ترد في القرآن، قصة عن الرجل المقتول من بني إسرائيل، الذي أحياه الله من الموت ليشير إلى قاتله، ثم يعود إلى الموت مرة أخرى. غالباً ما تم ربط الحكاية بمعنى تحقيق العدالة الإلهية حين تخذلنا عدالة الأرض، وقد تكون قصة حقيقية، لكن على الأقل لم يشاهد أحد منا مثلها من قبل، لولا أننا شاهدنا ما حدث للاعب المصري أحمد رفعت، الذي عاد حرفياً من الموت ليشير إلى قتلته، ثم يموت مجدداً.
كان رفعت لاعب نادي “مودرن فيوتشر”، قد سقط على أرض ملعب الإسكندرية في أثناء مواجهة فريقه مع نادي “الاتحاد السكندري”، ليفقد الوعي بسبب توقف عضلة القلب، ويستمر في غيبوبة لفترة، قبل أن يعود إلى الوعي بعد عودة القلب للعمل بعد الإنعاش القلبي الرئوي، ونسبة العائدين إلى الحياة بعد الإنعاش القلبي الرئوي هي 10% فقط، بحسب الجمعية الأميركية لطب القلب، قبل أن يخرج رفعت من المستشفى بعد شهر لاستكمال العلاج في منزله، مع متابعة طبية حذرة، تشترط ألا يبذل أي مجهود.
إلى هنا لم يكن أحد يعرف ماذا حدث لرفعت حقيقة، حتى أتيحت له الفرصة قبل أيام قليلة، للظهور في برنامج إبراهيم فايق على قناة “إم بي سي” مصر ـ السعودية، ليشير إلى أن ما حدث له كان نتيجة تعرضه إلى أذى نفسي كبير من أشخاص يتمتعون بنفوذ كبير، ليموت بعد أيام من اللقاء، لنعرف جميعاً أن رفعت مع تكشف التفاصيل قد مات قهراً بسبب الفساد الرياضي، ويسبب موته أكثر مما يسببه حجر في ماء راكد، يسبب زلزالاً.
حتى من لا يشعر بارتباط قوي بكرة القدم، تأثر بقصة أحمد رفعت، وأنه قد حمّلنا جميعاً مسؤولية الوصول إلى قاتليه، وهو ملف لا يكشف فقط ما حدث للاعب، بل فساد منظومة بأكملها.
أحمد رفعت والتجنيد الإلزاميّ
يُعد رفعت واحداً من أبرز اللاعبين في الدوري المصري، لعب في “إنبي” و”الزمالك”، وأُعير إلى “الاتحاد المصري” قبل أن ينتقل عام 2021 إلى نادي “مودرن فيوتشر”، كما مثل منتخب مصر.
ظهرت مشكلة رفعت مع التجنيد في أثناء لعبه في النادي المصري، وقد ضغط نادي “طلائع الجيش” للحصول على خدمات اللاعب مجاناً، بسبب أزمة التجنيد، لكن النادي المصري سوّى المسألة بانتقال اثنين من لاعبيه مجاناً، مقابل بقاء رفعت في النادي.وظل رفعت بعد انتقاله من النادي المصري إلى نادي “مودرن فيوتشر” وسيف أزمة التجنيد الإجباري معلقاً فوق رقبته.
هذه الحالة لا تخص رفعت فقط، بل سبق أن ضغط نادي “طلائع الجيش” تحت حجة الطلب للتجنيد، على أندية ولاعبين للعب معه مجاناً، أو التنسيق مع الخدمة العسكرية حول شكل قضاء اللاعب للتجنيد، بشكل يسمح له باللعب مع ناديه محلياً وخارجياً، ومن أشهر هؤلاء اللاعبين الذين ضغط عليهم باسم الطلب للتجنيد محمد صلاح بعد انتقاله من نادي “بازل” السويسري إلى نادي “تشيلسي”، في أزمة لم تحل إلا بعد تدخل المهندس إبراهيم محلب رئيس الوزراء في تلك الفترة.
نادي “مودرن فيوتشر” هو نادي أسسته مجموعة من قيادات حزب “مستقبل وطن” المحسوب على الدولة والمؤسس بإشراف الأجهزة، وعلى رأسهم أحمد دياب الذي كان حتى وقت قريب الرئيس التنفيذي للنادي، وصفقات النادي لا تخلو من شبهات الضغط السياسي، كما أن تأسيسه جزء من خطة الدولة لدعم أندية غير جماهيرية.
