fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

أحجية الانتفاضة اللبنانية: “في شي أكبر مني ومنك”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لا نعلم كيف أبصرت هذه الجملة النور، وهي واحدة من أشهر العبارات التي اقترنت بإنتفاضة 17 تشرين الأول. ومثل طبيعة النكات عموماً، لا مؤلفاً معروفاً لهذه العبارة. كل ما نعرفه أنها انتشرت بسرعة بعد الخطاب الأول لأمين عام حزب الله عقب بدء الاحتجاجات..

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

ما هو “الشي” الذي هو أكبر مني ومنك؟ هذا ليس سؤالاً من فقرة “الكنز المفقود” الصباحية الغابرة. إذ إن “الشي” ليس موجوداً في الصندوق هذه المرة. وهذا ليس سؤالاً موحّداً للمتأهلات إلى المرحلة الأخيرة في مسابقة ملكة جمال لبنان، ولو أنه كان ليكون سؤالاً مثيراً للاهتمام وقادراً على التقليل من رتابة المسابقة السنوية. 

حتى الآن لا نعلم ما هو هذا الشيء. ولا نعلم أيضاً كيف أبصرت هذه الجملة النور، وهي واحدة من أشهر العبارات التي اقترنت بإنتفاضة 17 تشرين الأول. ومثل طبيعة النكات عموماً، لا مؤلفاً معروفاً لهذه العبارة. كل ما نعرفه أنها انتشرت بسرعة بعد الخطاب الأول لأمين عام حزب الله عقب بدء الاحتجاجات. خلاصة خطاب السيد نصرالله كانت حينها أن ما يجري ليس ببراءة ما يظهر للعيان، متهماً بعض المتظاهرين بالارتباط بسفارات وبتلقي التمويل منها.

في البدء كان “الشيء” إذاً. وهذا الشيء الذي لا نعرف له حتى الساعة تعريفاً.

في البدء كان “الشيء” إذاً. وهذا الشيء الذي لا نعرف له حتى الساعة تعريفاً، هو أقرب إلى أن يكون حصيلة مكثفة للاتهامات والتكهنات والتحليلات والرغبات عند من لم يستسيغوا وجود احتجاجات بهذا الحجم تستهدف زعماء الأحزاب من دون استثناء. 

صناعة الأحجية

إذاً هناك شيء، لا نعلم ماهيته، لكنه موجود ويمثل خطراً ما، ولا نعرف أيضاً ما هو هذا الخطر. إننا أمام أحجية (Aporia). والـAporia الآتية من اليونانية تعني في الأساس ما هو غير سالك أو ما لا يمكن عبوره. ما لا يجتازه العقل، ما يستعصي على الفهم. وخلف الأحجية التي أخذت تتغلغل يوماً بعد يوم على وقع استمرار الاحتجاجات وتصاعدها، كانت المقاربة القائمة على وجود مؤامرة، هي غالباً مرادفاً لـ”الشي” المذكور سابقاً، من خلال رمي أخبار بين الحين والآخر عن ارتباط ناشطين وصحافيين بمنظمة غربية من هنا، أو بسفارة أجنبية من هناك (وقد ثبُت أن هذه الاتهامات كاذبة). وبالرغم من الركاكة، تغذّى خطاب الأحجية، اللغز، من هذه الأخبار، وجرى تكريس ما لا يمكن معرفته أو فهمه عنواناً للمشهد الذي لم يجد رافضوه ما يدينه حقيقةً، فلجؤوا إلى الغموض للتشويش عليه. المسألة كبيرة، وعقلنا محدود. كأننا أمام خطابٍ ديني، أمورٌ يعجز العقل عن معرفتها تماماً مثل المتعاليات الكانطية (الله، الحقيقة، النفس…)، الأمر الذي يفسح المجال أمام الإيمان عوضاً عن المعرفة العلمية. 

