اشتدت حملة التحريض ضد الكوميدية اللبنانية شادن، بعد تسريب فيديو من أحد عروضها تسخر فيه من رموز دينية إسلامية، وهذا النوع من الحملات الغوغائية غير غريب عن المنطقة عموماً، جميعنا نذكر ما الذي حصل مع الكوميديان (نور حجار) لسبب مشابه، لكن السؤال دائماً عن سبب توقيت هذه الحملات، التي تأتي كرد فعل لتسريبات لعروض تعود إلى سنة أو أكثر.
الملفت أن فئة كبيرة من “الجمهور” تبنت موقف اللامبالاة تجاه هذا التحريض و”التكفير”، كنوع من الشراكة في الإدانة الصامتة، أو على الأقل انتظار الثمن الذي قد تدفعه شادن بسبب نكتة!.
تمثلت الحملة على الأرض ببعض المظاهرات قليلة العدد ورفع كتاب إلى الجهات القضائية لأجل معاقبة شادن، وهنالك معركة أخرى على السوشال ميديا تضاعف فيها عدد المشاركين، حتى لو كان معظمهم لا يعرف شيئاً عن شادن أو ما حصل.
المفارقة في هذه الحملات اتحاد أصوات كانت متفرقة سياسياً، إذ “ناصر” الحملة ضد شادن بعض اللاجئين السوريين، الذين دفعهم الانتماء الديني مع المحرضين، في حين دافع البعض عن شادن بسبب لانتماء الديني، الانتماء الذين لم يحترموه هم يوماً عندما تعلق الأمر بقضية اللجوء.
المحزن أن هؤلاء الداعمين للحملة، ومن يتظاهرون على الأرض يختزلون شادن بتعريف مبسّط: فتاة لبنانية تنتمي لمجتمع الميم، وتسخر من المقدسات الدينية لأجل الإضحاك!!.
لا يمكن اختصار تجربة شادن بهذا التعريف البسيط، لكن ضمن قواعد اللعب في الدول المنهارة التي تراهن على هويات ما قبل الدولة، يبقى المهمشون في مواقعهم، وتبقى السلطة في موقعها، ويصبح تكريس الصور عبر السوشال ميديا والإعلام الوسيلة الأكثر نجاعة لوأد أي محاولة خلق وعي لأجل التصالح بين فئات المجتمع.
بالتأكيد تتجاوز شادن الصورة النمطية عنها، إنها تحمل تجربة إنسانية معقدة وغنية داخل المجتمع اللبناني، وتتبنى مواقف أخلاقية وسياسية على المستوى الإنساني لم يجرؤ الكثيرون على تبنيها، ناهيك بأن الشكل الفني الذي تقدمه يتجاوز فكرة الإضحاك فقط، أو تخريب الهالة عن المقدسات، نحو إعادة النظر في العلاقة بين الأفراد وبين الأفراد والسلطة.
“أحبوا أعداءكم، إلا السوريين”
في صيف عام 2023 ذهبت أنا ومجموعة من الأصدقاء السوريين واللبنانيين، إلى عرض شادن الذي أقيم في مسرح “بلاي” في منطقة ضبية ذات الأكثر المسيحية.
ربما كنت أنا وصديقتي السوريين الوحيدين في تلك الأمسية، التي افتتحت بعدة عروض لكوميديين هواة، أطلقوا نكاتهم حول العلاقات العاطفية وروتين الحياة في بيروت والسمنة، أشياء لا مشكلة بالحديث عنها.
بدأ عرض شادن الذي افتتحته بالحديث عن رحلتها إلى دبي، ومنذ البداية يظهر الفارق والأثر الذي تحدثه شادن وعتبات المعنى الذي تحمله النكتة، بالتأكيد هنالك خرق للخطاب الجنسي في عرضها، لكن يضاف له أداء يسعى لتهميش صور نمطية ومسلمات.
لعبت شادن على صورة دبي في مخيلتنا، تلك المدينة التي تتصدر موكب المعاصرة والذكاء الاصطناعي، أيقونة المجتمع الرأسمالي والتكنولوجي. وللمفارقة تلك المدينة اليوتوبية تمتلئ بفيضان من البلاهة والحماقة، يتضح في أسلوب تعامل السلطات مع أي محتوى فني على أراضيها، بل أي محتوى يهدد صورة دبيّ نفسها، كون “لؤلؤة الخليج” تمنع أي صانع محتوى من نشر ما “يشوه صورة دبي”.
انتقلت شادن بعدها للعب في مساحة المجتمع الطائفي في لبنان، لم تهادن أحد، وانتقدت الجميع، وفي نقدها للمجتمع المسيحي قالت بأن المسيح طلب من أتباعه أن يحبوا أعداءهم -صمتت قليلاً- وأضافت: إلا السوريين.
تبدو هذه النكتة شديدة الحنكة قادرة على إيقاظ المستمع على المفارقة التي يمارسها في حياته، ولكن خرج أحد هم من الجمهور قائلاً إن اللاجئين سيحتلون لبنان، وسيتكرر ما حدث مع الوجود الفلسطيني في لبنان.
شادن في هذه اللحظة، كفنانة وإنسانة، في هذه وضعية حرجة، ومع هكذا مقاطعة قادرة على خلق جو في منتهى الحساسية، هناك خياران اثنان؛ الأول أن تأخذ هذه المقاطعة كمزحة، وتبني عليها نكتة، وبذلك تحافظ على متانة العرض، أو أن تتجاهلها وتكمل الأداء الكوميدي، وهذه الخيارات تهدف إلى عدم تدمير أو تخريب العرض.
