fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

“أحياء على قيد الموت” : من يحمي الناشطات الليبيات من الاغتيال؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

النزاعات السياسية والتردي الأمني وهشاشة الدولة على مدار السنوات العشر الماضية هيأت الطريق أمام الميليشيات المسلحة المنتشرة في البلاد، لتمارس أشكالاً مختلفة من الإجرام بحق المرأة الليبية…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“مذ بدأت العمل على قضايا حقوقية وبخاصة تلك المتعلقة بالمرأة، انطلق مسلسل التهديدات بالقتل إلكترونياً وحتى هاتفياً، وآخر هذه المحاولات ملاحقتي بسيارة معتمة من دون لوحة منجمية، يقودها مسلح في أحد الشوارع…”، تروي مروة سالم التحديات التي تواجهها في ليبيا هي ونساء كثيرات. ومروة حقوقية ونسوية وتعمل اعلامية في قناة “تبادل” تعيش حالياً في ليبيا، ونشطة  في حملة  لمناهضة العنف ضد  النساء، وتطرح في البرامج التي  تقدمها قضايا جدلية خصوصاً تلك المتعلقة بالنساء وبالحقوق عامة.  

وتهديد النساء الناشطات سياسياً وحقوقياً بات ظاهرة تؤرق الليبيات مع تعرض كثيرات للقتل والاستهداف، لكن مروة تقول إنها  مصرة على الاستمرار  في نشاطها، “هذه المسألة في بلادي هي قضية موت وحياة. فالنساء في ليبيا ميتات في كل الأحوال، نحن أحياء على قيد الموت ولا نمتلك أدنى مقومات الحياة والكرامة الإنسانية”.

تدرك مروة أن واقع النساء في ليبيا بالغ الصعوبة، لا سيما اللواتي اخترن الدفاع عن حقوقهن، وإعلاء أصواتهن في وجه سلطة أفلتت ميليشياتها هنا وهناك، تترصدهن ولا تتوانى عن استهدافهن بالتهديد والخطف والاعتقال والتنكيل والقتل، من دون رادع أو حامٍ حقيقي لحياتهن من هذا الجحيم الذي فتحت أبوابه أمامهن منذ سنوات. 

حنان البرعصي

البرعصي… آخر الضحايا

النزاعات السياسية والتردي الأمني وهشاشة الدولة على مدار السنوات العشر الماضية هيأت الطريق أمام الميليشيات المسلحة المنتشرة في البلاد، لتمارس أشكالاً مختلفة من الإجرام بحق المرأة الليبية، كان آخرها اغتيال المحامية والناشطة حنان البرعصي بوابل من الرصاص في وضح النهار، وفي أحد الشوارع الحيوية في مدينة بنغازي بعد أيام قليلة من انتقادها نجل المشير خليفة حفتر، قائد “الجيش الوطني الليبي” الذي يسيطر على شرق ليبيا.

والبرعصي التي تبلغ من العمر 46 سنة والملقبة بـ”عجوز برقة” هي من أبرز الناشطات المدافعات عن حقوق النساء في شرق ليبيا وهي رئيسة “منظمة الرحمة لرد المظالم”. وإن عرفت بتأييدها للجيش الليبي إلا أن ذلك لم يمنعها من توجيه سهام نقدها للميليشيات والمتورطين في الفساد من النافذين في السلطة. وكانت عرضت في الأيام الأخيرة التي سبقت حادث اغتيالها قصصاً لنساء تعرضن للاعتداء والاختطاف والاغتصاب على يد بعض ميليشيات شرق ليبيا، كما شنت بعد ذلك هجوماً على نجل حفتر، بسبب حصوله على رتبة عقيد في الجيش مبكراً على خلاف الضوابط، وتعهدت بكشف النقاب عن شخصيات فاسدة. ويرجح متابعون للشأن الليبي أن هذه التصريحات هي التي أدت إلى مقتلها. 

وعلى رغم موجات التنديد الواسعة محلياً ودولياً ببشاعة الحادث وخطورته، إلا أن لا مؤشرات عن إمكان تتبع الجناة أو تحميل أي جهة المسؤولية عن قتل الضحية، في تكرار لسيناريوات التعاطي مع حوادث الاغتيال السابقة التي استهدفت ناشطات جاهرن بمواقفهن وآرائهن إزاء بعض الأحداث والتجاوزات. إذ لم يتم الإعلان إطلاقاً عن إدانة أي طرف، على رغم تعدد حوادث الاغتيال وتنوع أشكال الاستهداف الأخرى للمرأة في هذا البلد، الأمر الذي بات يشجع الجناة على مواصلة ارتكاب جرائمهم. 

