“”تعرّضتُ لمحاولة اعتداء قبل نصف ساعة تقريبًا، قابلني شخصٌ وأنا أسيرُ في الزمالك، وقف بعد ما تخطاني بخطوات، ناظرًا باتجاهي، وهو يصوّرني بهاتفه، التفتُّ له نحو ثلاث مرّات، وبعد عدّة امتار وقف للحظات بجانبه ثلاث دراجات بخاريّة، بدون لوحات معدنية(او بلا لوحات ظاهرة) فوق كل واحد شخصين، ساروا مسرعين في تتابع باتجاهي ، قال أحدهم-على الموتوسيكل في المنتصف: هوّ ابن الوسخة ده وأشار للبقيّة، فوّتتُ اعتداء الأوّل بقفزي للرصيف، وفاتني الثاني دون محاولة وطالني الثالث بضربتينِ أحدهما باليد على الرقبة وجانب الوجه الأيسر والثانية بعصا خشبية على الكتف الأيسر”.
تعرض الناشط السياسي والشاعر المصري أحمد دومة لمحاولة اعتداء في شوارع القاهرة، هذه المرة ليست بسبب مساندته للثورة ولا آراءه السياسية باعتباره أحد أبرز وجوه ثورة يناير المصرية، لكن الاعتداء هذا المرة جاء بعد حالة الجدل الخطيرة حول ديوانه” كيرلي” فقد جرى اتهامه بـ “الاعتداء على الذات الإلهية وازدراء الأديان” ورغم صعوبة العشر سنوات التي قضاها دومة في السجن بسبب مواقفه السياسية إلا أن التحريض الحالي ضده قد يكون أكثر خطورة من سنوات الاعتقال..
موت المؤلف
ظهرت نظرية “موت المؤلف” قبل خمسين عاماً على يد رولان بارت، التي تتلخص في أن الكاتب ينفصل عن منتجه الأدبي بمجرد نشره، لكن السلطات الأمنية لا تعترف كثيراً بهذه النظرية.
نشرت صفحة النيابة العامة بتاريخ 5 تشرين الأول/ أكتوبر الحالي قراراً بأمر النائب العام المصري، باتخاذ إجراءات التحقيق في البلاغات المقدمة من العديد من الأشخاص، بشأن نشر ديوان شعر “يتضمّن عبارات تحمل اعتداءً على الذات الإلهية وازدراء الأديان”، وأمرت النيابة العامة بتكليف لجنة من الأزهر “لفحص عبارات الديوان”.
هذه ليست المرة الأولى في مصر التي يذهب فيها نص أدبي قابل للتأويل أو ديوان شعر إلى المحاكمة بالطبع، فقد ذهبت الشاعرة أمينة عبد الله بسبب قصيدة في ديوانها “بنات الألم” في عام 2022، كذلك الكاتب كرم صابر لنشر مجموعته القصصية “أين الله” وذلك في عام 2013. في الوقت الذي حفظ فيه النائب العام المستشار محمد شوقي بلاغاً تقدّم به عدد من المحاميين والمدافعين عن حقوق الإنسان، بإدراج رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو على قوائم الإرهاب داخل مصر، في ذكرى حرب أكتوبر، بعد أيام معدودة من تقديمه.
هذه المرة يذهب ديوان “كيرلي” للشاعر أحمد دومة (أشعار بالعامية المصرية) إل التحقيق، بعدما قدم عدد من الأشخاص بلاغات ضده، حيث يبدو أنهم قرأوا بعض المقتطفات منه على الإنترنت فقط، لأن الديوان ممنوع من النشر منذ عام 2021. وقد قوبلت كل محاولات نشر الديوان وتوقيعه بالتهديد والملاحقة الأمنية، الأمر الذي جعل الدكتورة ليلى سويف أستاذة العلوم في جامعة القاهرة تستضيف دومة لتنظيم حفل توقيع في منزلها. ودومة بالأساس ناشط سياسي ومدافع عن حقوق الإنسان، مما يثير التساؤل عن السبب الحقيقي لمحاكمته بتهمة ازدراء الأديان.
امتد الاستياء من ديوان دومة من الشيوخ وعلماء الأزهر إلى الخبراء القانونيين، الذين تقدموا ببلاغ للنائب العام ضد كاتب الديوان ومالك دار النشر “المرايا” ومديرها التنفيذي والعاملين فيها، وصولاً إلى الإعلامي ومقدم البرامج أحمد موسى، الذي هاله ما وصل إليه من ديوان دومة، لدرجة أنه لم يستطع التفوه بعبارات الديوان على الهواء.
وتهمة ازدراء الأديان تطال شرائح واسعة من المصريين، بدايةً من ناقدي التراث الديني كما حدث في حالة أحمد عبده ماهر على خلفية كتابه “إضلال الأمة بفقه الأئمة”، إلى الأكاديميين، ولا تنتهي بالمواطنين من الأقليات الدينية الذين يكتبون منشورات على موقع “فيسبوك” أو يتعرضون للأديان في محادثات خاصة. وتؤكد المبادرة المصرية للحقوق الشخصية في إحدى الأوراق الصادرة عنها في العام 2016 للباحث عادل رمضان، عدم دستورية المادة 98 (و) من قانون العقوبات المصري؛ وهي مادة ازدراء الأديان، التي تنص على معاقبة كل من يستغل الدين في الترويج قولاً وكتابة لأفكار متطرفة بقصد إحداث فتنة، بالسجن مدة لا تقل عن ستة أشهر.