وعلى الرغم من كون التهمة غير واضحة، لكنها نجحت إلى حدّ بعيد في عزل جزء من الجمهور اللبناني عن الانتفاضة، بعدما استطاعت تعزيز وربما خلق توجسّ ما منها. ولكن كيف جرى ذلك؟ 

في مسرحية “عطيل” الشهيرة، ينتهي الأمر ببطل شيكسبير إلى قتل زوجته ديدمونة بعدما تمكّن ياغو، حامل راية جيش عطيل، من إقناعه بواسطة تلميحاته المتكررة، بأن زوجته تخونه. أصبح “أثر عطيل” اسماً للمغالطة الإدراكية التي تدفع الفرد والجماعة إلى تصديق أمر ما بعد تكرار سيناريوهات معيّنة على مسمعهما بشكل مستمر. يحدث ذلك غالباً، لما في حالة التصديق من يقين مريحٍ للنفوس، ولكونهما يمثلان خلاصاً من الشكّ، أحد أكثر المشاعر إزعاجاً وإرباكاً للإنسان. 

“أثر عطيل” هو منتج في ما يسميه السوسيولوجي الفرنسي جيرالد برونر بـ “السوق الإدراكية” أو المعرفية (marché cognitif). هذه السوق هي الحيز الذي يتفاعل فيه الأشخاص معرفياً، حيث يتبادلون ما يمكن تسميته بالمنتجات الإدراكية. ومثلما يحدث في السوق الاقتصادية، يبيع الأفراد في هذه السوق التي اتسعت بشكل مهول مع انتشار وسائل الإعلام الجديد، ويشترون، مجازاً، الفرضيات والنظريات والأساطير الشعبية ونظريات المؤامرة، ما يخدم في الغالب الإطار الأيديولوجي الذي يتبناه هؤلاء. 

خلف الأحجية التي أخذت تتغلغل يوماً بعد يوم على وقع استمرار الاحتجاجات وتصاعدها، كانت المقاربة القائمة على وجود مؤامرة، هي غالباً مرادفاً لـ”الشي” المذكور.

انتشر مفهوم برونر بالتزامن مع تنامي الحديث في العقد الأخير عن عصر ما بعد الحقيقة أو الـ”Post-truth” الذي بلغ ذروته مع وصول دونالد ترامب إلى الرئاسة الأميركية. ومعروف أن ترامب بنى حملته الانتخابية على الكثير من المعلومات المزيفة التي تبناها جمهوره من الناخبين. “ما بعد الحقيقة” باتت تسمية لزمن صعود التيارات الشعبوية في العالم، التي كانت رافعتها في الكثير من الأحيان مجموعة آراء ومعلومات غير مستندة إلى وقائع علمية وغالباً ما تركن إلى المشاعر والحدس والتفكير الرغبوي. 

إعادة إنتاج السلطة

بالعودة إلى صناعة الأحجية، فهي ليست أمراً مستجداً على الدعاية السياسية. تعمد الآلات الأيديولوجية إلى تقديم الحدث بكونه معقّد جداً ومتشابك، عبر جمع ما لا يجمع في أحيانٍ كثيرة، وربط أحداث لا علاقة ببعضها لخلق مشهد صعب يبدو كأنه يتخطّى فهم الفرد. يشعر الأخير أنه أصغر بكثير من الحدث وأنه عاجز عن التأثير فيه، فينتهي به الأمر إلى اتخاذ موقف سلبي منه والانكفاء، ثم انتقاد كل من يشارك فيه إيجابياً، ساخراً من اعتقاد أولئك أنهم قادرون على الفعل والتأثير. بالنسبة له، المشاركون في الحدث مغرر بهم، وغير عالمين، مثله، بالحجم الحقيقي لـ”الشيء”. يفضي تكريس الأحجية إلى اللاحركة، أو بمعنى آخر إلى تبني موقفٍ سينيكي من الحدث. 

