بعض الاكتشافات إلى يومنا هذا، وأُعيد بالطبع تسليط الضوء بشكل أوسع على الآثار الإغريقية الأشهر، وفي  مقدّمتها تلة الأكروبوليس ذائعة الصيت.

لكن، غير بعيد عن الأكروبوليس، يقع مبنى أثري يقدّم صورة مغايرة وكالحة للعاصمة الأوروبية، فمسجد تزيستاراكيس على كتف ساحة موناستيراكي، يعمل اليوم كمرفق تابع لمتحف الفن الشعبي اليوناني، ويبقى شاهداً على نزع قسري للإرث العثماني والإسلامي من المدينة، بل إن أثينا بقيت لعقود طويلة العاصمة الوحيدة في القارة العجوز، من دون دار عبادة إسلامية رسمية، حيث كان المسلمون يصلّون في شقق سكنية أو أقبية أو مستودعات ومخازن تجارية، لا يحمل أي منها تصاريح لهذا الغرض. وفي مقابل هذا، لا تكاد قائمة لأبرز المواقع الأثرية والسياحية في كلّ من بيروت ودمشق، تخلو من مسجد تاريخي أو اثنين على أقلّ تقدير.

وفي عام ٢٠٢٠،  افتتح أول مسجد رسمي في أثينا أبوابه أمام المصلّين للمرة الأولى منذ نحو قرنين. كان عليّ أن أستقلّ حافلة باتّجاه ضاحية إليوناس الصناعية بحثاً عن البناء الجديد، وكانت المفارقة أن أجد المسجد الذي لا يضمّ أي مئذنة، خالياً من المصلّين، في مقابل سيارة شرطة يبدو أنها موجودة في المكان احترازاً. كان هذا المشروع قد بدأ في العام ٢٠٠٧ قبل أن يتمّ تعطيله وتأخيره بسبب معارضة مزدوجة من الكنيسة الأرثوذكسية النافذة، وبعض حركات اليمين القومي الراديكالي. أشارت إليّ شرطية في باحة المسجد الخارجية بأن أُعيد الكاميرا إلى حقيبتي بسبب منع التصوير في المكان، لكنني سرعان ما أعدت إخراج الكاميرا من الحقيبة داخل المسجد مستغلّاً خلوّ المكان.

11.04.2025
زمن القراءة: 6 minutes
|

اشترك بنشرتنا البريدية