ما يعزز استهداف المرأة الليبية عموماً، والحقوقيات خصوصاً، هو غياب المساءلة وصمت السلطات المعنية محلياً ودولياً عن الجرائم التي ترتكب بحقهن، فلا ملاحقات أمنية أو قضائية فعلية مع جرائم الاغتيال، وهذا التعاطي السلبي زاد من حصانة الجناة وشجعهم على مواصلة تعنيف المرأة واستهداف الحقوقييات دون أدنى خوف من الملاحقة. 

تسأل مروة سالم: “هل يعقل ألا تتم مساءلة أي جانٍ أو متورط في حوادث اغتيال الحقوقيات سلوى بوقعيقيص وفريحة البركاوي وسهام سرقيوة وانتصار الحصائري وحنان البرعصي وغيرهن، وألا تُفرض عقوبات دولية للضغط على الحكومات لتوقف تخاذلها وتهاونها ومشاركتها في بعض الأحيان؟”. 

وتقول: “إن العنف المسلط ضد المرأة في ليبيا متنوع وينخرط فيه الجميع فهو يتراوح بين العنف اللفظي والجسدي والابتزاز العاطفي في العمل في الفضاءات العامة والتحرش ومحاولات التحقير والترهيب والاختطاف والقتل. وتشارك الأسرة والمجتمع والميليشيات في هذا كله، وطبعاً من دون أن ننسى الدولة الليبية التي تتعمد التحقير من شأن المرأة وعدم إنصافها قانونياً. بل إنه من مفارقات ما يحصل أن الميليشيات في الشرق والغرب، اختلفت حول كل شيء ولكنها اتفقت على استهداف المرأة وسلب حقوقها”.

قتل  النساء

المرأة الليبية حضرت بقوة إبان الحراك السياسي والمدني الذي شهدته البلاد في 2011 ، وقد سعت الليبيات إلى تدعيم مكاسب الثورة ونجحن إلى حد ما عام 2012، عندما حصدت النساء 33 مقعداً في المؤتمر الوطني الليبي بأول انتخابات أجريت في البلاد بعد انتهاء حكم القذافي. لكن سرعان ما فوجئت المرأة الليبية بواقع يناقض آمالها، لا سيما بعد انقسام البلاد إلى حكومتين متصارعتين في الشرق والغرب عام 2014، والتي تمخض عنها وضع أمني في غاية الخطورة تمسك بزمامه ميليشيات متطرفة وأخرى عسكرية استفادت من ضعف الدولة وفرضت أنماطاً حياتية بقوة السلاح، فكانت الناشطات الهدف المثالي لهؤلاء. وبذلك انطلق مسلسل الاغتيالات والقتل والعنف والتعذيب والسجن والاغتصاب والحجز والاختفاء القسري الذي طاول عدداً مهماً من النساء الفاعلات على الساحة السياسية والحقوقية في البلاد.

ففي الـ25 حزيران/ يونيو 2014، اغتيلت المحامية والناشطة السياسية سلوى بوقعيقيص بعد نشرها أسماء ثلاثة جنود ليبيين، قتلوا في يوم واحد في مدينة بنغازي، على صفحتها على “فايسبوك”. علماً أن بوقعيقيص هي أيضاً من رموز الثورة باعتبارها أحد مؤسسي المجلس الوطني الانتقالي الليبي.

وفي 17 تموز/ يوليو 2014 اغتيلت عضوة مجلس النواب فريحة البرقاوي، بإطلاق الرصاص على سيارتها في مدينة درنة، وكانت استقالت من منصبها في شباط/ فبراير من السنة نفسها، احتجاجاً على تمديد ولاية المجلس، وهي كانت معروفة بانتقادها الشديد والعلني لأعضاء البرلمان آنذاك.

وفي 29 أيار/ مايو 2014 قتلت الصحافية نصيب كرنافة، في مدينة سبها جنوب ليبيا بعدما خطفت مع خطيبها، في مدينة سبها وتم العثور على جثتيهما في مقبرة بضواحي المدينة، وعليهما آثار تعذيبٍ وحشي، وذكر تقرير الطب الشرعي آنذاك أنه تم ذبح كرنافة بآلة حادة.

