منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، اعتاد سليمان الهجِّي، الصحافي البصري المستقل (37 عاماً)، أن يمضي ساعات طويلة وهو يشق طريقه عبر مشاهد الدمار في قطاع غزة، حاملاً صندوقاً أسود يحتوي على أقراص صلبة.
تحتوي الأقراص الصلبة على لقطات مصورة بطائرات مسيّرة، وصور فوتوغرافية، ومقاطع فيديو، وتسجيلات صوتية توثّق الفظائع التي أطلقتها إسرائيل في موطنه فلسطين. التوثيق الذي جمعه، بما في ذلك أدلة على جرائم حرب محتملة، واسع وشامل. تُظهر الصور الجوية، التي التقطها بطائرته المسيّرة الخاصة، الدمار الذي لحق بالمستشفيات والمساجد والساحات العامة. تُبرز مقاطع الفيديو والصور أشخاصاً حفاة يحاولون بصعوبة إنقاذ خيام تنهار تحت مياه الأمطار في برد الشتاء؛ وأطفالاً يبكون وهم يعانون من أمراض جلدية من دون علاج نتيجة الحصار الإسرائيلي للمساعدات؛ وأطفالاً يلعبون بدمى انتُشلت من بين الأنقاض. كما سجّل مقابلات مع شهود على الهجمات التي استهدفت المدنيين. وبصفته صحافياً، ساهم أيضاً في تغطية صحيفة نيويورك تايمز لقطاع غزة. يتم حفظ جميع مواده بعناية ضمن نظام أرشفة ابتكره بشكل ارتجالي.
أرشيف الهجِّي يوثّق تاريخ مكان لم يعد موجوداً، وعملية تدميره خلال أشرس حرب شهدها القرن الـ21. قال إنه إذا قُتل، لا يريد للذكريات التي حفظها أن تموت معه. ترك بعض الأقراص الصلبة في قطعة أرض خاصة، تحت رعاية أحد سكانها، بينما أقفل أخرى لم يستطع التخلّي عنها في صندوقه الصغير، متنقلاً به خلال موجات التهجير المتعددة.
قال الهجِّي لموقع Drop Site News في تشرين الثاني/ نوفمبر: “الهدف الأساسي من كل هذا هو تذكر تفاصيل من التاريخ يُتوقع أن تُمحى”.
كان الهجِّي ينشر بعضاً من مواده على إنستغرام ومنصة X ، لكن لم تكن هناك أي ضمانات لبقائها على الإنترنت وسط الحذف المستمر للمحتوى الفلسطيني. في الوقت نفسه، كان ضعف الإنترنت في غزة خلال الحرب يعني أنه لا يستطيع نشر معظم ما جمعه. وضع بعض الملفات على Google Drive حفاظاً عليها، لكن انقطاع الاتصالات الذي فرضته إسرائيل — والذي أجبره غالباً على الاعتماد على شرائح e-SIM من الخارج وإنترنت الجيل الثاني — جعله عاجزاً عن رفع معظم مواده. لذا نقل الملفات التي اعتبرها الأهم إلى أقراص صلبة خارجية وقام بتصنيفها، حتى ملأ أكثر من 12 وحدة.
على مدار الحرب التي استمرت 15 شهراً، والتي وصلت إلى وقف إطلاق نار هش في 19 كانون الثانني/ يناير، فرضت إسرائيل، إلى جانب مصر، حظراً تاماً على دخول الصحافيين الدوليين والمحققين غير المرافقين إلى غزة، ولا يزال هذا الحظر سارياً حتى الآن. في المقابل، حذفت منصات إنستغرام وX، وفيسبوك بشكل متكرر أو قيدت وصول المنشورات القادمة من غزة، كجزء من نمط أوسع من الرقابة على المحتوى الفلسطيني عالمياً. وغالباً ما بررت هذه الشركات حذف المنشورات بانتهاكها إرشادات المجتمع أو المعايير، مثل الترويج لمحتوى عنيف أو التعبير عن دعم للإرهاب، لكن تطبيق هذه القواعد كان مفرطًا وخاطئًا. كما أن شركة ميتا، المالكة لإنستغرام، واصلت تعديل إرشاداتها في ما يخص غزة، حتى أنها حذفت صور ومقاطع فيدي نشرها سابقاً صحافيون وناشطون بأثر رجعي.