خرج أحمد دومة من السجن في آب/ أغسطس 2023 بعد عشر سنوات كاملة في زنزانة انفرادية، وتهمته الأساسية ذات العقاب الأبدي هي مشاركته في “ثورة يناير”. ودومة كا سلف ناشط سياسي وكاتب وشاعر ارتبط اسمه بالثورة، وكان قد أُدين بالسجن المشدد 15 سنة، على خلفية قضية أحداث رئاسة الوزراء، لكنه خرج بعفو رئاسي، كأحد نتائج الحوار الوطني الذي لم يكلّف النظام المصري الكثير من التنازلات في مجال الإفراج عن معتقلي الرأي والمعتقلين السياسيين.
“أنا يا حلوتي مشبهش
لا السلاطين ولا الأبطال
ولا حيلتي سوى – هذي القصايد –
مال”
على سلم نقابة الصحافيين يقف دومة مجدداً، ليهتف لغزة التي تتعرض للإبادة على الهواء مباشرة لمدة عام كامل. خروج دومة من السجن أثار حفيظة العديدين على الرغم من قضائه 10 سنوات كاملة فيه، وفي كل مرة يتردد اسم دومة يُثار الجدال ذاته الذي يريد الاحتفاظ بالأسماء المرتبطة ب”يناير” في السجن بشكل دائم، لأن الرئيس المصري يرى أنها استهدفت هدم الدولة وأن “اللي حصل في 2011 مش هيحصل تاني”.
“ووقت الخيبة قسمناها
بالقسطاس
رصاص وأنين”
يقول الشاعر دومة ل”درج”: “رغم يقيني بجهل هؤلاء الذين يصدرون القرارات من هذا النوع، إلا أنها قرارتهم مبنية على الكاتب لا الكتاب، وجنونها الأخير- بالمعنى السلبي للجنون- سببه سياسي لا علاقة له بالديوان أيضاً”، ويدعو الجميع “ألا ينسوا: أن كل هذا فقط على قصيدة، وديوان شعر، وقبلها على رسوم كاريكاتير مع العزيز أشرف عمر، وعلى تقرير مع خالد ممدوح، وعلى كلمة واعتقاد مع علاء عبد الفتاح، وعلى انحياز مع الدكتور أبو الفتوح والقصّاص وأوكسجين وأحمد عرابي وشريف الروبي ومروة عرفة والآلاف غيرهم، هؤلاء لا جريمة لهم إلا كلمتهم واعتقادهم ووقوفهم في مواجهة جرائم السلطة”.
ويحكي عن تاريخ كتابته ديوان “كيرلي” في معتقل طرة قائلاً: “الديوان كُتبت قصائده بامتداد الاعتقال الأخير (عشر سنوات) وقد سبقه ديوان آخر كتب في المدة من 2013 إلى 2016 وقد صودر بعد نقلي إلى المستشفى بسبب إضرابي، وحُرقَ هو وبقية متعلّقاتي في ليمان طرة، وضم (كيرلي) ما بقيَ على قيد الحياة والحرية من قصائد بامتداد السنين منذ 2016”.
ويضيف: “حتى (كيرلي) فُقدت قصائد منه في الطريق إلى الحرية؛ كل قصائده مهرّبة بطريقة أو بأخرى إلى الخارج، مع الأسرة أو مع محامين وزملاء معتقلين وأسرهم، وما زلتُ أفتّش عن المفقود منذ خرجت، لأني فقدت معها وبالطريقة ذاتها رسائل خاصة وقصصاً قصيرة ومكاتيب؛ ونُشرَ كما يُلاحظ لمن حظي بفرصة الوصول إلى نسخة منه، أنه منشور بترقيم التهريب، وبغير أسماء القصائد لأن الورقة المكتوب عليها عناوين القصائد قد فُقدت، كما أنه نُشر بترتيب التهريب لا الكتابة أو الموضوع”.
حرق “كيرلي” تم تزامناً مع وجود دومة في مستشفى قصر العيني في عنبر المعتقلين، عن هذا يقول: “نُقلت بعد بقائي لعدة أيام في العناية المركزة في مستشفى السجن، فيما كانت تفيد تقارير الأطباء من الداخلية أو وفد نقابة الأطباء والنيابة، بأن الحالة الصحية وصلت إلى درجة خطرة، وعليه يجب أن أُنقل إلى مستشفى خارج السجن، وأن البقاء على قيد الحياة على هذه الحال ليس مضموناً لأكثر من ساعات، حينها خاض الرفاق والرفيقات مع الأسرة معركةً بالخارج ليُسمح بنقلي، في هذا الوقت كان محمد ناجي شحاتة قاضي المؤبدات قد أمر بمنع نقلي من السجن حتى إلى المستشفى، ونجح الأصدقاء في إيصال سيارة إسعاف ونقلي فجراً إلى مستشفى قصر العيني”.