وفي 21 تشرين الثاني/ نوفمبر 2014 هز اغتيال الناشطة الليبية الشابة سارة الديب، في منطقة “حي الأندلس” بالعاصمة طرابلس، الأوساط الثقافية والحقوقية في ليبيا.

وفي 23 شباط 2015، اغتيلت الناشطة انتصار الحصائري، التي وجدت مقتولة بأداة حادة، في الحقيبة الخلفية لسيارتها في طرابلس. وقد كانت عضوة مؤسسة في “حركة تنوير” ذات التوجه الليبرالي المهتمة بنشر ثقافة القراءة والوعي المجتمعي، وشاركت في تظاهرات منددة بالجماعات الإرهابية.

وفي تشرين الثاني 2017، كشف المبعوث الأممي إلى ليبيا غسان سلامة عن مقتل 31 امرأة ليبية وإصابة 41 أخرى منذ مطلع عام 2017 جراء أعمال العنف في البلاد.

وفي 17 تموز 2019، اقتحم عشرات المسلحين الملثمين منزل  النائبة والناشطة الحقوقية سهام سرقيوة في بنغازي، شرق ليبيا، وقد اعتدى الرجال بالضرب على ابنها (16 سنة)، وأطلقوا النار على ساق زوجها، قبل أن يسحلوها بعيداً ولم يعثر عليها حتى اليوم. وكانت سرقيوة دعت علناً في الليلة التي سبقت اختطافها إلى توقف هجوم الجيش الوطني الليبي على طرابلس. وبعد هذه الحادثة، بنحو سنة، اغتيلت الناشطة حنان البرعصي في وضح النهار في رسالة موجهة لا للنساء حصراً، إنما إلى الجميع، إلى كل من يتجرؤ على النقد بصوت عالٍ، بحسب الناشطة الحقوقية الليبية رتاج (اسم مستعار خوفاً على سلامتها) التي كشفت عن تعرضها لمضايقات وتهديدات على مواقع التواصل الاجتماعي بسبب دفاعها عن قضايا المرأة في بلادها.

وتذهب رتاج إلى هذا الاعتقاد لأن أغلب الذين اغتيلوا بدوافع سياسية قد تم اقتيادهم لجهة مجهولة ومن ثم قتلهم ورميهم أو حتى قتلهم في منازلهم ليلا، ولكن اغتيال حنان البرعصي كان في وضح النهار في شارع حيوى يعج بالمارة ما يعني برأيها أنه قد تم بهدف معين وليس اعتباطياً، لا سيما وأنه قد حدث بعد مرور أقل من 24 ساعة من آخر بث مباشر لها انتقدت فيه أشخاصاً في أعلى هرم السلطة في المنطقة الشرقية. لا سيما أيضاً أن الحادثة، بحسب رتاج، قد حركت ذاكرة الليبيين وعادت بهم إلى تاريخ قريب “لسنوات الظلام” حين كانت جماعة أنصار الشريعة تسيطر على بنغازي وينفّذون اغتيالات بالبشاعة ذاتها، ما زادت المخاوف من عوجة المدينة إلى المربّع الأول من العنف والقتل. 

في تشرين الثاني 2017، كشف المبعوث الأممي إلى ليبيا غسان سلامة عن مقتل 31 امرأة ليبية وإصابة 41 أخرى منذ مطلع عام 2017 جراء أعمال العنف في البلاد.

تؤكد “منظمة العفو الدولية” في تقاريرها أن الناشطات والمدونات والصحافيات الليبيات يتم إسكاتهن على نحو متزايد جراء تعرضهن للعنف القائم على النوع الاجتماعي، تارة من خلال العنف الجسدي، وطوراً باختطافهن وإخضاعهن للعنف الجنسي، وأحياناً، بمحاولات ترهيبهن عبر حملات الإساءة لسمعتهن وإطلاق البذاءات ضدهن لكونهن إناث. وهذا ما تؤيده رتاج التي تحمّل مختلف مكونات المجتمع الليبي مسؤولية استهداف النساء في بلادها.