المرة الأولى التي سُمع فيها باسم أحمد دياب، كان في عام 2020، بصفته رجل أعمال يترأس شركة “الصعيد للصلب”، ويملك مؤسسة “فيوتشر أوتوموتيف”، ورُشِّح من قبل حزب “مستقبل وطن” التابع للأجهزة الأمنية، في انتخابات مجلس الشيوخ عن محافظة الجيزة، مما أعاد إلى الذاكرة قضية نواب القروض في التسعينيات، التي اتُهم فيه عدد من رجال الأعمال، من بينهم إحسان دياب والد أحمد دياب، إلى جانب أربعة من نواب مجلس الشعب في ذلك الوقت، وأدينوا بتهمة التهرب من سداد قروض حصلوا عليهم من البنوك.
عاد اسم دياب للسطوع في سبتمبر/ أيلول 2021، عندما أعلن تأسيس شركة “فيوتشر” للاستثمار الرياضي، مستحوذة على نادي “كوكاكولا” الصاعد حديثاً للدوري الممتاز، وتحول دياب إلى رئيس لنادي “فيوتشر” لكرة القدم بعد تغيير اسم نادي “كوكاكولا”، قبل أن يعلن تعيين دياب رئيساً لرابطة الأندية، ويصبح وهو الذي لا تاريخ له في اللعبة، إلى أهم شخص في منظومة كرة القدم في مصر، يتحكم بكل شيء.
الحجة التي تم تداولها بخصوص دياب مفادها إنه كونه قادماً من خارج اللعبة، سيعطيه الفرصة من الفساد الراسخ فيها، لكن ذلك لم يحدث، وقصة رفعت دليل واضح، دليل ربما يشير إلى عشرات اللاعبين الذين مورس ضدهم القهر، واستغلهم سماسرة اللعبة، أحمد دياب لم يكن إلا سمساراً جديداً، لكنه على عكسهم، أول سمسار ذو نفوذ.
الانتقال إلى الإمارات وتُهمة “التهرب من الجيش”
انتقل رفعت بعد تألقه مع منتخب مصر في البطولة العربية، إلى نادي “فيوتشر” الذي يحتل دياب في تلك الآونة منصب رئيسه التنفيذي، قبل أن يتلقى عرضاً في 26 أكتوبر/ تشرين الأول 2022، من نادي “الوحدة” الإماراتي، مقابل خمسمئة ألف دولار على سبيل الإعارة لمدة موسم، وهي الإعارة التي قُطعت بعد ستة أشهر لتراجع مستوى اللاعب.
ما نعرفه الآن، نعرفه فقط بأثر رجعي، فلم ينتبه أحد حينها إلى اختفاء رفعت عن المشهد، لعدة أشهر، قبل أن يعود إلى اللعب في نادي “فيوتشر” لبضع مباريات، قبل أن يسقط في غيبوبة في أثناء إحدى المباريات.
فما نعرفه الآن بعد مقارنة الروايات، التي ظهرت في الإعلام إثر وفاة اللاعب، على لسان وكيل أعماله نادر شوقي وشقيقه ومحاميه والدفاع الهزيل لدياب، هو أن عرض الإعارة كان يمثل خطراً على رفعت؛ نظراً لأن اللاعب الذي كان في سن التاسعة والعشرين من عمره وقتها، لم يسو أزمته مع التجنيد، أي أن السفر خارج مصر لفترة طويلة بدون تصريح، أمر قد يعرضه للمحاكمة العسكرية، لكن دياب طمأنه بشأن تسوية الأزمة مع التجنيد.
بحسب ما ثبت لاحقاً، فقد استغل دياب سفر رفعت مع بعثة نادي “فيوتشر” لخوض مباراة ضمن بطولة إفريقيا خارج مصر من خلال تصريح سفر مؤقت إلى ليبيريا، لإرسال اللاعب إلى الإمارات، بعد توقفه ترانزيت في غانا، ولتسهيل سفره، حث وزارة الرياضة على استخراج تصريح سفر لثلاثة أشهر فقط، كمعايشة مع نادي “الوحدة” الإماراتي على وعد بتسوية المسألة لاحقا.
وثيقة التصريح التي أذيعت على الهواء في برنامج إبراهيم فايق على “إم بي سي” مصر، في الحلقة التي أعقبت وفاة رفعت، واستُضيف فيها وكيله نادر شوقي، تورط كلاً من دياب ووزارة الرياضة، إذ إنه من الصعب أن يخرج لاعب محترف قارب الثلاثين من العمر، على سبيل المعايشة، كما أن العقد كان لمدة موسم كامل لا لثلاثة أشهر.
