fbpx

أردوغان يتلاعب بواشنطن

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

حالت الديبلوماسيّة الأميركيّة دون اجتياح تركيّ للحدود السورية، وتدلّ على هذا اتّفاقيّة حول شمال شرقي سوريا، أبرمها مسؤولون أتراك وأميركيّون. غير أنّ هناك سبباً يجعل المسؤولين الأتراك يزعمون بزهوٍ أنّ الاتفاقيّة تمثّل إذعان واشنطن لمكانتهم وموقفهم.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

كلّ شيءٍ في واشنطن دائماً في “حالة تأهّب قصوى”، إذ تسود بين محلّلي السياسات الخارجية وصنّاع السياسات والصحافيّين، حالة قلق دائم بشأن كارثة بعيدة المدى على وشك الوقوع في الولايات المتّحدة. وهكذا، في الأسابيع الماضة، بدا كثيرون على قناعة بأنّ تركيا قد تجتاح شمال شرقي سوريا. ونشرَت “واشنطن بوست” تقاريرَ تفيد بأنّ إدارة ترامب تقوم بجهودٍ “أخيرة” لدرء ما قد يمثّل كارثة مؤكّدة. كما أشارت تقارير إخباريّة ومحلّلون إلى “مؤشّرات” تدل على أنّ القوّات المسلّحة التركيّة كانت على وشك التدفّق عبر الحدود السوريّة، ثم لم يحدث شيء.

حالت الديبلوماسيّة الأميركيّة الماهرة دون الاجتياح التركيّ، وتدلّ على هذا اتّفاقيّة حول شمال شرقي سوريا، أبرمها مسؤولون أتراك وأميركيّون في 7 آب/ أغسطس الجاري. غير أنّ هناك سبباً يجعل المسؤولين الأتراك يزعمون بزهوٍ أنّ الاتفاقيّة تمثّل إذعان واشنطن لمكانتهم وموقفهم. من الغريب أنّ قليلين جدّاً فكّروا في احتمال أن تكون تهديدات الرئيس التركيّ رجب طيّب أردوغان بالغزو هي محض خدعة أو تكتيك تفاوضيّ نُشِر بسوء نيّة. لكن الرئيس التركيّ يفهم واشنطن جيّداً، ويعرف أنّه سيكون قادراً على احتواء مَن في دوائر القرار الأميركيّ، من خلال التهديد بتدمير الشراكة الاستراتيجيّة بين الولايات المتّحدة وتركيا. وهي الفكرة التي وجَّهت مسارَ السياسات الثنائيّة لعقود، ومفادها أنّ البلدَين لديهما أهداف مشتركة في السياسة الخارجيّة ورؤية ما لتحقيقها. يدرك أردوغان أنّ الشراكة ماتت بالفعل، ويسعده أن يستغلّ أيّ أميركيّ لا يدرك هذا.

بالتأكيد لم يكن الاعتقادُ أنّ الأتراك قد يجتاحون سوريا محض وهم أو خيال، فقد هدّد أردوغان بأن يُعطي أوامره للجيش التركيّ بدخول شمال شرقي سوريا 8 مرّاتٍ منذ كانون الثاني/ يناير 2018، وكانت آخر ثلاثة تهديدات بين أواخر تمّوز/ يوليو، ومطلع آب من هذا العام. وأردوغان عموماً هو رجلٌ يفي بكلمته. في نهاية صيف 2016، أطلق الأتراك عمليّة درع الفرات على طول الحدود السوريّة، وفي مطلع عام 2018، احتلّ الجيش التركيّ بلدة عفرين بالتعاون مع الجيش السوريّ الحرّ. الأهمّ من ذلك أنّ الأتراك لديهم الدافع إلى هذا الاجتياح، فالقادة الأتراك وعامّة الشعب وتقريباً كلّ المحلّلين الغربيّين يدركون أنّ القوات القتاليّةَ لأكراد سوريا -والمعروفة باسم “وحدات حماية الشعب” (YPG)، وهي الهدف الرئيسيّ لأيّ عمليّة توغّل تركي محتمَل- مرتبطةٌ ارتباطاً مباشراً بـ”حزب العمّال الكردستانيّ” (PKK)، وهو مجموعة إرهابيّة تشنّ حرباً على الدولة التركيّة على مدى العقود الأربعة الماضية.