إلى جانب ما نشره الصحافيون الفلسطينيون في الصحافة الدولية، شكّلت الصور ومقاطع الفيديو المنشورة على وسائل التواصل الاجتماعي الجزء الأكبر من الأدلة التي خرجت من داخل غزة خلال الحرب. وقد تدخّل أفراد ومنظمات من جميع أنحاء العالم للمساعدة في حفظ تاريخ هذه الإبادة الجماعية. يجمعون المعلومات من وسائل التواصل قبل حذفها، والتحقق منها وتخزينها؛ ويعملون على حلول تقنية للبحث والتخزين طويل الأمد؛ ويجمعون شهادات شهود العيان ومعلومات أخرى من داخل غزة لتقديمها إلى المحاكم الدولية؛ ويطوّرون أدوات مفتوحة المصدر لتوثيق الضحايا المدنيين الذين سقطوا نتيجة الغارات الجوية الإسرائيلية؛ كما يجمعون التصريحات المُحتملة لتجريمها، الصادرة عن المسؤولين السياسيين والعسكريين الإسرائيليين. ومع ذلك، تبقى جهودهم غير منظّمة بشكل كامل، تفتقر إلى الموارد الكافية، وغالبًا ما تكون غير مترابطة في ما بينها.
مع عودة الفلسطينيين إلى ما تبقى من منازلهم في ظل اتفاق وقف إطلاق النار الهش، يبحثون عن أولئك الذين ظلوا عالقين تحت الأنقاض لشهور، وقد تحولت أجساد الكثير منهم إلى عظام. خلفت الحرب أكثر من 48,000 قتيل فلسطيني، وفقًا لبيانات وزارة الصحة والمسؤولين المحليين في غزة، من دون احتساب آلاف المفقودين الذين لم يُعثر عليهم بعد. وتشير السلطات الصحية الفلسطينية إلى أن نصف الضحايا من النساء والأطفال والمسنين، مع اعتقاد واسع النطاق بأن الأعداد الحقيقية أعلى بكثير. كما تم تدمير البنية التحتية الحيوية بشكل كامل، وتقدّر الأمم المتحدة أن 90 في المئة من سكان غزة قبل الحرب قد أصبحوا نازحين داخليًا.
عمل الموثقون داخل غزة وخارجها على حفظ تفاصيل هذه المجازر. وقال الهجِّي، الذي تعرّض للتهجير سبع مرات وسط الغارات الجوية المتواصلة، إنه يأمل بأن تُدمج ملفاته في نهاية المطاف ضمن مشروع توثيقي أوسع. وقد كرّس سنوات حياته البالغة لعمله الصحافي في غزة، والذي يعتبره أكثر من مجرد مهنة. وقال: “عملية الاعتناء بتاريخك وأرشيف عملك وحفظه تشبه كثيراً عناية الأب بابنه الوحيد”.
تحدّي توثيق جرائم الحرب
عندما سافر فريد أبراهامز، المؤلف والأستاذ الحالي، إلى كوسوفو التي مزقتها الحرب كباحث في منظمة هيومن رايتس ووتش عام 1998، وجد قرى لا تزال تتصاعد منها ألسنة اللهب التي أشعلتها القوات الصربية واليوغوسلافية، وشهد نزوح الألبان العرقيين قسرًا وهم يفرّون سيرًا على الأقدام. وعندما صادف جثثًا ملقاة في أحد الوديان، من بينها نساء وأطفال، صوّرها وبدأ فورًا بالبحث عن أسمائهم. كما أجرى مقابلات مع شهود نجوا من مجازر أخرى ارتكبتها القوات الصربية، فيما كان زملاؤه يزورون المكتبات للبحث في المجلات العسكرية ومجلات الشرطة عن أدلة على العمليات، وهو ما أطلق عليه لاحقًا اسم “العمل المفتوح المصدر على الطريقة التقليدية”.
