على رغم عدم اكتمال بناء منظومة الدولة السورية بعد ثلاثة أشهر على إطاحة حكم بشار الأسد، يسعى الأردن إلى الاشتباك الإيجابي مع أذرع الجارة الشمالية الآخذة بالتشكّل تدريجياً، لضمان أمن الحدود ومحاولة إبعاد دمشق عن تأثير أنقرة في المشهد الجديد.
وينطلق الأردن من مفهوم “العدو” المشترك للدولتين وخلفية الشرع وطواقِمه السفلية الجهادية؛ الخبيرة في لوجستيات التنظيم الإقصائية ومداخله ومخارجه. كذلك مواقع انتشار أتباعه وطرق تمويل داعش، منذ تمدده في سوريا والعراق مطلع العقد الماضي، قبل انكفائِه تحت مطرقة تحالف عربي دولي.
الوضع الهش والمتقلب في سوريا، وخطر وقوع مخزونات أسلحة متقدمة في أيدي جماعات متشددة، وإعادة هيكلة التنظيم في العام الماضي، ذلك كله بات يثير قلق المملكة والغرب خشية تحول سوريا النازفة إلى حاضنة جديدة لداعش وتفعيل استراتيجيات الانتقام التي قد يمارسها التنظيم.
الأمم المتحدة تؤكد هذه المخاوف، إذ ذكرت قبل أسبوعين أن البادية السورية ما زالت تُستخدم كمركز للتخطيط العملياتي الخارجي وكمنطقة حيوية “لداعش”، إذ لجأت عناصر من التنظيم الى الصحراء هرباً من فصائل منضوية تحت لواء هيئة تحرير الشام، التي انطلقت من إدلب الى حلب وحمص وحماة ووصلت الى دمشق.
خلايا نشطة ونائمة
ينتشر في سوريا قرابة خمسة آلاف داعشي بين “خلايا فاعلة ونائمة”، منذ طردِهم من آخر معاقلهم قبل ست سنوات. تلك المرحلة كانت نقطة تحول من الطابع العسكري إلى التغلغل الأمني، بحسب الباحث في شؤون الحركات الإسلامية حسن أبو هنية، الذي يرى أن التنظيم “أعاد هيكلته بشكل كبير حتى قبل سيطرة” الشرع وحلفائه. وكان داعش يستهدف قوات قسَد الكردية المدعومة أميركياً وتشكيلات النظام السابق وميليشيات مرتبطة بإيران. ويتوافق التقييم مع إعلان القيادة المركزية الأميركية ضربها 75 هدفاً لداعش في سوريا يوم هروب بشار الأسد إلى موسكو في 8 كانون أول/ ديسمبر.
وتضاعفت هجمات داعش في سوريا ثلاث مرات في العام الماضي بالمقارنة مع 2023، إذ بلغت 700 ضربة بحسب مركز صوفان في أميركا المتخصص بدراسات وأبحاث حول التحديات الأمنية والقضايا السياسة الخارجية.
وفي ضوء الفوضى الأمنية، هناك خشية من عودة داعش لاقتحام السجون على غرار هجمات 2022، حين أطلقوا سراح 500 عنصر. وأي عمل من هذا القبيل من شأنه تشجيع هجمات في تركيا المجاورة أو حتى سفر عناصر إلى أوروبا، حيث قد تتكثف ظاهرة “الذئاب المنفردة” التي تحمل الفكر الداعشي نفسه.
كذلك، تشكل عائلات وأطفال داعش المحشورون في مخيمات الهول والباغوز، والمقدر عددهم بـ 45000، مصدر تهديد أيضاً. فغالبية الأطفال المحتجزين باتوا اليوم “أشبالاً” ويمثلون قوة احتياطية للتنظيم، بحسب أبو هنية.
تتسلل عناصر أخرى من السجون والمخيمات في شمال شرقي سوريا، وتستمر قوى الأمن الداخلي في إحباط محاولات مماثلة لهروب مقاتلين وعائلاتهم. يقول أبو هنية: “تنظيم الدولة يشكل خطورة كبيرة وينتظر ماذا سيحدث”، ويضيف أن التنظيم يراهن على “حدوث فوضى وعدم استقرار بسبب المنافسات الإقليمية والدولية”، ومحاولات إيران وداعش تحريك مجاميع غاصبة للانتقام من الشرع، ما يهدد الأردن وتركيا والعراق.
وبينما تصد القوات التركية المحاصرة هجمات الميليشيات المدعومة من أميركا في شمال سوريا، يستبعد خبراء أمنيون أن تواصل تأمين المجمعات التي يحتجز فيها الآلاف من عناصر داعش وعائلاتهم.