إلّا أنّ أيّ تحليلٍ موضوعيّ قد يكشف الكثير من الأسباب المقنعة التي تدفعنا إلى الاعتقاد بأنّ تهديدات الأتراك لم تكن سوى خدعة لانتزاع بعض التنازلات من واشنطن. السبب الأول هو أن لا ضرورة لهذا الاجتياح؛ فالأراضي التي يسمّيها الأكراد “روج آفا” (كردستان الغربيّة) هي ممزّقة بالفعل. فتركيا تسطير على الأراضي من جرابلس شرقاً إلى الحدود التركيّة غرباً. طالما بقي الأتراك هناك، وليس هنالك مؤشّرٌ على أنّهم ينوون الرحيل، فلن يكون بمقدور الأكراد توحيد تلك الأراضي التي يطمحون إلى إعلانها دولة.

السبب الثاني هو أنّ الأتراك كانوا غالباً حذِرين في سوريا، على رغم تهديدات أردوغان. يمكن أن يتفهم المرء بالطبع الغضبَ التركيّ والمخاوف المتعلّقة بالإرهاب العابر للحدود، إلّا أنّ من المرجح أنّ عمليّة عسكريّة تركيّة كبيرة في سوريا ستجعل تركيا أكثرَ عرضةً للهجمات الإرهابيّة، نظراً إلى الحرب غير المتكافئة التي سيشنّها الأكراد، ردّاً على تلك العمليّة. وليس الأتراك بحاجة إلّا إلى أن يتطلّعوا إلى تجربة إسرائيل التعيسة في لبنان، لكي يفهموا مخاطرَ هذا التدخّل. ما هدّد به أردوغان -من إنزال القوّات شرق نهر الفرات- هو شيء مختلف وأصعب في تحقيقه من التدخّلات المحدودة التي قام بها الأتراك في الماضي القريب (مع طلائع من الميليشيات السوريّة المؤيّدة للدولة التركيّة). بالطبع لدى تركيا قطع جيش متطوّر وذو قدراتٍ عالية، لكنّها ستخاطر بالتعثّر في سوريا في صراعٍ طويلٍ ممتدّ مع “وحدات حماية الشعب”. ما زالَ أمام القوّات المسلّحة التركيّة مهمّة السيطرة على “حزب العمّال الكردستانيّ” داخل تركيا، فلماذا إذاً يعتقد قادة التخطيط العسكريّ التركيّ أنّ بإمكانهم توجيهَ ضربةٍ قاضية لـ”وحدات حماية الشعب” في سوريا؟ على الأرجح أنّهم لا يعتقدون هذا يقيناً، وهذا جزء من الأسباب التي جعلتهم لا يجتاحون شمالَ سوريا، وغالباً لم ينووا أبداً اجتياحاً فعلياً.

يجب ألا يَغيب عن أذهاننا أنّ تهديداتِ الطرف التركيّ الأخيرةَ بغزو سوريا، جاءت فيما احتدم النقاش حول تطبيق قانون العقوبات على أنقرة، لكن غضب أردوغان وثورته غيّرا مسار الأحداث

السبب الثالث والأخير هو أنّ الوجودَ الأميركي في شمال شرقي سوريا يصبّ في مصلحة الأتراك، لكن الأميركيّين لا يُفضلون أن يظهروا بهذه الصورة. فالوجود الأميركيّ هناك يجعل تهديدات أردوغان ووعيده -وكسبه نقاطاً سياسية محلية، من دون الحاجة إلى استدعاء جندي إلى المعركة- أمراً سهلاً لا صعوبةَ فيه. وقد كان مرجحاً أن يصير أردوغان أقل عدوانية إذا لم يكن هناك ذلك العدد المتواضع من القوات الأميركية، لأن ما يحدث في سوريا يضع قيوداً على التصرّفات التركيّة. يخدم الوجودُ الأميركي في سوريا مصالحَ أردوغان أيضاً، إذ يمكنه أن يضع واشنطن في موقف حرج وأن يبدو قويّاً من دون الوفاء بوعودِه المتكررة بالغزو.