تجاوزت شادن دورها كمؤدية عرض ستاند أب كوميدي إثر التعليق السابق، أوقفت العرض، وتوجهت بالكلام خارج السياق كوميدي إلى “المعترض”، لتقول له أن السوريين والفلسطينيين ليسوا سعداء على أرض لبنان، إلا أنهم طردوا من أرضهم، موقف شادن كان واضحاً وذا نبرة تحدٍ، خرج إثرها الشاب من القاعة وسط صمت من حوله ثم تصفيقهم.
الجدل الذي حدث لم يكن على طاولة عشاء، أو في ندوة تلفزيونية، بل هو داخل عرض أدائي فني. والكل يعلم أن عروض الستاند أب كوميدي ليست فقرات، بل محاولة من المؤدي لبناء سردية طويلة يصل بها مع الجمهور إلى اتفاقية حول سخرية محددة، هي عملية متواصلة غير قابلة للإيقاف الكليّ، إلا أن شادن قامت بـ”تخريب” العرض، خربت تسلسلاً كانت تعمل لأجله لأكثر من نصف ساعة، بل وخاطرت بتخريب الأمسية بالكامل، لأجل موقف أخلاقي وإنساني لن تستفيد منه بشيء، وتبنته داخل مساحة حساسة جدا لهذه القضية، وأقصد منطقة ضبية.
ضرورة الصفّ الواحد
يقدم اليوم الكثير من الفنانين تنازلات هائلة، ويمارسون أدواراً مزيفة، ويتبنون لغة فرضت عليهم لأجل إرضاء جهات منتجة ودول معينة، والحجة أنهم بحاجة العمل، لكن شادن خاطرت، ومارست دورها الأخلاقي كفنانة داخل حقل ألغام حقيقي يهدد عروضها.
تتجاوز شادن السخرية من الأوضاع السياسية والمعيشية والاجتماعية لتقدم خطاب يدعم المهمشين، وذلك متسق تماما مع تجربة شادن نفسها المنتمية للهامش.
و”المنطق السليم” في هذه الحالة أن يتحالف المهمشون مع بعضهم ضد من يحتكر الرأي والحكم، أي أن تتحالف كافة الفئات المهمشة، الأقليات والمستضعفين ومجتمع الميم والنسويات واللاجئين، وعبر هذا التحالف بالإمكان نزع الخطاب العنصري، وخلق موقف قادر على قلب الموازين، لكن هل يمكن مقارنة ما يحصل في لبنان (أو حتى المنطقة العربيّة) بالتجارب الأمريكيّة والأوروبيّة؟.
بعيداً عن السلاح المنفلت، في منطقتنا تكمن المشكلة في نظرة المهمشين لبعضهم وموقفهم من قضايا بعضهم، ومحاولة السلطة تكريس صور نمطية عن هذه الفئات بهدف تغييب أي خطاب ثوري أو أخلاقي أو إنساني يمكن أن يقدم.
الكثير من اللاجئين مثلاً لا يعلمون لحد الآن شيئاً عن دور مجتمع الميم في دعم قضيتهم سواء في لبنان أو أوروبا، وبأن هذه الفئات هي الجدار الرئيسي بوجه الحركات اليمينية التي تنوي محاصرة اللاجئين أو ترحيلهم.
وفي لبنان الوضع لا يختلف ولا أحد يتكلم عن أن مجتمع الميم والنسويات ومناصري حقوق الإنسان هم تقريبا الوحيدين الذين يدعمون اللاجئ السوري دون دافع ديني أو شروط مناطقيّة، هم إن صح التعبير، اليسار الجديد، وريث الحركات اليسارية في الماضي التي دعمت حقوق الفلسطينيين وحركات التحرر العالمي، ذات اليسار يعيد الآن النظر بمواقفه في أوروبا إثر حرب الإبادة التي تتعرض لها غزة، ويكتشف عيوبه الداخليّة.
لا بد أن يدرك المستضعفون، على اختلاف دينهم وموقفهم من الكوميديا، أنهم على ذات الضفة مع الكوريين واليساريين الجدد والنسويات، والمدافعون عن حقوق الإنسان ومنتقدي الميليشيات المسلحة، هؤلاء المنبوذين من قبل السلطات والمهددين في الكثير من الوقت، لا يعلمون أن السلطة تساند الحملة ضد شادن ليس لأنها تسعى للدفاع عن المقدسات الدينية.
السبب الحقيقي من الحملة هو تحييد الرأي العام عن القضايا الرئيسية والمأساة الحقيقية على المستوى الاقتصادي والسياسي، ووسيلتها الوحيدة هي مناصرة النعرات الطائفية والعنصرية لأجل كسب ولاء المتطرفين، أولئك الذين أغضبتهم نكتة، ولم يغضبهم مثلاً أن غياب الكهرباء والاستخدام المفرط لمولدات الكهرباء زاد من معدلات سرطان الرئة في لبنان بنسب قياسيّة، لكن لا الأسهل تجاهل السبب الرئيسي لغياب الكهرباء في لبنان وتصديق الادعاء العنصري بأن اللاجئين السوريين هم سبب تزايد معدلات السرطان.