تقول رتاج لـ”درج”، “إن المجتمع بمعظم مكوناته يرفض مسألة الدفاع عن حقوق المرأة وأي تحركات تصب في هذا السياق، بسبب تأثير عادات وتقاليد خاطئة متوارثة يعززها الجانب الديني. ولهذا فإن كل امرأة تختار السير في هذا الطريق تتعرض في الحد الأدنى للسب والشتم على مواقع التواصل الاجتماعي”.

وتضيف: “لهذه الممارسات تأثيرات كبيرة على الناشطات والمدافعات عن حقوق المرأة نظراً إلى طبيعة المجتمع المحافظ الذي ما زال يقيس شرف العائلة بسمعة المرأة. ذلك أنه غالباً ما يتم إقحام مسألة الشرف والطعن في سلوكيات أي سيدة تتعرض للتهديد أو للاغتيال، ما يخفف عزيمة كثيرات في الدفع عنها. وحدث ذلك حتى في قضية حنان البرعصي للأسف، فعلى رغم بشاعة الحادث ووقعه الكبير، إلا أنها كانت عرضة للنقد. نضطر مع كل عملية اغتيال لأن نصمت لفترة تحت وقع الصدمة، وما يرافقها من حملات تشويه للضحايا وبسبب توصيات أسر الضحايا وأحياناً تهديداتهم لنا وخوفهم علينا أيضاً”.

بعد انقسام البلاد إلى حكومتين متصارعتين في الشرق والغرب عام 2014، والتي تمخض عنها وضع أمني في غاية الخطورة تمسك بزمامه ميليشيات متطرفة وأخرى عسكرية استفادت من ضعف الدولة وفرضت أنماطاً حياتية بقوة السلاح، فكانت الناشطات الهدف المثالي لهؤلاء

وبحسب إعلان بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، فإن المرأة الليبية لا تزال تواجه الخوف من الانتقام والوصم بالعار، وتعاني من انعدام المساواة المتأصل بين الجنسين، مع ما يرافق ذلك من افتقار إلى الثقة في النظام القضائي، الذي ما زال يشكل عائقاً أمام حماية الحيز المدني وتعزيز دور المدافعات عن حقوق الإنسان والناشطات السياسيات.

وعلى رغم اهتمامها بقضايا المرأة والدفاع عنها وعن حقوقها، إلا أن رتاج تجزم بأن تكميم الأفواه وعمليات الاعتقال والإخفاء القسري والاغتيال لا تتم برأيها لاستهداف المرأة على وجهة الخصوص. “فالجميع مستهدف فما أن يحاول أحد رفع صوته والمطالبة بحقوقه، ولكن أعتقد أن تكميم الأفواه يكون أشدّ للنساء، لأن العالم والمنظمات الدولية يثقون بأصوات النساء ومطالباتهن أكثر من الرجال. ولا تغيب هذه الحقيقة عن أذهان السلطة في ليبيا لذلك تم اغتيال أغلب من تصدرن الساحة على غرار سلوى وفريحة البركاوي وسهام سرقيوه وأخيراً حنان البرعصي وغيرهن”.

وفي “مؤشر النساء والسلام والأمن لعام 2019-2020” الصادر عن مجلة National Geographic، بالتعاون مع “معهد جورج تاون للنساء والسلام والأمن” و”معهد أبحاث السلام في أوسلو”، احتلت ليبيا المركز 158 عالمياً و19 عربياً، وحصلت ليبيا على تصنيف سيئ في معايير التمثيل الحكومي والبرلماني والتوظيف والتعليم، كما حصلت على تصنيف سيئ جداً في عملية العنف المنظم ونسبة الوفيات الناتجة عن العنف المسلح.

ولكن على رغم هذا الواقع المخيف والمربك فإن رتاج تراهن على زيادة عدد المدافعات عن حقوق المرأة والمتصدرات للمشهد السياسي، فهذا برأيها مؤشر إلى ارتفاع منسوب الوعي لدى الليبيين، وتأكيد أن المرأة الليبية تملك الشجاعة الكافية للاستمرار في كفاحها حتى تحقق غاياتها ويسمع العالم صراخها ويستجيب!