تكشف مجريات الأمور عن منعطفٍ غريب، إلى حد ما، يثير فيه مجتمعُ السياسة الخارجية الأميركي حفيظةَ تركيا. وعلى رغم وجود أدلة دامغة على أن تركيا لم تكن ولا ترنو لأن تكون شريكاً استراتيجياً للولايات المتحدة، إلّا أنّ بعض المحللين وصنّاع السياسات يميلون إلى تصديق خلاف ما ذُكِر. يُزعَم أن لتركيا أهميةً كبرى بالنسبة إلى الولايات المتحدة في منافستها مع الصين وروسيا وفي مواجهتها مع إيران، ولكن هذا هو البلد ذاته الذي ساعد إيران على التهرب من العقوبات، والذي ابتاع منظومةَ دفاعٍ جوي روسيّةَ الصنع مصممة لإسقاط الطائرات الأميركية، بل والتزمَ الصمتَ حيالَ المحن التي يمر بها المسلمون الصينيون الذين يُساقون قطعاناً إلى معسكرات الاحتجاز.

في محاولاتهم الحثيثة لتفسير الأسباب التي تدفع تركيا إلى بذل جهود لتعقيد سياسات الولايات المتحدة أو تقويضها، يميل المحللون وصنّاع السياسات إلى إلقاء اللوم على الولايات المتحدة في ما يخص تدهور العلاقات الثنائية بين البلدين، بل وغالباً ما يشيرون إلى أن كل ما يفعله القادة الأتراك هو مجرد سياسة محلية داخلية ويمكن تجاهلها. يؤدي ذلك حتماً إلى اللجوء إلى وصفات سياسة عامة تصل حدَّ العبث. إلّا أنّ الولايات المتحدة قد أصابت حينما ألغت مشاركة تركيا في برنامج المقاتلات “إف-35” بسبب شراء أنقرة منظومة الدفاع الصاروخي الروسية “إس-400″، ولكن بدلاً من فرض عقوبات على تركيا، كما يقتضي قانون “مكافحة خصوم أميركا من خلال العقوبات”، ارتأى بعضُ صنّاع السياسات طرحَ فكرة توقيع اتفاقيّة للتجارة الحرة مع أنقرة، في حال لم تُشغّل القوات المسلّحة التركيّة نظامَ “إس-400”.

مع ذلك، يجب ألا يَغيب عن أذهاننا أنّ تهديداتِ الطرف التركيّ الأخيرةَ بغزو سوريا، جاءت فيما احتدم النقاش حول تطبيق قانون العقوبات على أنقرة، لكن غضب أردوغان وثورته غيّرا مسار الأحداث. وخلال نوبة الغضب التي تلت تلك الفترة، سعى صنّاع السياسات إلى إيجاد سُبُل لمنع الأتراك من الإقدام على فعلٍ لم يكونوا سيقترِفونه من الأساس، على الأرجح. جاء هذا في صورة اتفاق يضم ثلاثَ نقاط، يدعو الولايات المتحدة إلى “معالجة المخاوف والقلق الأمني لدى تركيا”، وإنشاء منطقة آمنة شمال سوريا، وإقامة مركز عمليات مشتركة في جنوب شرقي تركيا لإدارة هذه المنطقة. ستكون النتيجة المحتمَلة لهذا الاتفاق هي جرّ الولايات المتحدة إلى سوريا، وفي هذه الأثناء ستصير واشنطن مسؤولة عن أمن تركيا. تلك هي الالتزامات التي لطالما سعَى إليها الأتراك.

كان هذا إنجازاً رائعاً لأردوغان. القائد التركي الذي لا يلعب البوكر، ولكن ربّما ينبغي عليه التفكير في الأمر.

