استئناف عمل “شرطة الأخلاق”، في إيران، بعد أقل من عام منذ مقتل الفتاة الكردية الإيرانية، مهسا أميني، على يد عناصرها وممارساتهم الوحشية، لا يعد حدثاً مباغتاً.
لكن المثير للغرابة، وربما القرف، تلك المرة، هو طبيعة الأحكام التي تتجاوز المنطق والعقل كما حدث مع الفنانة آزاده صمدي. إذ قضى الحكم القضائي بضرورة خضوعها لجلسات “إرشاد”، ثم مصادرة هاتفها لجهة علاجها من “اضطراب في الشخصية”.
وفي جنوب طهران، قبل فترة وجيزة، صدر حكم آخر على مواطنة قررت خلع الحجاب في مكان عام، بـإرغامها على “غسل الموتى” لمدة شهر واحد.
هذا التصعيد الذي تمارسه الحكومة الإيرانية يتجاوز كل محاولاتها العنيفة والمتوحشة لكل من اصطدم بنطاق رؤيتها السياسية الضيقة والمنغلقة، تحديداً مع قضية الحجاب الإلزامي منذ ثمانينات القرن الماضي. فالتحول الحاد لدى النخبة السياسية الإيرانية، ورفع مستوى القمع إلى هذه الحدود، غير المسبوقة، التي تجد مماثلها المباشر في فصول التاريخ القروسطي، يكشف عن خيارات النظام الاستراتيجية في العزلة، وهي ممانعة ثقافية وسياسية، تقاوم بشراسة الانفتاح على أي هوية مغايرة تهدد القيم المؤدلجة التي تحمي السلطة.
لذا، فإن إخضاع المواطنين للعلاج النفسي، لمجرد مخالفتهم أو معارضتهم لمرجعية وشروط السلطة، بهذا المستوى البدائي، يؤدي دوراً في تشويه المتمردات، ووصمهم، كما يعني مباشرة تجاوز مصادرة حقوق الفرد وتأسيس فاشية تمارس إكراهاتها الدينية.
فالاستثمار السياسي والأيديولوجي للجسد، بواسطة أدوات “الولي الفقيه” ومن خلال الأجهزة والمؤسسات الإعلامية والثقافية، وحتى الأمنية والقضائية، يهدف إلى تحويل هذه الأجساد المقموعة لمجرد وسائط دعائية للهوية الدينية والطائفية. فيما تمثل منظومة الحجاب وسيلة قصوى لتأطير الفرد، وسجنه، قسراً، داخل هذه الهوية المعتمة. أما عقوبة “تغسيل الموتى” فليس ثمة مبررات تأويلية لها. ربما، ستضحى مشهدية مع غيرها توثق أنماط التعذيب في التاريخ، لاحقاً.
ووفق القاضي محمد حسين إسماعيل مورنيه, الذي أصدر الحكم على الفنانة الإيرانية، فإن “المتهمة قد تلقت رسائل نصية متكررة من قبل الشرطة بسبب عدم الالتزام بالحجاب”. إلا أن ممثل هيئة الدفاع عن آزاده صمدي قال إن “غطاء رأسها يمكن أن يكون قد سقط من على رأسها خلال قيادة السيارة”.
وفي ظل الجدل والاستقطاب السياسي والمجتمعي بإيران على خلفية مناقشة مشروع القانون الجديد لـ”الحجاب والعفاف” بالبرلمان، بعد إرسال نسخة مقترحة منه بواسطة السلطة القضائية والحكومة، ويشمل مجموعة حلول ثقافية وقضائية لتطبيق الحجاب في المجتمع، وعقوبات جديدة لمنع تفشي ظاهرة خلع الحجاب، غرد وزير السياحة عزت الله الزرغامي، على حسابه الموثق في موقع التواصل الاجتماعي “تويتر” قائلاً: “تقديم شهادة صحة نفسية علانية لمرتكبي الحجاب، بدلاً من حل مشكلة الحجاب والعفة، سيتسبب في المزيد والمزيد من التحديات”.
وغرد مكتب المبعوث الخاص لإيران في الولايات المتحدة على “تويتر” : “قلقون من التقارير التي تفيد بأن ما يسمى بشرطة الآداب في إيران يتخذون إجراءات صارمة مرة أخرى لفرض الحجاب الإلزامي. يبدو أن النظام لم يتعلم شيئًا من الاحتجاجات”.
وتابع: “يجب السماح للنساء والفتيات في كل مكان بارتداء ما يريدون. ينظر المحافظون الإيرانيون إلى عرض الشعر باعتباره فظاظة واستفزازاً للرجال، برغم من عدم وجود شيء صريح في القرآن يدعم الحظر الإجباري”.
إقرأوا أيضاً:
وفي ما يبدو أن الاحتجاجات المتواصلة، منذ أيلول/ سبتمبر العام الماضي، وتعم غالبية المدن والأقاليم الإيرانية، نجحت في تعطيل، موقت، للشرطة التي تتعقب النساء. لكن باشر آخرون تهديداتهم للمتمردات على الحجاب الإلزامي من خلال الإهانات اللفظية والاعتداءات البدنية، في الأماكن العام. وقد تحول المجال العام، بفعل التعبئة والتحريض المحموم والرسمي من ممثلي المرشد في خطب الجمعة، وغيرهم من رموز التيار المحافظ والأصولي، إلى بيئات غير آمنة للنساء.