عندما حوكم رئيس يوغوسلافيا السابق سلوبودان ميلوسيفيتش على خلفية هذه الجرائم في لاهاي، انضم أبراهامز إلى فريق الادعاء كشاهد. وأثناء شهادته، توجّه مباشرة إلى ميلوسيفيتش قائلًا: “أدلتنا قاطعة على أن قوات الشرطة الصربية والجيش اليوغوسلافي لم يبذلوا الجهود الكافية لتقليل الأضرار وقتل المدنيين، وفي الكثير من الحالات استهدفوهم عمدًا”.
قال أبراهامز، الذي أمضى ما يقارب ثلاثة عقود في إجراء أبحاث حول حقوق الإنسان ويُعدّ متخصصًا في التحقيقات الرقمية، لموقع Drop Site إن من الضروري الإسراع في حفظ أدلة الجرائم وقت الحرب قبل أن تُفقد أو تُدمّر. وأضاف: “الاستعجال كبير”.
فالمساءلة تتطلب وجود أدلة موثوقة وموثقة بشكل سليم. وتضع الأمم المتحدة مجموعة من الإرشادات حول كيفية حفظ الأدلة، بما في ذلك الأدلة الرقمية، لتكون مقبولة في المحاكم. وأوضح أبراهامز: “المحاكم تعتمد بشكل متزايد على الأدلة الرقمية، وإذا كانت هذه الأدلة تُفقد، فنحن نخسر مواد مهمة لتعزيز العدالة على المدى الطويل”.
قد تكون العواقب القانونية لارتكاب جرائم الحرب صعبة المنال، لكن بالنسبة الى الكثيرين ممن يعملون في جهود التوثيق، الهدف لا يقتصر فقط على المساءلة القانونية، بل أيضًا على حفظ الأحداث في السجل التاريخي. فوجود أرشيف يضمن عدم محو هذه الوقائع من الذاكرة.
أحمد عبادة، منسق في “مركز توثيق العدالة والمساءلة في سوريا” (SJAC)، قال لموقع Drop Site إن الموارد البشرية والمالية المطلوبة لإنشاء أرشيف شامل ضخمة ومكلفة للغاية. تأسس SJAC في عام 2012 لجمع وتوثيق والتحقق من منشورات وسائل التواصل الاجتماعي التي تُظهر آثار الغارات الجوية ضد المدنيين التي شنّها نظام بشار الأسد المخلوع. وقد دعم توثيقهم جهود المساءلة القانونية، واستشهدت بعملهم وسائل إعلام محلية ودولية. يضم المركز حوالي 60 شخصًا يعملون على القضايا القانونية، والتوثيق، والمفقودين، والتحليل، والتحقيقات. ويتلقى جزءاً من تمويله من وزارة الخارجية الأميركية، لكنه علّق الكثير من عملياته عندما جمّدت الوزارة التمويل “غير الأساسي” في عهد الرئيس دونالد ترامب.
أنشأ مركز SJAC تقنيته الخاصة المفتوحة المصدر لتخزين المعلومات التي يجمعها. تحتوي قاعدة البيانات على صفوف شبيهة بجداول Excel، توثّق الحوادث مع الأدلة الخاصة بكل غارة جوية أو جريمة حرب مزعومة: مقابلات نصية وصوتية مع الضحايا والشهود، وثائق حكومية، ومقاطع فيديو، بما في ذلك تلك المنشورة على يوتيوب. يتم تصنيف الحوادث ووضع علامات لها بحيث يمكن البحث عنها بكلمات مثل “انفجار” و”برميل متفجر”، ومتاحة باللغتين الإنكليزية والعربية، مع إظهار سلسلة الحيازة لكل معلومة.
على مدار عشر سنوات، تحقق SJAC من نصف مليون حادثة من أصل مليوني حادثة جُمعت. وقال عبادة: “نحن نعمل منذ سنوات ولم نكمل سوى 30 في المئة.” وأضاف أنه بعد 7 أكتوبر، تحدث مع منظمة حقوقية فلسطينية مهتمة بتكرار نموذج قاعدة البيانات المفتوحة الخاصة بـ SJAC، لكنه عبّر عن قلقه من أن شدة الحرب في غزة قد تعني أن الأمر سيستغرق وقتًا أطول ليتمكن الباحثون من أرشفتها بشكل كافٍ. وأردف: “البيانات القادمة من هناك لا تنتهي”.