سلام فريحات | 24.04.2025

“مخيم جرش” في الأردن: غزّيو النكبة الأولى

أعاد القرار بتأسيس وكالة "للتهجير الطوعي" للفلسطينيين في قطاع غزّة المنكوب، ذكريات تجارب قاسية ومريرة  لغزّيين نزحوا إلى الأردن عقب نكسة 1967، واستقرّوا  في مخيّم جرش المكتظّ، الذي يعاني من نقص حادّ في الخدمات الأساسية وسط تفشي البطالة والفقر. 
27.11.2020
زمن القراءة: 8 minutes

النزاعات السياسية والتردي الأمني وهشاشة الدولة على مدار السنوات العشر الماضية هيأت الطريق أمام الميليشيات المسلحة المنتشرة في البلاد، لتمارس أشكالاً مختلفة من الإجرام بحق المرأة الليبية…

“مذ بدأت العمل على قضايا حقوقية وبخاصة تلك المتعلقة بالمرأة، انطلق مسلسل التهديدات بالقتل إلكترونياً وحتى هاتفياً، وآخر هذه المحاولات ملاحقتي بسيارة معتمة من دون لوحة منجمية، يقودها مسلح في أحد الشوارع…”، تروي مروة سالم التحديات التي تواجهها في ليبيا هي ونساء كثيرات. ومروة حقوقية ونسوية وتعمل اعلامية في قناة “تبادل” تعيش حالياً في ليبيا، ونشطة  في حملة  لمناهضة العنف ضد  النساء، وتطرح في البرامج التي  تقدمها قضايا جدلية خصوصاً تلك المتعلقة بالنساء وبالحقوق عامة.  

وتهديد النساء الناشطات سياسياً وحقوقياً بات ظاهرة تؤرق الليبيات مع تعرض كثيرات للقتل والاستهداف، لكن مروة تقول إنها  مصرة على الاستمرار  في نشاطها، “هذه المسألة في بلادي هي قضية موت وحياة. فالنساء في ليبيا ميتات في كل الأحوال، نحن أحياء على قيد الموت ولا نمتلك أدنى مقومات الحياة والكرامة الإنسانية”.

تدرك مروة أن واقع النساء في ليبيا بالغ الصعوبة، لا سيما اللواتي اخترن الدفاع عن حقوقهن، وإعلاء أصواتهن في وجه سلطة أفلتت ميليشياتها هنا وهناك، تترصدهن ولا تتوانى عن استهدافهن بالتهديد والخطف والاعتقال والتنكيل والقتل، من دون رادع أو حامٍ حقيقي لحياتهن من هذا الجحيم الذي فتحت أبوابه أمامهن منذ سنوات. 

حنان البرعصي

البرعصي… آخر الضحايا

النزاعات السياسية والتردي الأمني وهشاشة الدولة على مدار السنوات العشر الماضية هيأت الطريق أمام الميليشيات المسلحة المنتشرة في البلاد، لتمارس أشكالاً مختلفة من الإجرام بحق المرأة الليبية، كان آخرها اغتيال المحامية والناشطة حنان البرعصي بوابل من الرصاص في وضح النهار، وفي أحد الشوارع الحيوية في مدينة بنغازي بعد أيام قليلة من انتقادها نجل المشير خليفة حفتر، قائد “الجيش الوطني الليبي” الذي يسيطر على شرق ليبيا.

والبرعصي التي تبلغ من العمر 46 سنة والملقبة بـ”عجوز برقة” هي من أبرز الناشطات المدافعات عن حقوق النساء في شرق ليبيا وهي رئيسة “منظمة الرحمة لرد المظالم”. وإن عرفت بتأييدها للجيش الليبي إلا أن ذلك لم يمنعها من توجيه سهام نقدها للميليشيات والمتورطين في الفساد من النافذين في السلطة. وكانت عرضت في الأيام الأخيرة التي سبقت حادث اغتيالها قصصاً لنساء تعرضن للاعتداء والاختطاف والاغتصاب على يد بعض ميليشيات شرق ليبيا، كما شنت بعد ذلك هجوماً على نجل حفتر، بسبب حصوله على رتبة عقيد في الجيش مبكراً على خلاف الضوابط، وتعهدت بكشف النقاب عن شخصيات فاسدة. ويرجح متابعون للشأن الليبي أن هذه التصريحات هي التي أدت إلى مقتلها. 

