لم تخفِ الأحكام المخففة التي صدرت من القضاء العسكري الإيراني بحق المتهمين بإسقاط الطائرة الأوكرانية، مطلع عام 2020، المفارقات المتباينة مع أحكام الإعدام الهائلة التي تجعل طهران لا تغادر موقعها المتقدم، إذ تأتي في المرتبة الثانية بعد الصين بينما تشهد قفزات هائلة، سنوياً.
ففيما كان القضاء العسكري يصدر أحكامه بالسجن على المتهمين بمقتل 177 مدنياً، باشر القضاء على منصة أخرى وفي مواجهة متهمين آخرين، هم أدنى درجة في المواطنية لدى النظام، في ممارسة دوره القمعي ضد خصومه. صحيح أن الحكم في القضية الأولى يماثل الأخيرة في كونه “صورياً”، ولا يخفي “تسييس” الأحكام القضائية، فهو يؤكد بالدرجة ذاتها شرعنة النظام للقتل خارج نطاق القانون طالما يخدم أهدافه الاستراتيجية، وحساباته السياسية والخارجية.
وقد سجلت إيران قفزة بنسبة 75 في المئة، عام 2022، بخصوص أحكام الإعدام، بحسب منظمات حقوقية أجنبية. وهي الأحكام التي تكشف عن استغلال الإعدام باعتباره “أداة أساسية للترهيب والقمع من قبل النظام الإيراني بهدف الحفاظ على استقرار سلطته”.
مقتل المدنيين على طائرة مدنية رسالة خشنة من النظام للقوى الكبرى. وتكاد لا تختلف عن سجل الإعدامات التي تنفذها طهران ضد المحتجين والمعارضين. وهنا مفارقة أخرى. فإخفاء هوية المتهمين عمل مقصود مثله مثل علانية الموت التي تطاول آخرين معارضين لـ”الجمهورية الإسلامية”.
في المحصلة، نجا 10 أفراد من النظام من الموت، بينما نُفذ الإعدام بحق 14 متهماً على خلفية مقتل عضو واحد في الباسيج.
فالطائرة التي تسببت في مقتل 177 مدنياً، بعد إقلاعها من مطار الإمام الخميني في طهران، تزامن سقوطها مع تداعيات مقتل قائد فيلق القدس، قاسم سليماني، في ذروة التصعيد العنيف مع إدارة الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، ومنها تنفيذ هجمات صاروخية على قواعد أميركية بالقرب من مطار بغداد. هذه الملابسات، التي رافقت الحادث الدموي، جعلت الشبهات تحوم حول وجود عمديّة في إسقاط الطائرة بعد دقائق من إقلاعها، من قبل الحرس الثوري الذي عزا الحادث إلى “وقوع خطأ” نتيجة “إجراءات التأهب القصوى لدفاعاتها الجوية” للتصدي لـ”أيّ هجمات محتملة للجيش الأميركي”.
نجا 10 أفراد من النظام من الموت، بينما نُفذ الإعدام بحق 14 متهماً على خلفية مقتل عضو واحد في الباسيج.
ومثلما كان التسجيل المسرب لوزير الخارجية الإيراني، وقتذاك، محمد جواد ظريف، في سياق التنافس الانتخابي المحموم بين حكومة حسن روحاني والتيار الأصولي، يعزز من الشبهات وتجعلها أقرب للحقيقة، بينما استبعد عنصر “الخطأ” المزعوم من قبل “الحرس”، فإنّ الأحكام القضائية الأخيرة تؤشر بجانب المسارات السابقة إلى التسييس المرتبط بالحادث، وانتهى بأحكام وصفت بـ”الهزلية” و”غير العادلة”، مع إخفاء هوية المتهمين.
واكتفى المركز الإعلامي للجهاز القضائي العسكري بالإشارة إلى الرتب العسكرية للمدانين، من دون ذكر أسمائهم: عميد وعقيد ورائدان ونقيبان وثلاثة عسكريين برتبة الملازم. وبحسب لائحة الاتهام، فالمتهم الأول أطلق صاروخين باتجاه طائرة الركاب الأوكرانية، من دون الحصول على تصريح مسبق وبالخلاف للتعليمات، ظنّاً أنّها “صاروخ كروز”.