إقرأوا أيضاً:
المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان
يعمل الموثقون في غزة من دون أي حماية. وقد أمضى المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان (PCHR)، وهو منظمة غير ربحية معروفة تأسست عام 1995، سنوات في المساهمة بالأبحاث والتوثيق ضمن التحقيقات الدولية حول ممارسات إسرائيل في غزة. مؤسس المركز، راجي الصوراني، حاصل على جائزة روبرت ف. كينيدي لحقوق الإنسان. لكن إسرائيل كثيرًا ما وجّهت اتهامات بالإرهاب إلى المجموعات البحثية الفلسطينية وموظفيها. وقد تعرّض مقر المركز للقصف في وقت مبكر من الحرب.
تعرض باسل الصوراني، مسؤول المناصرة الدولية في المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، للاستهداف الشخصي أيضًا. فقد سجّل الجيش الإسرائيلي مكالمة هاتفية بين الصوراني وصديق له ونشرها، موجهًا من خلالها اتهامًا لكل منهما بأنهما “نشطاء في حماس”. بعد ساعتين فقط، استهدفت غارة جوية إسرائيلية منزله. كان الصوراني ووالداه في الردهة لحظة القصف، ما أنقذهم من الانفجار بعدما أصابت القنبلة جزءًا آخر من المنزل. وقال لموقع Drop Site: “لو كنّا في أي مكان آخر في المنزل غير الذي كنا فيه، لكنا قد قتلنا أو أصبنا بجروح خطيرة.” وأضاف: “في نهاية المطاف، يمكنهم الوصول إلى أي شخص، في أي مكان”.
وصف الصوراني الأشهر التي تلت 7 أكتوبر بأنها الأصعب والأخطر التي واجهها المركز على الإطلاق. فقد قُتلت المحامية في المركز، دانا ياغي، والموثِّقة نور ناصر أبو نور، نتيجة غارات جوية استهدفت منزليهما في شباط/ فبراير 2024، بفارق ثلاثة أيام فقط، إلى جانب أفراد من عائلتيهما. كما غادر ثلث موظفي المركز قطاع غزة، واضطر من بقي للعمل من مكاتب مؤقتة. ولجأ الصوراني إلى القاهرة في كانون الأول/ ديسمبر 2023. وقال: “عدد الغارات مقارنة بالحروب والهجمات السابقة، وانعدام الكهرباء والمياه، كل ذلك منعنا من العمل بشكل صحيح”.
وفي ردها على الاستفسارات حول استهداف موظفي المركز، أصدرت وزارة الدفاع والجيش الإسرائيلي بيانًا عامًا ينفيان فيه استهداف المدنيين أو الصحافيين. وقال متحدث لم يُسمَّ، عبر البريد الإلكتروني: “نظرًا لاستمرار تبادل إطلاق النار، فإن البقاء في منطقة قتال نشطة ينطوي بطبيعته على مخاطر”.
قال الصوراني إن المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان فقد أيضًا تمويلًا من حكومتي ألمانيا وسويسرا بعد 7 أكتوبر، من دون توضيح الأسباب. وأبلغت الحكومة الألمانية موقع Drop Site بأنها أوقفت تمويلًا كان مقررًا لمشروع تابع للمركز بعدما أصدر الأخير بيانًا اعتبرته الحكومة الألمانية “تبريرًا للمقاومة المسلحة ضد إسرائيل”. وعند سؤالها عن نص البيان، لم تقدمه، مشيرة إلى أنه تم حذفه من الإنترنت. أما الحكومة السويسرية، فقالت إنها لم تجدّد تمويلها للمركز في كانون الأول/ ديسمبر 2023، بحجة أن المنظمة لم تلتزم بـ”مدونة السلوك وبند مكافحة التمييز” الخاص بها.