والسينيكية، بمعناها المعاصر، المختلف عن المعنى الأصلي للسينيكية بوصفها مدرسة أخلاقية إغريقية – يمثّل قوامها التمرّد على الأعراف والقواعد الاجتماعية، تعني بشكل أساسي اتخاذ موقف تشكيكي إزاء الواقع، خوفاً من الوقوع في السذاجة. يخاف السينيكي من “البراءة” حتى لا يكون مخدوعاً، فتراه يسارع عند أي حدث إلى نسج سيناريو معقّد، ويعمل لإظهار “الحقيقة” بعيدةً عما تبدو عليه الأشياء. وإذا كان الموقف السينيكي في المبدأ نابع من رغبة في كشف النفاق أو إبراز الفارق بين الشعارات وبين الواقع، بين خطابٍ لسياسيّ ما وبين مآربه الحقيقية، تحوّل مع الإفراط فيه إلى جعل الفرد على هامش الحدث رافضاً الانخراط في فعلٍ سياسي، بسبب التشكيك التام. بحسب الفيلسوف الألماني بيتر سلوتردايك في كتابه المرجعي “نقد العقل السينيكي”، إن السينيكية المعاصرة هي “الوعي التنويري الزائف” أو بقولٍ آخر هي العقل الذي تلقّى مبادئ عصر التنوير ولكنه لم يضعها قيد التطبيق. العقل الذي أخذ من تنوير القرن الثامن عشر أسسه وأدواته لكنه عوضاً عن استخدامها للتحرر الذاتي، وقع في السلبية والانكفاء. 

وعلى الرغم من كون السينيكية تُعدّ للوهلة الأولى موقفاً ناقداً للأيديولوجيا، إلا أنها تتحوّل سريعاً إلى أيديولوجيا بذاتها، متماهيةً مع خطاب السلطة ومصالحها. فالسينيكية هي أن تعي أن هناك ظلماً في موضع ما، ولكن ألا تتبنى، برغم ذلك، موقفاً مناصراً للمظلوم ومخاصماً للظالم، لاعتبارات أخرى. هكذا ساهمت أحجية “في شي أكبر مني ومنك عم بيصير” في دفع الجمهور الذي تبنّاها إلى الانعزال والسلبية، إلى السينيكية التي تساهم في إعادة إنتاج السلطة القامعة وإلى ضمان استمرارية الستاتيكو. 

31.01.2020
زمن القراءة: 5 minutes

لا نعلم كيف أبصرت هذه الجملة النور، وهي واحدة من أشهر العبارات التي اقترنت بإنتفاضة 17 تشرين الأول. ومثل طبيعة النكات عموماً، لا مؤلفاً معروفاً لهذه العبارة. كل ما نعرفه أنها انتشرت بسرعة بعد الخطاب الأول لأمين عام حزب الله عقب بدء الاحتجاجات..

ما هو “الشي” الذي هو أكبر مني ومنك؟ هذا ليس سؤالاً من فقرة “الكنز المفقود” الصباحية الغابرة. إذ إن “الشي” ليس موجوداً في الصندوق هذه المرة. وهذا ليس سؤالاً موحّداً للمتأهلات إلى المرحلة الأخيرة في مسابقة ملكة جمال لبنان، ولو أنه كان ليكون سؤالاً مثيراً للاهتمام وقادراً على التقليل من رتابة المسابقة السنوية. 

حتى الآن لا نعلم ما هو هذا الشيء. ولا نعلم أيضاً كيف أبصرت هذه الجملة النور، وهي واحدة من أشهر العبارات التي اقترنت بإنتفاضة 17 تشرين الأول. ومثل طبيعة النكات عموماً، لا مؤلفاً معروفاً لهذه العبارة. كل ما نعرفه أنها انتشرت بسرعة بعد الخطاب الأول لأمين عام حزب الله عقب بدء الاحتجاجات. خلاصة خطاب السيد نصرالله كانت حينها أن ما يجري ليس ببراءة ما يظهر للعيان، متهماً بعض المتظاهرين بالارتباط بسفارات وبتلقي التمويل منها.

في البدء كان “الشيء” إذاً. وهذا الشيء الذي لا نعرف له حتى الساعة تعريفاً.

في البدء كان “الشيء” إذاً. وهذا الشيء الذي لا نعرف له حتى الساعة تعريفاً، هو أقرب إلى أن يكون حصيلة مكثفة للاتهامات والتكهنات والتحليلات والرغبات عند من لم يستسيغوا وجود احتجاجات بهذا الحجم تستهدف زعماء الأحزاب من دون استثناء. 