وعلى رغم موجات التنديد الواسعة محلياً ودولياً ببشاعة الحادث وخطورته، إلا أن لا مؤشرات عن إمكان تتبع الجناة أو تحميل أي جهة المسؤولية عن قتل الضحية، في تكرار لسيناريوات التعاطي مع حوادث الاغتيال السابقة التي استهدفت ناشطات جاهرن بمواقفهن وآرائهن إزاء بعض الأحداث والتجاوزات. إذ لم يتم الإعلان إطلاقاً عن إدانة أي طرف، على رغم تعدد حوادث الاغتيال وتنوع أشكال الاستهداف الأخرى للمرأة في هذا البلد، الأمر الذي بات يشجع الجناة على مواصلة ارتكاب جرائمهم. 

ما يعزز استهداف المرأة الليبية عموماً، والحقوقيات خصوصاً، هو غياب المساءلة وصمت السلطات المعنية محلياً ودولياً عن الجرائم التي ترتكب بحقهن، فلا ملاحقات أمنية أو قضائية فعلية مع جرائم الاغتيال، وهذا التعاطي السلبي زاد من حصانة الجناة وشجعهم على مواصلة تعنيف المرأة واستهداف الحقوقييات دون أدنى خوف من الملاحقة. 

تسأل مروة سالم: “هل يعقل ألا تتم مساءلة أي جانٍ أو متورط في حوادث اغتيال الحقوقيات سلوى بوقعيقيص وفريحة البركاوي وسهام سرقيوة وانتصار الحصائري وحنان البرعصي وغيرهن، وألا تُفرض عقوبات دولية للضغط على الحكومات لتوقف تخاذلها وتهاونها ومشاركتها في بعض الأحيان؟”. 

وتقول: “إن العنف المسلط ضد المرأة في ليبيا متنوع وينخرط فيه الجميع فهو يتراوح بين العنف اللفظي والجسدي والابتزاز العاطفي في العمل في الفضاءات العامة والتحرش ومحاولات التحقير والترهيب والاختطاف والقتل. وتشارك الأسرة والمجتمع والميليشيات في هذا كله، وطبعاً من دون أن ننسى الدولة الليبية التي تتعمد التحقير من شأن المرأة وعدم إنصافها قانونياً. بل إنه من مفارقات ما يحصل أن الميليشيات في الشرق والغرب، اختلفت حول كل شيء ولكنها اتفقت على استهداف المرأة وسلب حقوقها”.

قتل  النساء

المرأة الليبية حضرت بقوة إبان الحراك السياسي والمدني الذي شهدته البلاد في 2011 ، وقد سعت الليبيات إلى تدعيم مكاسب الثورة ونجحن إلى حد ما عام 2012، عندما حصدت النساء 33 مقعداً في المؤتمر الوطني الليبي بأول انتخابات أجريت في البلاد بعد انتهاء حكم القذافي. لكن سرعان ما فوجئت المرأة الليبية بواقع يناقض آمالها، لا سيما بعد انقسام البلاد إلى حكومتين متصارعتين في الشرق والغرب عام 2014، والتي تمخض عنها وضع أمني في غاية الخطورة تمسك بزمامه ميليشيات متطرفة وأخرى عسكرية استفادت من ضعف الدولة وفرضت أنماطاً حياتية بقوة السلاح، فكانت الناشطات الهدف المثالي لهؤلاء. وبذلك انطلق مسلسل الاغتيالات والقتل والعنف والتعذيب والسجن والاغتصاب والحجز والاختفاء القسري الذي طاول عدداً مهماً من النساء الفاعلات على الساحة السياسية والحقوقية في البلاد.

ففي الـ25 حزيران/ يونيو 2014، اغتيلت المحامية والناشطة السياسية سلوى بوقعيقيص بعد نشرها أسماء ثلاثة جنود ليبيين، قتلوا في يوم واحد في مدينة بنغازي، على صفحتها على “فايسبوك”. علماً أن بوقعيقيص هي أيضاً من رموز الثورة باعتبارها أحد مؤسسي المجلس الوطني الانتقالي الليبي.

وفي 17 تموز/ يوليو 2014 اغتيلت عضوة مجلس النواب فريحة البرقاوي، بإطلاق الرصاص على سيارتها في مدينة درنة، وكانت استقالت من منصبها في شباط/ فبراير من السنة نفسها، احتجاجاً على تمديد ولاية المجلس، وهي كانت معروفة بانتقادها الشديد والعلني لأعضاء البرلمان آنذاك.