في الإمارات ظل اللاعب في انتظار أن يفي دياب بوعوده بتسوية أوراقه مع التجنيد، وهو ما لم يحدث، مما سبب تراجع مستواه بسبب قلقه وافتقاره للتركيز، فقرر نادي “الوحدة” فسخ التعاقد، على عكس الادعاءات العديدة، التي روجت لرفع المسؤولية عن دياب أن الفسخ حدث لأسباب أخلاقية، وهو ما أكده رئيس نادي “الوحدة” الإماراتي مع الإعلامي الرياضي هاني حتحوت، أن فسخ التعاقد حدث بسبب تراجع المستوى، كما أكد أن دياب توقف عن الرد على اتصالاتهم بشأن تسوية مشكلة رفعت مع التجنيد، بعد تحويل المقابل المادي لانتقاله.
بعد وصول رفعت إلى الإمارات فوجئ النادي الإماراتي بطلب من دياب، بألا يشارك في المباريات بسبب الجدل حول موقفه من التجنيد، لكن “الوحدة” رفض باعتبار أنه سدد قيمة الصفقة كاملة؛ ومن ثم يحق له الاستفادة من لاعبه، حسب الهنائي.
أما رفعت نفسه فرغم تألقه في أول مباراة شارك فيها، حيث سجل هدفاً وصنع آخر، فإنه بدأ يتأثر بموقفه، خاصة وأنه تلقى اتصالات تخبره بأنه مطلوب ضبطه وإحضاره من قبل الشرطة العسكرية، وأن موقفه بات صعباً، وسيخضع لإجراءات قانونية تخص التجنيد، حسب ما صرح به مسؤول نادي “الوحدة” في مداخلته مع حتحوت.
مجرم مدان !
بعد عودة رفعت اعتُبر هارباً من التجنيد، وحوكم عسكرياً بالسجن لمدة عامين، خُففت لاحقاً لمدة شهرين بسبب حسن نية اللاعب، بعد الإفراج عنه، تردد رفعت على ملعب مركز جهاز الرياضة العسكري “ملعب طلائع الجيش”، ليتدرب منفرداً، ويسجل حضوره، وفق تصريح لأحد لاعبي نادي “طلائع الجيش” نقلته “صحيح مصر”، وأكدته صورة نشرها على صفحته الشخصية على “إنستغرام” تظهره يجري تدريباته وحيداً، وهو ما لم نعرف عنه شيئاً، إلا بعد وفاته.
لم يكن اتهام رفعت أخلاقياً، هو الاتهام الوحيد الذي روجته آلة دياب الإعلامية، فعقب سقوطه في الملعب في المرة الأولى، روج الإعلامي أحمد شوبير وأحد قيادات نادي “فيوتشر” أن ما حدث للاعب حدث بسبب المنشطات، ولاحقاً روجت الآلة عينها أن مرضه بسبب عيب خلقي في القلب، وهو أمر غير منطقي؛ لأن مجرد إصابته بهذا العيب تعفيه من التجنيد من البداية.
النتيجة هو تحول رفعت من لاعب يحصل على ما تفرضه موهبته إلى سجين مدان،
دفع الجدل المستمر منذ إعلان الوفاة على السوشيال ميديا ووسائل الإعلام وزارة الشباب والرياضة، إلى تشكيل لجنة تحقيق “بدأت عملها بالفعل” حسب محمد الشاذلي المتحدث باسم الوزارة.
ومن المنتظر خروج اللجنة بنتائج حول وقائع التصريح والتهرب من التجنيد، لتعرض على وزير الشباب والرياضة أشرف صبحي، الذي أصدر قراراً بتكليف اللجنة القانونية العليا بالوزارة، بالتحقيق في الملابسات كافة، وفحص المستندات كلها الخاصة بسفر اللاعب الراحل.
حتى الآن أسفرت تداعيات ما حدث بإقالة الإعلامي أحمد شوبير، بحسب بيان أصدرته المتحدة، وإقالة وليد دعبس رئيس نادي “فيوتشر”، لكن من دون تحقيقات رسمية، وحتى في حالة إقالة دياب، فستكون مجرد عملية استبدال وجه بآخر.
ربما لا ينعكس فساد الوسط الرياضي المصري خارجه، لكنه يمثل بوضوح حجم الفساد في البلد ككل، وعلى عكس فساد الدولة، تظل واحدة من التقاليد القديمة هي السماح بحرية نسبية في مهاجمة الفساد الرياضي، لكن تلك المرة، بعد أن امتدت السيطرة الأمنية بشكل لا لبس فيه على الرياضة، لتحويل كرة القدم إلى لعبة بلا جماهير، خوفاً من تمرد تلك الجماهير، وعقاباً لمشاركة ألتراس الأندية الجماهيرية في “ثورة يناير”، بتعيين رجالها الذين لا علاقة لهم باللعبة، لكنهم بكل تأكيد منخرطون في فسادهم.