لم يكن المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان المنظمة الوحيدة التي تكافح للحفاظ على تمويل أعمال التوثيق الفلسطينية — وهو تباين واضح مقارنةً مع صراعات حديثة أخرى. فقد ضخت حكومات غربية، بما في ذلك الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا وهولندا، إلى جانب مؤسسات وجهات مانحة فردية، موارد كبيرة لدعم جهود التوثيق داخل سوريا وخارجها، وكذلك في أوكرانيا.
قال جون ييغر، المسؤول السابق في وزارة الخارجية الأميركية والمكلّف بملف استقرار النزاعات والمؤسس المشارك لمشروع “هلا”، الذي عمل على الحد من الأذى اللاحق بالمدنيين من خلال توفير تحذيرات مسبقة مستندة إلى آلاف التسجيلات الصوتية لطيارين من الحكومة السورية ودول أجنبية يناقشون الأهداف: “حسب النزاع، لا بد أن يتماشى الأمر مع الأهداف السياسية الخارجية”.
تابع ييغر عمله في حفظ هذه البيانات، والتحقق منها، وترجمتها وتخزينها، بل ووسّع مشروع التوثيق ليشمل اليمن. وقد شاركت “هلا” نتائجها مع الأمم المتحدة ومنصات مساءلة أخرى لاستخدامها في المحاكمات والتقارير.
وعند سؤاله عمّا إذا كانت هناك مستويات الدعم نفسها لحفظ المحتوى من غزة، استعاد ييغر قصة مع حكومة لم يُسمّها، قائلًا: “شرحت لهم ما نقوم به ومنهجيتنا. وقلت إننا على الأرجح قادرون على تحديد مواقع جنود جيش الدفاع الإسرائيلي حيث ارتُكبت الفظائع التي أنكروها لاحقًا، وفجأة ساد الصمت”. وانتهى الحديث هناك بطريقة محرجة. وأضاف: “من دون أن يصرّحوا بذلك صراحةً، كان ردهم وكأنه: مستحيل”.
وبينما اضطر باحثو المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان إلى تقليص عملهم التوثيقي الشامل والاكتفاء بأخذ عينات، لا تزال جهودهم الميدانية مستمرة. رحيم (نستخدم اسمًا مستعارًا لتفادي الانتقام)، البالغ من العمر 38 عامًا ومن سكان مدينة غزة، هو أحد هؤلاء الباحثين. فقد رحيم منزله ونحو 60 فردًا من أفراد عائلته الممتدة خلال الحرب. وعلى رغم أن زوجته وأطفاله تمكنوا من مغادرة غزة بعد ثمانية أشهر، إلا أنه اختار البقاء فيها لتوثيق الصراع. وقال لموقع Drop Site عبر واتسآب في تشرين الثاني/ نوفمبر: “المضي قدمًا هو الخيار الوحيد”.
أكثر من 12 باحثًا ميدانيًا في المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، مثل رحيم، واصلوا عملهم في جمع والتحقق من روايات عن الغارات الجوية ضد المدنيين، والتعذيب على يد القوات الإسرائيلية، والتجويع القسري، واستهداف المنشآت الطبية وخدمات الدفاع المدني. وقد أعطوا الأولوية لجمع الأدلة لتقديمها مباشرة إلى المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية، اللتين فتحتا قضايا تتهم إسرائيل، على التوالي، بارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية.
المحامي راجي الصوراني، مؤسس المركز، هو أيضًا عضو في وفد جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية، وقد ساعد المركز في تحقيقات المحكمة الجنائية الدولية بشأن الهجمات الإسرائيلية السابقة وغيرها من انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبتها إسرائيل في غزة منذ عام 2015، حين أصبحت فلسطين عضوًا في المحكمة.
قبل وقف إطلاق النار، كان رحيم يعيش في ملجأ وسط غزة، ويضطر لحشر نفسه في حافلات صغيرة مكتظة تعمل على وقود محدود، للتنقل من وإلى مواقع الحوادث التي كان يحقق فيها. وقال: “إذا كانت هناك غارة على منزل مدني، أذهب للتحدث مع الشهود، وأحصي الضحايا، وألتقط صورًا للدمار.”