صناعة الأحجية

إذاً هناك شيء، لا نعلم ماهيته، لكنه موجود ويمثل خطراً ما، ولا نعرف أيضاً ما هو هذا الخطر. إننا أمام أحجية (Aporia). والـAporia الآتية من اليونانية تعني في الأساس ما هو غير سالك أو ما لا يمكن عبوره. ما لا يجتازه العقل، ما يستعصي على الفهم. وخلف الأحجية التي أخذت تتغلغل يوماً بعد يوم على وقع استمرار الاحتجاجات وتصاعدها، كانت المقاربة القائمة على وجود مؤامرة، هي غالباً مرادفاً لـ”الشي” المذكور سابقاً، من خلال رمي أخبار بين الحين والآخر عن ارتباط ناشطين وصحافيين بمنظمة غربية من هنا، أو بسفارة أجنبية من هناك (وقد ثبُت أن هذه الاتهامات كاذبة). وبالرغم من الركاكة، تغذّى خطاب الأحجية، اللغز، من هذه الأخبار، وجرى تكريس ما لا يمكن معرفته أو فهمه عنواناً للمشهد الذي لم يجد رافضوه ما يدينه حقيقةً، فلجؤوا إلى الغموض للتشويش عليه. المسألة كبيرة، وعقلنا محدود. كأننا أمام خطابٍ ديني، أمورٌ يعجز العقل عن معرفتها تماماً مثل المتعاليات الكانطية (الله، الحقيقة، النفس…)، الأمر الذي يفسح المجال أمام الإيمان عوضاً عن المعرفة العلمية. 

وعلى الرغم من كون التهمة غير واضحة، لكنها نجحت إلى حدّ بعيد في عزل جزء من الجمهور اللبناني عن الانتفاضة، بعدما استطاعت تعزيز وربما خلق توجسّ ما منها. ولكن كيف جرى ذلك؟ 

في مسرحية “عطيل” الشهيرة، ينتهي الأمر ببطل شيكسبير إلى قتل زوجته ديدمونة بعدما تمكّن ياغو، حامل راية جيش عطيل، من إقناعه بواسطة تلميحاته المتكررة، بأن زوجته تخونه. أصبح “أثر عطيل” اسماً للمغالطة الإدراكية التي تدفع الفرد والجماعة إلى تصديق أمر ما بعد تكرار سيناريوهات معيّنة على مسمعهما بشكل مستمر. يحدث ذلك غالباً، لما في حالة التصديق من يقين مريحٍ للنفوس، ولكونهما يمثلان خلاصاً من الشكّ، أحد أكثر المشاعر إزعاجاً وإرباكاً للإنسان. 

“أثر عطيل” هو منتج في ما يسميه السوسيولوجي الفرنسي جيرالد برونر بـ “السوق الإدراكية” أو المعرفية (marché cognitif). هذه السوق هي الحيز الذي يتفاعل فيه الأشخاص معرفياً، حيث يتبادلون ما يمكن تسميته بالمنتجات الإدراكية. ومثلما يحدث في السوق الاقتصادية، يبيع الأفراد في هذه السوق التي اتسعت بشكل مهول مع انتشار وسائل الإعلام الجديد، ويشترون، مجازاً، الفرضيات والنظريات والأساطير الشعبية ونظريات المؤامرة، ما يخدم في الغالب الإطار الأيديولوجي الذي يتبناه هؤلاء. 

خلف الأحجية التي أخذت تتغلغل يوماً بعد يوم على وقع استمرار الاحتجاجات وتصاعدها، كانت المقاربة القائمة على وجود مؤامرة، هي غالباً مرادفاً لـ”الشي” المذكور.