وفي 29 أيار/ مايو 2014 قتلت الصحافية نصيب كرنافة، في مدينة سبها جنوب ليبيا بعدما خطفت مع خطيبها، في مدينة سبها وتم العثور على جثتيهما في مقبرة بضواحي المدينة، وعليهما آثار تعذيبٍ وحشي، وذكر تقرير الطب الشرعي آنذاك أنه تم ذبح كرنافة بآلة حادة.

وفي 21 تشرين الثاني/ نوفمبر 2014 هز اغتيال الناشطة الليبية الشابة سارة الديب، في منطقة “حي الأندلس” بالعاصمة طرابلس، الأوساط الثقافية والحقوقية في ليبيا.

وفي 23 شباط 2015، اغتيلت الناشطة انتصار الحصائري، التي وجدت مقتولة بأداة حادة، في الحقيبة الخلفية لسيارتها في طرابلس. وقد كانت عضوة مؤسسة في “حركة تنوير” ذات التوجه الليبرالي المهتمة بنشر ثقافة القراءة والوعي المجتمعي، وشاركت في تظاهرات منددة بالجماعات الإرهابية.

وفي تشرين الثاني 2017، كشف المبعوث الأممي إلى ليبيا غسان سلامة عن مقتل 31 امرأة ليبية وإصابة 41 أخرى منذ مطلع عام 2017 جراء أعمال العنف في البلاد.

وفي 17 تموز 2019، اقتحم عشرات المسلحين الملثمين منزل  النائبة والناشطة الحقوقية سهام سرقيوة في بنغازي، شرق ليبيا، وقد اعتدى الرجال بالضرب على ابنها (16 سنة)، وأطلقوا النار على ساق زوجها، قبل أن يسحلوها بعيداً ولم يعثر عليها حتى اليوم. وكانت سرقيوة دعت علناً في الليلة التي سبقت اختطافها إلى توقف هجوم الجيش الوطني الليبي على طرابلس. وبعد هذه الحادثة، بنحو سنة، اغتيلت الناشطة حنان البرعصي في وضح النهار في رسالة موجهة لا للنساء حصراً، إنما إلى الجميع، إلى كل من يتجرؤ على النقد بصوت عالٍ، بحسب الناشطة الحقوقية الليبية رتاج (اسم مستعار خوفاً على سلامتها) التي كشفت عن تعرضها لمضايقات وتهديدات على مواقع التواصل الاجتماعي بسبب دفاعها عن قضايا المرأة في بلادها.

وتذهب رتاج إلى هذا الاعتقاد لأن أغلب الذين اغتيلوا بدوافع سياسية قد تم اقتيادهم لجهة مجهولة ومن ثم قتلهم ورميهم أو حتى قتلهم في منازلهم ليلا، ولكن اغتيال حنان البرعصي كان في وضح النهار في شارع حيوى يعج بالمارة ما يعني برأيها أنه قد تم بهدف معين وليس اعتباطياً، لا سيما وأنه قد حدث بعد مرور أقل من 24 ساعة من آخر بث مباشر لها انتقدت فيه أشخاصاً في أعلى هرم السلطة في المنطقة الشرقية. لا سيما أيضاً أن الحادثة، بحسب رتاج، قد حركت ذاكرة الليبيين وعادت بهم إلى تاريخ قريب “لسنوات الظلام” حين كانت جماعة أنصار الشريعة تسيطر على بنغازي وينفّذون اغتيالات بالبشاعة ذاتها، ما زادت المخاوف من عوجة المدينة إلى المربّع الأول من العنف والقتل. 

في تشرين الثاني 2017، كشف المبعوث الأممي إلى ليبيا غسان سلامة عن مقتل 31 امرأة ليبية وإصابة 41 أخرى منذ مطلع عام 2017 جراء أعمال العنف في البلاد.

تؤكد “منظمة العفو الدولية” في تقاريرها أن الناشطات والمدونات والصحافيات الليبيات يتم إسكاتهن على نحو متزايد جراء تعرضهن للعنف القائم على النوع الاجتماعي، تارة من خلال العنف الجسدي، وطوراً باختطافهن وإخضاعهن للعنف الجنسي، وأحياناً، بمحاولات ترهيبهن عبر حملات الإساءة لسمعتهن وإطلاق البذاءات ضدهن لكونهن إناث. وهذا ما تؤيده رتاج التي تحمّل مختلف مكونات المجتمع الليبي مسؤولية استهداف النساء في بلادها.