هذا المقال مترجَم عن foreignpolicy.com ولقراءة الموضوع الأصلي زوروا الرابط التالي

إدلب:الكعكة التي تتقاسمها الولايات المتّحدة وروسيا وتركيا 

23.08.2019
زمن القراءة: 5 minutes

حالت الديبلوماسيّة الأميركيّة دون اجتياح تركيّ للحدود السورية، وتدلّ على هذا اتّفاقيّة حول شمال شرقي سوريا، أبرمها مسؤولون أتراك وأميركيّون. غير أنّ هناك سبباً يجعل المسؤولين الأتراك يزعمون بزهوٍ أنّ الاتفاقيّة تمثّل إذعان واشنطن لمكانتهم وموقفهم.

كلّ شيءٍ في واشنطن دائماً في “حالة تأهّب قصوى”، إذ تسود بين محلّلي السياسات الخارجية وصنّاع السياسات والصحافيّين، حالة قلق دائم بشأن كارثة بعيدة المدى على وشك الوقوع في الولايات المتّحدة. وهكذا، في الأسابيع الماضة، بدا كثيرون على قناعة بأنّ تركيا قد تجتاح شمال شرقي سوريا. ونشرَت “واشنطن بوست” تقاريرَ تفيد بأنّ إدارة ترامب تقوم بجهودٍ “أخيرة” لدرء ما قد يمثّل كارثة مؤكّدة. كما أشارت تقارير إخباريّة ومحلّلون إلى “مؤشّرات” تدل على أنّ القوّات المسلّحة التركيّة كانت على وشك التدفّق عبر الحدود السوريّة، ثم لم يحدث شيء.

حالت الديبلوماسيّة الأميركيّة الماهرة دون الاجتياح التركيّ، وتدلّ على هذا اتّفاقيّة حول شمال شرقي سوريا، أبرمها مسؤولون أتراك وأميركيّون في 7 آب/ أغسطس الجاري. غير أنّ هناك سبباً يجعل المسؤولين الأتراك يزعمون بزهوٍ أنّ الاتفاقيّة تمثّل إذعان واشنطن لمكانتهم وموقفهم. من الغريب أنّ قليلين جدّاً فكّروا في احتمال أن تكون تهديدات الرئيس التركيّ رجب طيّب أردوغان بالغزو هي محض خدعة أو تكتيك تفاوضيّ نُشِر بسوء نيّة. لكن الرئيس التركيّ يفهم واشنطن جيّداً، ويعرف أنّه سيكون قادراً على احتواء مَن في دوائر القرار الأميركيّ، من خلال التهديد بتدمير الشراكة الاستراتيجيّة بين الولايات المتّحدة وتركيا. وهي الفكرة التي وجَّهت مسارَ السياسات الثنائيّة لعقود، ومفادها أنّ البلدَين لديهما أهداف مشتركة في السياسة الخارجيّة ورؤية ما لتحقيقها. يدرك أردوغان أنّ الشراكة ماتت بالفعل، ويسعده أن يستغلّ أيّ أميركيّ لا يدرك هذا.

بالتأكيد لم يكن الاعتقادُ أنّ الأتراك قد يجتاحون سوريا محض وهم أو خيال، فقد هدّد أردوغان بأن يُعطي أوامره للجيش التركيّ بدخول شمال شرقي سوريا 8 مرّاتٍ منذ كانون الثاني/ يناير 2018، وكانت آخر ثلاثة تهديدات بين أواخر تمّوز/ يوليو، ومطلع آب من هذا العام. وأردوغان عموماً هو رجلٌ يفي بكلمته. في نهاية صيف 2016، أطلق الأتراك عمليّة درع الفرات على طول الحدود السوريّة، وفي مطلع عام 2018، احتلّ الجيش التركيّ بلدة عفرين بالتعاون مع الجيش السوريّ الحرّ. الأهمّ من ذلك أنّ الأتراك لديهم الدافع إلى هذا الاجتياح، فالقادة الأتراك وعامّة الشعب وتقريباً كلّ المحلّلين الغربيّين يدركون أنّ القوات القتاليّةَ لأكراد سوريا -والمعروفة باسم “وحدات حماية الشعب” (YPG)، وهي الهدف الرئيسيّ لأيّ عمليّة توغّل تركي محتمَل- مرتبطةٌ ارتباطاً مباشراً بـ”حزب العمّال الكردستانيّ” (PKK)، وهو مجموعة إرهابيّة تشنّ حرباً على الدولة التركيّة على مدى العقود الأربعة الماضية.