انتشر مفهوم برونر بالتزامن مع تنامي الحديث في العقد الأخير عن عصر ما بعد الحقيقة أو الـ”Post-truth” الذي بلغ ذروته مع وصول دونالد ترامب إلى الرئاسة الأميركية. ومعروف أن ترامب بنى حملته الانتخابية على الكثير من المعلومات المزيفة التي تبناها جمهوره من الناخبين. “ما بعد الحقيقة” باتت تسمية لزمن صعود التيارات الشعبوية في العالم، التي كانت رافعتها في الكثير من الأحيان مجموعة آراء ومعلومات غير مستندة إلى وقائع علمية وغالباً ما تركن إلى المشاعر والحدس والتفكير الرغبوي. 

إعادة إنتاج السلطة

بالعودة إلى صناعة الأحجية، فهي ليست أمراً مستجداً على الدعاية السياسية. تعمد الآلات الأيديولوجية إلى تقديم الحدث بكونه معقّد جداً ومتشابك، عبر جمع ما لا يجمع في أحيانٍ كثيرة، وربط أحداث لا علاقة ببعضها لخلق مشهد صعب يبدو كأنه يتخطّى فهم الفرد. يشعر الأخير أنه أصغر بكثير من الحدث وأنه عاجز عن التأثير فيه، فينتهي به الأمر إلى اتخاذ موقف سلبي منه والانكفاء، ثم انتقاد كل من يشارك فيه إيجابياً، ساخراً من اعتقاد أولئك أنهم قادرون على الفعل والتأثير. بالنسبة له، المشاركون في الحدث مغرر بهم، وغير عالمين، مثله، بالحجم الحقيقي لـ”الشيء”. يفضي تكريس الأحجية إلى اللاحركة، أو بمعنى آخر إلى تبني موقفٍ سينيكي من الحدث. 

والسينيكية، بمعناها المعاصر، المختلف عن المعنى الأصلي للسينيكية بوصفها مدرسة أخلاقية إغريقية – يمثّل قوامها التمرّد على الأعراف والقواعد الاجتماعية، تعني بشكل أساسي اتخاذ موقف تشكيكي إزاء الواقع، خوفاً من الوقوع في السذاجة. يخاف السينيكي من “البراءة” حتى لا يكون مخدوعاً، فتراه يسارع عند أي حدث إلى نسج سيناريو معقّد، ويعمل لإظهار “الحقيقة” بعيدةً عما تبدو عليه الأشياء. وإذا كان الموقف السينيكي في المبدأ نابع من رغبة في كشف النفاق أو إبراز الفارق بين الشعارات وبين الواقع، بين خطابٍ لسياسيّ ما وبين مآربه الحقيقية، تحوّل مع الإفراط فيه إلى جعل الفرد على هامش الحدث رافضاً الانخراط في فعلٍ سياسي، بسبب التشكيك التام. بحسب الفيلسوف الألماني بيتر سلوتردايك في كتابه المرجعي “نقد العقل السينيكي”، إن السينيكية المعاصرة هي “الوعي التنويري الزائف” أو بقولٍ آخر هي العقل الذي تلقّى مبادئ عصر التنوير ولكنه لم يضعها قيد التطبيق. العقل الذي أخذ من تنوير القرن الثامن عشر أسسه وأدواته لكنه عوضاً عن استخدامها للتحرر الذاتي، وقع في السلبية والانكفاء. 

وعلى الرغم من كون السينيكية تُعدّ للوهلة الأولى موقفاً ناقداً للأيديولوجيا، إلا أنها تتحوّل سريعاً إلى أيديولوجيا بذاتها، متماهيةً مع خطاب السلطة ومصالحها. فالسينيكية هي أن تعي أن هناك ظلماً في موضع ما، ولكن ألا تتبنى، برغم ذلك، موقفاً مناصراً للمظلوم ومخاصماً للظالم، لاعتبارات أخرى. هكذا ساهمت أحجية “في شي أكبر مني ومنك عم بيصير” في دفع الجمهور الذي تبنّاها إلى الانعزال والسلبية، إلى السينيكية التي تساهم في إعادة إنتاج السلطة القامعة وإلى ضمان استمرارية الستاتيكو. 

31.01.2020
زمن القراءة: 5 minutes
|

اشترك بنشرتنا البريدية