ووفق المركز الإعلامي للقضاء العسكري، فإنّ المدان الأول بالقضية والذي يتولى قيادة منظومة الدفاع الجوي “تور إم 1″، قد صدر ضده حكم بالسجن 13 عاماً، من بينها ثلاثة أعوام تعزيراً بتهمة القتل “شبه العمد” لركاب الطائرة، ثم عشرة أعوام أخرى بتهمة إلغاء أمر عسكري تلقاه، وما ترتب عليه من نتائج. كما أصدرت المحكمة على المتهم الأخير حكمها بدفع الدية لأولياء الدم. فيما تراوحت الأحكام بالسجن للمتهمين التسعة الآخرين بين عام وثلاثة أعوام. وذكر المركز الإعلامي للقضاء العسكري، أنّ الحكومة الإيرانية ستتكفل بتعويض كل أسرة من أسر الضحايا بمبلغ 150 ألف دولار.
اللافت أنّ القضاء الإيراني أعلن عن الأحكام التي تراوحت بين 10 إلى 13 عاماً، بينما عمد إلى التعمية التامة عن هوية المتهمين في سلوك يبعث بمخاوف جمّة من نزاهة الأحكام، بل يرقى إلى اعتباره حماية لهم، وتوفير حصانة تجعل إمكانية تعويمهم، مجدداً، في مناصبهم أمراً قابلاً للحدوث. لذا، لم يتوان الجهاز القضائي في أن يثمن جهود وأدوار القوات المسلحة الإيرانية، ويؤكد ممانعته القصوى تجاه أيّ انتقادات لأحكامه، تحديداً مقارنتها بأحكام الإعدام الصادرة بحق المنخرطين في الاحتجاجات منذ أيلول/ سبتمبر الماضي، بعد مقتل مهسا أميني وإدانتهم بـ”إثارة الشغب والحرابة”.
وفي ما يبدو أنّ التناقض الذي فضح ازدواجية النظام في إدارته السياسية للحادث المأساوي الصعب، اضطر الحكومة إلى خفض حدّة الانتقادات حتى لا تخرج عن نطاق الصحف الإصلاحية، في حين تجاهلت الصحف المتشددة والأصولية القريبة من المرشد الإيراني والحرس الثوري الأمر برمته. وواصلت حملتها ضد حكومة إبراهيم رئيسي التي تشهد حملة إقالات اضطرارية وغير مسبوقة بعد تحميلها متتالية الإخفاقات الاقتصادية، وتداعياتها السياسية والحقوقية. وبلغت الضغوط العنيفة حد المطالبة بعزل الرئيس الإيراني ذاته.
غير أنّ التلفزيون الرسمي الإيراني نقل امتعاض مواطنة إيرانية من مدينة قم، فقدت أحد ذويها. وثمّة اعتراضات مماثلة كانت على متن صفحات جريدة “اعتماد” الإصلاحية. فيما عقّب رئيس الجهاز القضائي للقوات المسلحة الإيرانية في طهران، علي افتخاري، على تلك الانتقادات بأنّه “في حال صدرت أحكام بمنع ملاحقة بعض الأشخاص فهذا يعني أن لا ذنب لهم. على مدى عام ونصف العام تمّ البت في الملف”.
إقرأوا أيضاً:
وعرج افتخاري على المفارقة التي برزت في الأحكام الأخيرة ومقارنتها بأحكام ضد المتهمين بـ”إثارة الشغب” و”العداء لله” بقوله إنّ “هذا المتهم (بإسقاط الطائرة) ارتكب ذلك بهدف الحماية، لكنّ تشخيصه كان خاطئاً وتجب معاقبته لكونه ارتكب خطأ، بيد أنّ أولئك الذين نزلوا إلى الشوارع بهدف زعزعة الأمن فعقوبتهم ستكون مختلفة ولا تنبغي المقارنة”.