تقول رتاج لـ”درج”، “إن المجتمع بمعظم مكوناته يرفض مسألة الدفاع عن حقوق المرأة وأي تحركات تصب في هذا السياق، بسبب تأثير عادات وتقاليد خاطئة متوارثة يعززها الجانب الديني. ولهذا فإن كل امرأة تختار السير في هذا الطريق تتعرض في الحد الأدنى للسب والشتم على مواقع التواصل الاجتماعي”.

وتضيف: “لهذه الممارسات تأثيرات كبيرة على الناشطات والمدافعات عن حقوق المرأة نظراً إلى طبيعة المجتمع المحافظ الذي ما زال يقيس شرف العائلة بسمعة المرأة. ذلك أنه غالباً ما يتم إقحام مسألة الشرف والطعن في سلوكيات أي سيدة تتعرض للتهديد أو للاغتيال، ما يخفف عزيمة كثيرات في الدفع عنها. وحدث ذلك حتى في قضية حنان البرعصي للأسف، فعلى رغم بشاعة الحادث ووقعه الكبير، إلا أنها كانت عرضة للنقد. نضطر مع كل عملية اغتيال لأن نصمت لفترة تحت وقع الصدمة، وما يرافقها من حملات تشويه للضحايا وبسبب توصيات أسر الضحايا وأحياناً تهديداتهم لنا وخوفهم علينا أيضاً”.

بعد انقسام البلاد إلى حكومتين متصارعتين في الشرق والغرب عام 2014، والتي تمخض عنها وضع أمني في غاية الخطورة تمسك بزمامه ميليشيات متطرفة وأخرى عسكرية استفادت من ضعف الدولة وفرضت أنماطاً حياتية بقوة السلاح، فكانت الناشطات الهدف المثالي لهؤلاء

وبحسب إعلان بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، فإن المرأة الليبية لا تزال تواجه الخوف من الانتقام والوصم بالعار، وتعاني من انعدام المساواة المتأصل بين الجنسين، مع ما يرافق ذلك من افتقار إلى الثقة في النظام القضائي، الذي ما زال يشكل عائقاً أمام حماية الحيز المدني وتعزيز دور المدافعات عن حقوق الإنسان والناشطات السياسيات.

وعلى رغم اهتمامها بقضايا المرأة والدفاع عنها وعن حقوقها، إلا أن رتاج تجزم بأن تكميم الأفواه وعمليات الاعتقال والإخفاء القسري والاغتيال لا تتم برأيها لاستهداف المرأة على وجهة الخصوص. “فالجميع مستهدف فما أن يحاول أحد رفع صوته والمطالبة بحقوقه، ولكن أعتقد أن تكميم الأفواه يكون أشدّ للنساء، لأن العالم والمنظمات الدولية يثقون بأصوات النساء ومطالباتهن أكثر من الرجال. ولا تغيب هذه الحقيقة عن أذهان السلطة في ليبيا لذلك تم اغتيال أغلب من تصدرن الساحة على غرار سلوى وفريحة البركاوي وسهام سرقيوه وأخيراً حنان البرعصي وغيرهن”.

وفي “مؤشر النساء والسلام والأمن لعام 2019-2020” الصادر عن مجلة National Geographic، بالتعاون مع “معهد جورج تاون للنساء والسلام والأمن” و”معهد أبحاث السلام في أوسلو”، احتلت ليبيا المركز 158 عالمياً و19 عربياً، وحصلت ليبيا على تصنيف سيئ في معايير التمثيل الحكومي والبرلماني والتوظيف والتعليم، كما حصلت على تصنيف سيئ جداً في عملية العنف المنظم ونسبة الوفيات الناتجة عن العنف المسلح.

ولكن على رغم هذا الواقع المخيف والمربك فإن رتاج تراهن على زيادة عدد المدافعات عن حقوق المرأة والمتصدرات للمشهد السياسي، فهذا برأيها مؤشر إلى ارتفاع منسوب الوعي لدى الليبيين، وتأكيد أن المرأة الليبية تملك الشجاعة الكافية للاستمرار في كفاحها حتى تحقق غاياتها ويسمع العالم صراخها ويستجيب!

27.11.2020
زمن القراءة: 8 minutes
|

اشترك بنشرتنا البريدية