يبني الغزيون أحلامهم “طوبة طوبة” على مدار سنوات العمر، من خلال وظائف تُنسيهم كدر العيش وقلة الفرص، وفي بقعة صغيرة يعيش فيها أكثر مليونين و300 ألف نسمة، والآن، انتهى بهم المطاف، إلى حرب أجهزت على معالم حياتهم كلها، بعد أن كانوا قد تحمّلوا صعوبات حروب حصلت في سنوات سابقة.
خسر عون أبو شرار كل شيء بناه خلال السنوات السبعة الماضية، كان أبو شرار يعمل في محاكم القطاع سواء النظامية منها أم الشرعية، وبشكل حر، من خلال مكتبه الخاص في مؤسسة “محاماة”، التي أسسها مع مجموعة من زملائه، وبقيت تعمل حتى بعد اندلاع الحرب، وكان مكان عمله في منطقة الرمال في مدينة غزة.
يقول أبو شرار لـ”درج”: “كانت رحلة صعبة جداً فيها تفاصيل كثيرة، لأن المحاماة مهنة تحتاج إلى جهد شخصي، ولأنها ليست وظيفة ذات مرتب شهري ثابت، فمن تاريخ تخرجي عام 2017 إلى أن فتحت مكتبي الخاص قبل 4 سنوات، وصولاً حتى يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، كانت الرحلة طويلة وشاقة، كنت خلالها أبني نفسي شيئاً فشيئاً، والحمد لله، وخلال السنوات الثلاثة الأخيرة، استطعت تحقيق إنجاز حقيقي، ولكن التقدم هذا كله انتهى، بسبب الحرب”.
يشير أبو شرار إلى أن الحرب تسببت بدمار مكان عمله، بما فيه من ممتلكات شخصية وملفات وأوراق ومستندات تعود للموكلين، ويقول: “يعني أنا ما بعرف، مش موجودة خالص، حتى حاولت إني أوجدها أو أبحث عنها، ما لقيتها”، ويختم: “لا مجال للرجوع إلى عملي، فقد فقدت كل شيء في مكتبي الخاص”.
فقد أبو شرار كل الأعمال والقضايا التي كانت موكلة إليه قبل الحرب، في هذه المهنة بالذات في غزة، انتهى كل شيء، حتى قصر العدل الذي كانت تتم فيه المرافعات، تم مسحه بالكامل، بشكل بات يستحيل معه حتى البدء من الصفر، لأن المحاماة؛ كما هو معروف، مهنة تراكمية، لذلك يفكر أبو شرار بترك غزة بشكل كلي والعمل بعيداً.
أبو شرار ليس الوحيد الذي يفكر بترك غزة، ولو مكرهاً، بسبب ما خسره في هذه الحرب من عمل ومستقبل، هناك حسين أبو عقلين وهو خريج قسم الجغرافيا، أجبرته طبيعة الحياة في غزة وقلة الفرص على العمل، منذ سنتين، في سوبر ماركت براتب أسبوعي، وأتت الحرب لتقضي حتى على هذا الأمل أو العمل، وأصبح بلا عمل ولا راتب بسبب تدمير المكان ونزوحه من شمال غزة إلى الجنوب.
يضطر أبو عقلين إلى توفير حاجيات أسرته من خلال المساعدات المقدمة من “الأونروا” والمؤسسات الدولية والخيرية، وهو يأمل بالحصول على عمل بعد انتهاء الحرب، ولو كان خارج غزة، في حال توفر على فرصة جيدة وراتب مناسب يعيل به أسرته.
الحرب المدمرة التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة، كافية لتدفع بالعقول والكفاءات إلى الهجرة، فقد أصبح القطاع مكاناً غير صالح للعيش والعمل أبداً، إلا في مجال إعادة الإعمار، أو في ما تبقى من مؤسسات محدودة لم يستهدفها الجيش الإسرائيلي، فيما أشارت توقعات عديدة، بأن القطاع يحتاج إلى 80 عاماً ومبالغ مالية مهولة، ليعود كما كان، فهل يمكن للأحلام والآمال أن تُترك في الفراغ حتى إيجاد البدائل؟!
أكاديميون محبطون!
كمال الشيخ عيد وهو دكتور متخصص في كلية الزراعة في جامعة الأزهر والمدير الفني لمركز أبحاث كلية الزراعة في مدينة بيت حانون شمال غزة، يقول لـ”درج”: “تم تدمير فروع الجامعة الثلاثة، منها فرع بيت حانون في شمال غزة بمساحة 130 دونماً، الذي كان محطة تجارب وأبحاث زراعية لتدريب طلاب كلية الزراعة والطب البيطري، ويحتوي أفضل التقنيات الزراعية الحديثة، ولكن للأسف تمت تسويته بالأرض في هذه الحرب”.
في سياق آخر، يقول الشيخ عيد إنه عاجز عن توفير احتياجات أسرته بعد انقطاعه عن العمل بسبب الحرب، والغلاء الفاحش، وعدم توفر رواتب، ويضيف: “أقولها بصراحة بعدما كنا نأكل أفضل الأطعمة، أصبحنا نعتمد على المعلبات؛ وما أدراك ما المعلبات، صباحاً مساء أصبحنا أشبه بالمتسولين، ننتظر وصول المساعدات، ونأكل أطعمة لم نتوقع أن نأكلها، ولكن الحمد لله”.