ويضيف: “في هذا الوقت اقتحمت قوة من سجن ليمان طرة زنزانتي الانفرادية وصادرت متعلقاتي (المكتوبة) وبعد عدة أشهر، إن لم تخنّي الذاكرة، أتصوّر بعد انتهاء فحص أمن الدولة للأوراق وكانت كثيرة للغاية ما بين رسائل وقصائد ومقالات وغيرها، قاموا بإعدامها، داخل برميل معدني في مكان مخصص في إدارة السجن”.
رأى دومة بعينيه بقايا حريق قصائده في داخل “برميل” عندما نُقل إلى سجن ليمان طرة من المستشفى، لتقديم أحد امتحانات الجامعة التي كانت ممنوعة قسراً هي الأخرى.
بعدما نجح في تهريب بعض القصائد منحها دومة اسم “كيرلي” باسم إحدى قصائد الديوان، وأجرى عدة محاولات لنشرها، وصدرت بالفعل عن دار “المرايا” في عام 2021، لكن لم يتسنَ للكثيرين الحصول على الديوان بسبب اقتحام قوة أمنية جناح الدار في معرض الكتاب ومصادرته، وأمرت بمنع نشره أو توزيعه أو عرضه.
وكانت دار “المرايا” ذاتها قد تعرضت للاقتحام الأمني، وأُلقي القبض على مديرها يحيى فكري بعد يوم واحد من مناقشة كتاب “شبح الربيع”، هذا الكتاب الذي لن تعثر عليه على أرفف مكتبات القاهرة أبداً، لأنه يحمل اسم علاء عبد الفتاح المدوّن والكاتب وصديق دومة في سنوات الاعتقال الطويلة.
وانتي الجفا طبعك
والقسوة فيكي صفة
يا مصر: أنا تبعك
كوني بقى منصفة
يضيف دومة أن كل محاولات تنظيم احتفالات توقيع للديوان تقابل بالملاحقة، فقبل 4 شهور تقريباً، حين أعلن إقامة حفل توقيع للديوان في حضور المئات من الكتاب والمبدعين والنقاد والشعراء والجمهور، وبدأ الحديث عن الديوان وقصائده، جنّ جنون الأجهزة فألغت حفل التوقيع، ثم أعلنت دار “المرايا” تأجيل حفل التوقيع ل”أسباب خارجة عن إرادة الجميع”.
ويتابع دومة: “كمبرر للإلغاء أطلقت أمن الدولة صبيانها المعمّمين، بفتاوى تكفيرية (اعتبرتها وما زلت تحريضاً على القتل) أُعيد فيها تدوير كل النصوص والمنطق الداعشي للتخلّص مني ومن الديوان، عقاباً “شرعياً” على وقاحتنا أو تجرّؤنا أو حتى- كما أعتقد – على مجرد وجودنا”.
ويرى دومة أن “تكفيره” والهجوم عليه بدعوى الإساءة للذات الإلهية خطر على المجتمع والوطن ككل، ويقول: “يمكن ببساطة مراجعة الرسائل التي وردتنا، أو التعليقات في تويتر وفيسبوك وغيرهما، لإدراك خطورة مثل هذا التحريض المجرم الذي قاموا به، واستدعاء الحوادث التاريخية التي قررت فيها الدولة أو أحد أجهزتها الأمنية إخراج هذا الوحش الدميم من مخبأه، ونتائج ذلك الممتدة لإدراك أن هؤلاء (صبيان السلطة المعمّمين وصبيانها الأمنيين) كلاهما يشكّل خطراً على هذا البلد وأمنه القومي وحياة أهله، بهذا الأداء الداعشي”.
وشبر وقبضة خنّاقة من الزنازين
بنتشارك
في كل صغيرة وكبيرة
حتى في إننا مجانين
يشدد دومة على أنه لن يقبل مناقشة قصائده على غير منصّة الإبداع من المتلقّي أو الناقد، ويرى أنه “ليس من حق أي مؤسسة رسمية ولا قضائية ولا دينية فحص أو تحليل أو إدانة أو تبرئة العمل الإبداعي والشعر خاصة، وإن كان في السلطة ثمة عاقل واحد؛ ولو عقلنة عارضةً لبعض الوقت، عليه أن يوقف هذا التحريض والهوَج الأمني، وأن يدرك خطورة هذا السلوك، لا عليّ وكتبي فقط، إنما على البلد كله والسلطة ضمناً”.
ويؤكد أن محاولات إسكاته لن تنجح في ثنيه عن الكتابة أو النشر، وما زال في حوزته 7 كتب بين الشعر والنصوص الأدبية والمقالات والقصة القصيرة، وهو يبحث لها عن ناشر، ولن تمنعه سنوات الاعتقال والتعذيب والحبس الانفرادي عن الكتابة والوجود.