وتابع: “كلف من اليوم الأول فريقاً من أفضل المحققين، وشكلنا فرقاً للخبراء مما أدّى إلى إطالة أمد البت في هذا الملف”. وعاود الحديث عن المبررات السابقة بأنّ سقوط الطائرة كان نتيجة “أخطاء متعددة”. من ثم، فالتحقيقات انتهت إلى “عدم وجود نقص في منظومة الدفاع الجوي وأنّ العامل الإنساني كان وراء الحادث بسبب تشخيص خاطئ”.
ونقلت صحيفة “اعتماد” الإيرانية المحسوبة على التيار الإصلاحي عن محامي عدد من أسر الضحايا، محمود علي زادة طبطبائي، قوله إنّ “معظم الشاكين سحبوا شكاويهم قبل آخر جلسة للمحاكمة، وقالوا إنّهم غير متفائلين بتحقيق العدالة في هذه المحكمة. لكنّني وعدداً آخر من الموكلين كنّا على أمل أن يتحقق ذلك”. وأردف: “لم تأتِ كما يريد الموكلون وسنعترض على الأحكام بعدما ما يتم إبلاغنا بها رسمياً”. وانتقد إعلان الأحكام عبر المنصات الإعلامية قبل إبلاغ أصحاب الشكاوى بها.
وذكر المحامي أنّ الأحكام التي صدرت ضد العسكريين العشرة، جاءت بناء على البند “ب” في المادة 8 لقانون العقوبات للقوات المسلحة. وتبعاً لنص القانون، فإنّ “الحرابة” تطبق بحق من يلغي أمراً عسكرياً في زمن الضرورة. وعليه، لا يجد مبرراً يجعل الأحكام لا تستند للقانون ذاته الذي يطبق في حوادث القبض على المعارضين والمحتجين في الفترة الأخيرة.
وقال المحامي إنّ أسر الضحايا “لا يريدون إصدار أحكام الإعدام بحق الأشخاص في المراكز الدنيا”، وأنّ “الحرابة” التي تورط فيها المتهمون بإسقاط طائرة مدنية نجم عنها مقتل 177 شخصاً بريئاً. وقال طبطبائي إنّ هذه الأسر بعثت بشكاوى ضد “أشخاص محددين، لكن المحكمة أصدرت حكماً بمنع ملاحقتهم”.
إذاً، ازدواجية “المعايير الدولية” في كل ما يتعلق بإيران، تؤدي لتفلت النظام، بل يؤدي إلى “إرهاب الدولة” كما هو الحال مع نموذج “الولي الفقيه، حسبما توضح المحامية الحقوقية، إيرينا تسوكرمان.
وتشير تسوكرمان لـ”درج” إلى أنّ مؤسسات “الجمهورية الإسلامية” تخضع جميعها لنطاق نفوذ سياسي وأيدولوجي عبر الحرس الثوري والقطاعات الأمنية المرتبطة به، بما يعني الـ”تسييس” المباشر للأجهزة المختلفة في الدولة للحفاظ على المصالح البراغماتية في دائرة الحكم الضيقة وهي خارج أي مساءلة، طالما أنها تتماشى مع إرادة مكتب المرشد الإيراني.
وهذه الأحكام الأخيرة تؤكد المعنى ذاته في حال مقارنتها بأيّ مسار محتمل للعدالة في إيران، فالدولة تحمي “الإرهابيين” لجهة “نشر الرعب”. وتضيف، “الإرهاب الداخلي الذي يتعرض له المواطنون المحليون لمقاومتهم الباسيح وسياسات الحرس، لا يمكن عزله عن سياق الحكم المخفف بالسجن فقط مع حماية النظام لأفراده وهوياتهم”. تقول تسوكرمان.
وتختم حديثها قائلة إنّ الاحتجاجات المتواصلة مقتل مهسا أميني على يد دورية “شرطة الأخلاق”، في إيران، تفضح “إرهاب الدولة”، فضلاً عن الدعم الدولي الهش لحركة التغيير في البلاد.