إلّا أنّ أيّ تحليلٍ موضوعيّ قد يكشف الكثير من الأسباب المقنعة التي تدفعنا إلى الاعتقاد بأنّ تهديدات الأتراك لم تكن سوى خدعة لانتزاع بعض التنازلات من واشنطن. السبب الأول هو أن لا ضرورة لهذا الاجتياح؛ فالأراضي التي يسمّيها الأكراد “روج آفا” (كردستان الغربيّة) هي ممزّقة بالفعل. فتركيا تسطير على الأراضي من جرابلس شرقاً إلى الحدود التركيّة غرباً. طالما بقي الأتراك هناك، وليس هنالك مؤشّرٌ على أنّهم ينوون الرحيل، فلن يكون بمقدور الأكراد توحيد تلك الأراضي التي يطمحون إلى إعلانها دولة.

السبب الثاني هو أنّ الأتراك كانوا غالباً حذِرين في سوريا، على رغم تهديدات أردوغان. يمكن أن يتفهم المرء بالطبع الغضبَ التركيّ والمخاوف المتعلّقة بالإرهاب العابر للحدود، إلّا أنّ من المرجح أنّ عمليّة عسكريّة تركيّة كبيرة في سوريا ستجعل تركيا أكثرَ عرضةً للهجمات الإرهابيّة، نظراً إلى الحرب غير المتكافئة التي سيشنّها الأكراد، ردّاً على تلك العمليّة. وليس الأتراك بحاجة إلّا إلى أن يتطلّعوا إلى تجربة إسرائيل التعيسة في لبنان، لكي يفهموا مخاطرَ هذا التدخّل. ما هدّد به أردوغان -من إنزال القوّات شرق نهر الفرات- هو شيء مختلف وأصعب في تحقيقه من التدخّلات المحدودة التي قام بها الأتراك في الماضي القريب (مع طلائع من الميليشيات السوريّة المؤيّدة للدولة التركيّة). بالطبع لدى تركيا قطع جيش متطوّر وذو قدراتٍ عالية، لكنّها ستخاطر بالتعثّر في سوريا في صراعٍ طويلٍ ممتدّ مع “وحدات حماية الشعب”. ما زالَ أمام القوّات المسلّحة التركيّة مهمّة السيطرة على “حزب العمّال الكردستانيّ” داخل تركيا، فلماذا إذاً يعتقد قادة التخطيط العسكريّ التركيّ أنّ بإمكانهم توجيهَ ضربةٍ قاضية لـ”وحدات حماية الشعب” في سوريا؟ على الأرجح أنّهم لا يعتقدون هذا يقيناً، وهذا جزء من الأسباب التي جعلتهم لا يجتاحون شمالَ سوريا، وغالباً لم ينووا أبداً اجتياحاً فعلياً.

يجب ألا يَغيب عن أذهاننا أنّ تهديداتِ الطرف التركيّ الأخيرةَ بغزو سوريا، جاءت فيما احتدم النقاش حول تطبيق قانون العقوبات على أنقرة، لكن غضب أردوغان وثورته غيّرا مسار الأحداث

السبب الثالث والأخير هو أنّ الوجودَ الأميركي في شمال شرقي سوريا يصبّ في مصلحة الأتراك، لكن الأميركيّين لا يُفضلون أن يظهروا بهذه الصورة. فالوجود الأميركيّ هناك يجعل تهديدات أردوغان ووعيده -وكسبه نقاطاً سياسية محلية، من دون الحاجة إلى استدعاء جندي إلى المعركة- أمراً سهلاً لا صعوبةَ فيه. وقد كان مرجحاً أن يصير أردوغان أقل عدوانية إذا لم يكن هناك ذلك العدد المتواضع من القوات الأميركية، لأن ما يحدث في سوريا يضع قيوداً على التصرّفات التركيّة. يخدم الوجودُ الأميركي في سوريا مصالحَ أردوغان أيضاً، إذ يمكنه أن يضع واشنطن في موقف حرج وأن يبدو قويّاً من دون الوفاء بوعودِه المتكررة بالغزو.