يتمنى الشيخ عيد أن تنتهي هذه الحرب، فالجامعة تحتاج إلى الدعم للنهوض من جديد بحوالي 15000 طالب وما يقارب 650 موظفاً، بخلاف موظفي العقود الذين أصبح مصيرهم مجهولاً، مؤكداً أنه سيبقى في عمله إلا إذا لم يتيسر الأمر، فسيتجه إلى أي عمل آخر لإعالة أسرته، وبقدر الإمكان في غزة “ولكن إذا أغلق الأمر سأبحث عن عمل في بلاد أخرى”.
ويقول حسن الدوحان الدكتور المتخصص في الإعلام، الذي كان يعمل بنظام العقود الموقتة في جامعة فلسطين في القطاع، ل”درج”: “لست موظفاً في الجامعة، إنما أعمل بعقد موقت، أو بنظام الساعة أحياناً، وذلك في إطار الاستفادة من الكفاءات”، رغم أنه يعمل في مجال الصحافة والإعلام منذ 30 عاماً.
ويؤكد أن الأمور في غزة “غاية في التعقيد، وأصعب مما يتخيلها عقل، فقد أصبحنا جميعاً أسرى الطرود الغذائية والكوبونات، بسبب خسارة الوظائف وانقطاع الرواتب، وهذا له انعكاس خطير على الصحة النفسية، فكثير من حاملي الدرجات العلمية المتقدمة، تحولوا إلى باعة على نواصي الشوارع، وغيرهم أصبحوا سائقين”، ويختم: “الجميع يفكر بالخروج، ولكن العائق الأساسي حالياً، هو امتلاك المال للتنسيق، خاصة وأن قادة الفصائل كانوا أول الهاربين، برغم أنهم يتغنون من الفنادق بالصمود”.
البطالة وانحدار الاقتصاد
أساس عجلة تحرك الاقتصاد في أي دولة، يعتمد على حجم الإنتاجية والعمالة الفاعلة، إلا أن الاقتصاد الفلسطيني مقيد من الجوانب كافة، ومع الحرب القائمة منذ 9 أشهر، فإن الاقتصاد بدأ ينحدر بشكل واضح نحو الهاوية، ويحتاج إلى مدة زمنية طويلة للتعافي.
يقول مازن مرجي وهو محلل اقتصادي، عن واقع الحالة الاقتصادية في قطاع غزة ل”درج“: “قطاع غزة الآن، لا يمكن أن ينهض بالقدرات الذاتية المتوفرة فيه، وبحجم البطالة الذي وصل إليه؛ البطالة التي قد تصبح نسبتها أعلى في المستقبل، فالاقتصاد محاصر منذ سنوات طويلة، مما جعل القطاع غير قادرعلى استغلال ثرواته، وانحصر العمل فيه ببعض الصناعات الخفيفة والمهن البسيطة”.
ويتابع: “لا بد أن نتطلع إلى الموضوع الأهم، وهو إعادة البناء، في حال توقف القتال، أو تم الاتفاق على هدنة دائمة أو موقتة، مما سيسمح بدخول المساعدات ومواد البناء، مع التصور الكامل بأنه لن يعود الجميع إلى العمل، لأن الأمر يحتاج إلى عدد من السنوات لا يقل عن الخمس، ليعود الوضع لما كان عليه قبل السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، فلا توجد ضمانة تؤكد أنه بمجرد توقف الحرب، سيعود الناس إلى أعمالهم، لأن الاقتصاد في القطاع بسيط”.
وبحسب مرجي “إن الأمر ليس بهذه السهولة، فهناك من خسر بيته وحياته وعمله، ولكن بقي العدد الأكبر من مجموع مليوني شخص، الذين سيكونون رافداً كأيدي عاملة لما سيبنى، إن كان في مشروع الميناء أم في المجالات الاقتصادية الأخرى، فقطاع غزة هو رافد أساسي للأيدي العاملة اليومية، ليس فقط في الداخل، إنما أيضاً في أراضي الضفة المحتلة، وهؤلاء يُعدون بعشرات الألوف، ونسبة عالية منهم من الممكن أن تعود إلى أعمالها في مجالات متنوعة”.
وفي تصريح سابق كان مدير الإحصاءات في الجهاز المركزي للإحصاء محمد قلالوة قد قال: “إن الخسائر المباشرة للاقتصاد في قطاع غزة، بلغت حوالي 700 مليون دولار فقط، خلال الشهر الأول من الحرب، إضافة إلى أن 147 ألف عامل توقفوا عن العمل في القطاع الخاص، وتوقف 56 ألف منشأة عن العمل”، متوقعاً أن “ترتفع نسبة الفقر في القطاع إلى حوالي 90%، فالخسائر الاقتصادية خلال فترة الحصار منذ عام 2007 بلغت حوالي 35 مليار دولار، من دون احتساب آثار العدوان الحالي”.
فيما خلُص أحدث تقرير لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية “أونكتاد” بشأن مساعدته للشعب الفلسطيني، معتبراً أن “عام 2022 كان عاماً سيئاً بالنسبة للفلسطينيين، على خلفية التوترات السياسية المتصاعدة، وتزايد الاعتماد على السلطة القائمة بالاحتلال، وتوقف عملية السلام، وواصل الاقتصاد الفلسطيني العمل بأقل من إمكاناته في عام 2022 مع اشتداد التحديات المستمرة الأخرى”.
وتشمل هذه التحديات، فقدان الأراضي والموارد الطبيعية لصالح المستوطنات الإسرائيلية، والفقر المتوطن، وتقلص الحيز المالي، وتراجع المساعدات الخارجية، وتراكم الديون العامة والخاصة.