كما لم تفاوض الحكومة الإيرانية على سياستها تجاه مسألة فرض الحجاب، رغم تكتيكاتها المتفاوتة لتهدئة المشهد الاحتجاجي، وعمدت إلى تعميم كاميرات المراقبة لتعقب النساء، فضلاً عن إجراءات أخرى قمعية، منها غلق الأماكن التي تقدم خدمات لغير المحجاب، ثم فرض غرامات مالية بحق أصحابها، الأمر الذي امتد إلى المدارس والجامعات وصدور منشورات من وزارة التربية والتعليم والتعليم العالي تهدد بمنع الطلبة من التعليم والتقدم للامتحانات. وكان مشهد تسمم الطالبات في المدارس الثانوية الغامض ذروة استهداف الفتيات بإيران، ومحاولة قصوى لتأديبهن على قيادة التظاهرات ضد “آيات الله”.
وعليه، فإن تسيير دوريات “شرطة الأخلاق” في شوارع مدن إيرانية، منها طهران وشيراز ورشت، يبدو متوقعاً مع السياق العام والرسمي. الجديد فقط هو الإعلان عن العودة، بشكل رسمي، بعد فترة وجيزة من التخفي والعمل بواسطة “ذئاب منفردة” في نسخة شيعية خمينية.
وقال الناطق بلسان الشرطة الإيرانية، سعيد منتظر المهدي، إن تسيير هذه الدوريات جاء استجابة لـ”مطالب شعبية ومجموعات ومؤسسات اجتماعية وتأكيدات رئيس الجمهورية ورئيس السلطة القضائية في إطار بسط الأمن العام وتوطيد أسس الأسرة”.
وشدد منتظري على أن هذه “الدوريات الراجلة أو بالسيارات ستستقر في أنحاء إيران”، حتى “تقوم إلى جانب مهمات الشرطة المتعددة بإنذار من يصر على انتهاك القواعد من دون الاهتمام للأسف بتبعات ارتداء اللبس غير المألوف”.
وهدد الناطق العسكري كل المتمردات من النساء بـ”الملاحقة القانونية وإحالتهن على الجهاز القضائي”، مطالباً بضرورة “الحفاظ على حرمة الحجاب ومراعاة القواعد المتعارف عليها بغية تعزيز الانسجام الاجتماعي والأمن العام”.
اللافت أن دوائر حقوقية وحتى رسمية في إيران، منهم أكاديميون وأساتذة جامعات، تتفق على أن هناك نسب مرتفعة بالمجتمع تصل إلى 62 في المئة ترفض الحجاب الإلزامي. وأن نحو 60 في المئة من المحجبات أنفسهن ضد أي دور للحكومة في فرض الحجاب وتعميمه على النساء. وقد سبق لوكالة أنباء الجمهورية الإسلامية أن نقلت عن أستاذ علم الاجتماع، إبراهيم حاجياني، قوله إن سياسات الحكومة في ما يخص “الحجاب والعفة”، والتي تناقش “خلف الأبواب المغلقة من دون مشاركة مجتمعية”، حسب تعبيره، لن تصل إلى نتائجها ومن المرجح فشلها.
فالقانون يواجه عصياناً وعدم قبول مجتمعي، وفق حجياني، الذي لمّح إلى إفلاس الحكومة في طرح آليات جديدة لتطبيق سياستها بشأن الحجاب. ومن ثم، طالب بضرورة الأخذ في الحسبان أن هناك تيارات ثقافية متباينة داخل المجتمع ولا يمكن اعتبارها “عدواً”. وتميل القوى المعلمنة إلى جعل المسألة في إطار الخيارات الشخصية من دون فرض ما يعتبره البعض “إرادة الله”.
المحامية والمحللة الأميركية في مجال حقوق الإنسان، آيرينا تسوكرمان، ترى أن “شرطة الأخلاق” ظلت محتفظة بسلطاتها التنفيذية، على مدار العام الماضي، بينما كانت مناورة الحكومة الإيرانية التكتيكية لـ”خداع المتظاهرين وربما الرأي العام الخارجي والمجتمع الدولي، فقط”، موضحة لـ”درج” أن النساء في إيران تعرضن للمضايقة والاعتقال بأعداد كبيرة خلال الشهور العشرة الماضية منذ اندلاع الاحتجاجات التي أعقبت مقتل مهسا أميني.
حاول بعض المسؤولين الإيرانيين التعتيم على الانتهاكات والخروقات الحقوقية، ثم كان الإعلان الغامض بتوقف تسيير شرطة الأخلاق، موقتاً، ما أتاح للحكومة فرصة الترويج بأنها “تراجع السياسة الأخلاقية”، وفق تسوكرمان. لكن “الجمهورية الإسلامية في جوهرها تتبنى على المستوى العقائدي تصورات راديكالية تجعل المرأة موضوعاً في السياسة والدين معاً. بالتالي، يتعين قولبتها ضمن احتياجاتها السلطوية ومنع أي تمرد (نسوي) يمكن أن يضحى فرضية محتملة تؤدي لسقوط وانهيار النظام بأكلمه”.
وبغض النظر عن اكتساب “شرطة الأخلاق” امتيازاتها وسلطاتها من “الولي الفقيه”، ودعم النخبة الدينية المرتبطة بمكتب المرشد الإيراني، فإن المتغير الحقيقي هو تنامي القمع والبطش بواسطة الاعتماد “بشكل متزايد على تكنولوجيا المراقبة المتقدمة، والتي يأتي بعضها من الصين. فالنساء اللواتي يمكن أن يهربن من شرطة الآداب أثناء الاحتجاجات، مثلاً، يمكن أن يتم القبض عليهن، لاحقاً، ونقلهن إلى السجون”، تقول تسوكرمان.
وفي المحصلة، فإن السياسة الأخلاقية في إيران أمست “أكثر مهارة في التكتيكات الهادئة” وترقى إلى أن تكون “إبادة ناعمة” كما تصفها المحامية والمحللة الأميركية في مجال حقوق الإنسان.