رهان الأردن الإشكالي
منذ تفكك قوات الأسد وتراجع ميليشيات حزب الله، يقوم الجيش الأردني “بحماية أمن الحدود” من الجانب الأردني على الجبهة الشمالية، بعد رصد قيام بؤر داعشية على حساب تراجع عصابات تهريب الأسلحة والمخدرات. كما لجأت عمان الى ترتيب مجموعات في محافظة السويداء لمساعدتهم على كبح التهريب بعد رحيل الأسد.
قاعدة التنف تلعب دوراً أساسياً، فهي مركز عسكري استراتيجي أميركي في أقصى جنوب شرقي محافظة حمص عند تقاطع الحدود السورية مع الأردن والعراق، حيث تراقب عناصر داعش وتقوم مواجهتهم. وهناك اتفاق ضمني مع الشرع بمنع أي من الميليشيات المسلحة، وبعضها متشدد وتكفيري، من محاولة التوجه صوب حدود الأردن، فهذا خط أحمر بالنسبة الى عمّان وإسرائيل.
في الأثناء، تحذّر إسرائيل إدارة الشرع من “أي خطوة غير محسوبة” في المناطق المتاخمة لحدودها، مع الإصرار على أن يكون الجنوب السوري منزوع السلاح.
إرث واستشراف
الأردن الرسمي يدرك صعوبة تغيير “الحمض النووي” للشرع والفصائل المسلحة المتشدّدة المنضوية تحت لواء هيئة تحرير الشام. لكن لا مجال إلا الانفتاح عليه بخطوات تدريجية حذرة صوب علاقات أكثر توازناً مع العمق العربي السني في مواجهة نفوذ تركيا، كذلك تعريفه على سائر دول العالم وتأمين الحدود المشتركة بطول 375 كم.
الخبير في الجيوسياسية والأمن الوطني الأستاذ الجامعي د. عامر السبايلة، يرى أن الأردن لا يزال في مرحلة بناء الثقة مع منظومة الشرع، ويقول في لقاء مع “درج”: “الجميع قد يعوّل على الشرع إذا أثبت فعلاً أنه يريد أن يكون شريكاً، وأن يكون عبوره لشرعنة علاقاته مع المجتمع الدولي عبر بوابة مواجهة داعش”
أظهرت عمان إشارات إيجابية عدة للشرع، عندما زارها أخيراً لساعتين في ثالث محطة خارجية له – بعد الرياض وأنقرة، استقبله الملك عبدالله على سلم الطائرة ومشى الرجلان على سجادة حمراء. عرّفه الملك على كبار رجال الدولة قبل أن يقلّه في سيارته المصفحة السوداء الى قصر رغدان.
بحسب مصادر قريبة من هذا الملف، سيطر هاجس الأمن على الحدود ومحاربة التنظيمات المتشددة والتهريب على أجواء المحادثات الأردنية-السورية، وبحسب مسؤولين رفضوا الكشف عن أسمائهم، عمان مستعدة لتدريب عناصر القوات الخاصة للجيش الجديد قيد التشكيل وإرسال مدربين إلى سوريا لتدريب العناصر.
مقاربة أردنية
في لقاءاته بالوفود العربية والغربية، اقترح العاهل الأردني أفكاراً عدة للتعامل بإيجابية مع التغيير في سوريا، منها إشراك الشرع بجهود مكافحة داعش لضمان عدم استئناف نشاط التنظيمات الإرهابية التي تهاجم حلفاء الولايات المتحدة ومصالحها، وإبقاء الضغط عليه لضمان بناء سورية جديدة تتسع للكل من خلال الإبقاء على سلاح العقوبات وتخفيفها تدريجياً وفق مبدأ خطوة مقابل خطوة.
ويشير أيضاً إلى عدم انسحاب القوات الأميركية من منطقة الإدارة الذاتية التي تحميها قوات قسد، وقوامها قرابة 100 ألف مقاتل غالبيتهم من الأكراد، فبقاء القوات الأميركية في شمال شرقي سوريا يساهم في تحقيق توازن قوى ومحاربة أي تهديد انتقامي قد يأتي من حلفاء الأسد، بعد تراجع نفوذهم في سوريا ولبنان.
يتم أيضاً تداول فكرة عدم إغلاق السجون التي تؤوي الدواعش وترحيلهم الى سجون في العراق لمحاكمتهم، أو الضغط على الدول التي ينتمون إليها لاستعادة مواطنيها، ناهيك بضرورة استمرار متابعة العلامات الفارقة لبناء سورية، بما في ذلك “معايير” تشكيل كل من الحكومة والمجلس التشريعي المؤقت الذي سيحدد شكل الدستور وهوية الدولة، بحيث تكون مظلة للجميع بعيداً عن الإقصاء والتهميش واستحواذ السلطة.