تكشف مجريات الأمور عن منعطفٍ غريب، إلى حد ما، يثير فيه مجتمعُ السياسة الخارجية الأميركي حفيظةَ تركيا. وعلى رغم وجود أدلة دامغة على أن تركيا لم تكن ولا ترنو لأن تكون شريكاً استراتيجياً للولايات المتحدة، إلّا أنّ بعض المحللين وصنّاع السياسات يميلون إلى تصديق خلاف ما ذُكِر. يُزعَم أن لتركيا أهميةً كبرى بالنسبة إلى الولايات المتحدة في منافستها مع الصين وروسيا وفي مواجهتها مع إيران، ولكن هذا هو البلد ذاته الذي ساعد إيران على التهرب من العقوبات، والذي ابتاع منظومةَ دفاعٍ جوي روسيّةَ الصنع مصممة لإسقاط الطائرات الأميركية، بل والتزمَ الصمتَ حيالَ المحن التي يمر بها المسلمون الصينيون الذين يُساقون قطعاناً إلى معسكرات الاحتجاز.

في محاولاتهم الحثيثة لتفسير الأسباب التي تدفع تركيا إلى بذل جهود لتعقيد سياسات الولايات المتحدة أو تقويضها، يميل المحللون وصنّاع السياسات إلى إلقاء اللوم على الولايات المتحدة في ما يخص تدهور العلاقات الثنائية بين البلدين، بل وغالباً ما يشيرون إلى أن كل ما يفعله القادة الأتراك هو مجرد سياسة محلية داخلية ويمكن تجاهلها. يؤدي ذلك حتماً إلى اللجوء إلى وصفات سياسة عامة تصل حدَّ العبث. إلّا أنّ الولايات المتحدة قد أصابت حينما ألغت مشاركة تركيا في برنامج المقاتلات “إف-35” بسبب شراء أنقرة منظومة الدفاع الصاروخي الروسية “إس-400″، ولكن بدلاً من فرض عقوبات على تركيا، كما يقتضي قانون “مكافحة خصوم أميركا من خلال العقوبات”، ارتأى بعضُ صنّاع السياسات طرحَ فكرة توقيع اتفاقيّة للتجارة الحرة مع أنقرة، في حال لم تُشغّل القوات المسلّحة التركيّة نظامَ “إس-400”.

مع ذلك، يجب ألا يَغيب عن أذهاننا أنّ تهديداتِ الطرف التركيّ الأخيرةَ بغزو سوريا، جاءت فيما احتدم النقاش حول تطبيق قانون العقوبات على أنقرة، لكن غضب أردوغان وثورته غيّرا مسار الأحداث. وخلال نوبة الغضب التي تلت تلك الفترة، سعى صنّاع السياسات إلى إيجاد سُبُل لمنع الأتراك من الإقدام على فعلٍ لم يكونوا سيقترِفونه من الأساس، على الأرجح. جاء هذا في صورة اتفاق يضم ثلاثَ نقاط، يدعو الولايات المتحدة إلى “معالجة المخاوف والقلق الأمني لدى تركيا”، وإنشاء منطقة آمنة شمال سوريا، وإقامة مركز عمليات مشتركة في جنوب شرقي تركيا لإدارة هذه المنطقة. ستكون النتيجة المحتمَلة لهذا الاتفاق هي جرّ الولايات المتحدة إلى سوريا، وفي هذه الأثناء ستصير واشنطن مسؤولة عن أمن تركيا. تلك هي الالتزامات التي لطالما سعَى إليها الأتراك.

كان هذا إنجازاً رائعاً لأردوغان. القائد التركي الذي لا يلعب البوكر، ولكن ربّما ينبغي عليه التفكير في الأمر.

هذا المقال مترجَم عن foreignpolicy.com ولقراءة الموضوع الأصلي زوروا الرابط التالي

إدلب:الكعكة التي تتقاسمها الولايات المتّحدة وروسيا وتركيا