يوضح مسؤول أردني أن للمملكة تحفظات عدة على طريقة أداء الشرع ونزعته للتفرد بالسلطة واختياره شخصيات من لون واحد، والتخبط في تنفيد قرارات يطالبه بها الغرب مثل “سلق” مؤتمر الحوار الوطني، ناهيك بمخاوف من طول الفترة التي حددها الشرع لإجراء انتخابات تشريعية.
وأضاف المسؤول: “نضطر أن نمرر الأمور التي لا تعجبنا لأننا لا نريد فوضى على الحدود أو اقتتالاً في دمشق لأن ذلك سيدفع بموجات لجوء جديدة. لكننا لن نستطيع الانتظار كثيراً في حال لم يغير أدائه”، وسيكون هناك موقف موحد مع الغرب للتعامل معه.
التحالف الدولي وخطر داعش
يتوقع الباحث السوري منهل باريش أن يلجأ الشرع الى قتال التنظيم حتى لو لم يعتمد على التحالف الدولي بشكل مباشر إنما بالتعاون استخباراتياً، وهذا ما يتماشى مع موقف الأردن ومعظم دول التحالف الدولي، التي ترى أن الشرع “حصان رابح” في مواجهة داعش، الذي يسعى الى الانتقام من الشرع ويتهمه بتمرير معلومات أدت الى مقتل زعيم القاعدة أبو بكر البغدادي في عملية نفذتها قوات أميركية خاصة شمال سوريا أواخر 2019.
دبلوماسي أوروبي في عمان يرى أن الشرع بات مفتاح التعامل مع الدواعش، بتصنيفاتِهم قائلاً: “يعرف مداخل التنظيم ومخارجه، أنماط تحركهم واختبائهم، ومؤهلاتهم القتالية، ومصادر تمويلهم. وقد سجن بعضهم في مناطق سيطرته السابقة في إدلب”.
أشارت 6 مصادر أمنية عربية وأوروبية الى أن الشرع بات يمد قوات التحالف بمعلومات تساعد على تنفيذ ضربات لاصطياد كبار المتشددين مقابل كسب دعمهم في المرحلة الانتقالية، ولفت مصدر عربي إلى إن “الشرع معني بمساعدة التحالف في مقابل مساعدته وإثبات نفوذه”.
ويقول مصدر غربي إن “الشرع وطاقمه الأمني الاستخباري يستخدمون معرفتهم بالتنظيم وملحقاته كنقطة قوة في الحوار مع الغرب والعرب في مقابل ضمان استمرارهم، مثلما كانت الاستخبارات العاملة تحت نظام الأسد تفعل مع الاستخبارات العربية والأجنبية”.
ويستطرد: “يزودوننا بمعلومات تسمح لنا بإجراء ضربات محددة تستهدف كبار الإرهابيين من باب إثبات حسن النوايا”.
لكن التحدي يكمن في أن التعامل بين المؤسسات الأمنية والاستخبارية وعناصرها كان واضحاً تحت نظام الأسد، بعكس الوضع تحت الشرع، حيث التعامل مع أفراد بانتظار إعادة بناء المؤسسات الأمنية والجيش.
لكن التعاون الاستخباراتي بين الشرع والتحالف اتضح خلال الشهر الماضي، إذ أعلنت وسائل إعلام سورية أن الطيران الأميركي شن غارة جوية على ريف إدلب، استهدفت قائدين عسكريين سابقين في تنظيم “حراس الدين” المتحالف مع تنظيم داعش، ما أدى إلى مقتل القائد العسكري السابق في التنظيم أبو عبد الرحمن الليبي والقائد العسكري فضل الله الليبي، وقبلها أعلنت قوات القيادة المركزية عن مقتل وسيم تحسين بيرقدار، وهو قيادي كبير في التنظيم نفسه.
الأردن و”مكافحة الإرهاب”
يلعب الأردن دوراً محورياً في دعم جهد التحالف الدولي، إذ يستضيف قواعد عسكرية للتحالف في الصحراء الشاسعة: قاعدة الشهيد موفق سلطي الجوية على بعد مئتي كيلومتر من الحدود العراقية وقاعدة الملك عبدالله الثاني في منطقة الغباوي في الصحراء الشرقية، وعلى تخوم عمان مكتب استخبارات غربي يرتبط بالتحالف ويعمل على تحليل المعلومات ومشاركتها.
دبلوماسي غربي في عمان يرى أن المعلومات التي تجمعها المقاتلات والمسّيرات تؤكد تنامي حراك داعش في البادية السورية المجاورة للأردن والعراق، “قواتنا تراقب تحركاتهم كل الوقت وتطلق عليهم النار فوراً وبلا رحمة لسحقهم”، يشرح الدبلوماسي، مؤكداً: “لن نسمح بعودتهم أبداً”.