كان يجمع الأدلة أولًا على الورق، ثم يلتقط صورًا لملاحظاته بهاتفه. بعد ذلك، كان يسير لساعات من ملجئه في الجنوب عبر شوارع مدمرة ومنازل مهدّمة وصولًا إلى دير البلح في وسط غزة، حيث تتوافر محطات شحن تعمل بالطاقة الشمسية لأجهزته، واتصال إنترنت أقوى. من هناك، كان يرسل ملفاته — بصعوبة شديدة، بسبب بطء الشبكة — إلى مديره المقيم أيضًا في غزة. وكان المدير يراجع المواد ويرسلها إلى فريق المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان المقيم في دول أخرى.
هذا الفريق الخارجي يتعاون مع منظمات حقوقية فلسطينية أخرى لتقديم الأبحاث الموثقة إلى المحكمة الجنائية الدولية. كما عمل المركز مباشرة مع الفريق القانوني لجنوب أفريقيا الذي رفع قضية الإبادة الجماعية أمام محكمة العدل الدولية في كانون الأول/ ديسمبر 2023، مقدّمًا أدلة، بما في ذلك شهادات ميدانية، لعشرات الحالات المزعومة من جرائم الحرب. وقال الصوراني: “تستخدم وجودك بالكامل لنقل صورة ما يحدث”.
الأرشيفات الرقمية
اعتُقل العشرات من الفلسطينيين داخل إسرائيل بسبب مشاركتهم محتوى على الإنترنت اعتُبر “تحريضًا”، ما يسلّط الضوء على المخاطر التي يواجهها السكان المحليون عند نشر معلومات عن الحرب. وقد وثّقت لجنة حماية الصحافيين اعتقال إسرئيل 70 صحافيًا في الأراضي الفلسطينية منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر، بعضهم احتُجز من دون توجيه تهم، وبعضهم تعرّض لسوء المعاملة وحتى التعذيب. من جانبها، نفت القوات الإسرائيلية أنها تعتقل صحافيين بسبب عملهم، قائلة إنها احتجزت “أفرادًا يشتبه بتورطهم في أنشطة إرهابية.”
في المقابل، تدخلت جهود أرشفة مقرها خارج فلسطين للمساعدة. من بين هذه المبادرات منظمة Mnemonic، وهي منظمة مقرها ألمانيا متخصصة في إنشاء أرشيفات لحفظ الأدلة الرقمية المعرّضة للخطر في مناطق النزاع. قواعد بياناتها الخاصة بأوكرانيا وسوريا واليمن والسودان منشورة على موقعها الإلكتروني. إلا أن Mnemonic أبقت أرشيف غزة سريًا، خوفًا من أن يؤدي تسليط الضوء عليه إلى “هجمات رقمية أو جسدية”، بحسب ما صرّح به هادي الخطيب، المدير التنفيذي للمنظمة، لموقع Drop Site. وقال: “نريد القيام بذلك بعيدًا عن الأنظار”.
وبينما يتم تضييق نطاق المعلومات التي يجمعها رحيم لصالح المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان لتقديمها إلى المحاكم الدولية، تجمع Mnemonic كل الانتهاكات المحتملة للقانون الدولي التي يمكنها العثور عليها عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وتهدف إلى مركزة الأدلة التي تجمعها المنظمات الفلسطينية، والصحافيون مثل الهجِّي، والمواطنون العاديون، إلى جانب عمل منظمات دولية أخرى.
وأضاف الخطيب أن هو وباحثًا آخر جمعا أكثر من 4 ملايين نقطة بيانات من وسائل التواصل منذ تشرين الأول 2023. وقال: “هناك الكثير مما يحدث في كل ساعة، وهذا يتطلب فريقًا مكونًا من 200 شخص لمتابعته”.
بينما تواصل Mnemonic بناء قاعدة بياناتها، قال الخطيب إن المنظمة تعمل أيضًا على الخطوة الأكثر أهمية في عملية الأرشفة: التحقق من صحة المعلومات. وقد تعاونت مع منظمات فلسطينية مثل المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان لإضافة شهادات الشهود، والصور ومقاطع الفيديو، وتقارير الأطباء لبعض الحوادث التي جمعتها من وسائل التواصل الاجتماعي.
لكن الموثقين المحترفين مثل رحيم داخل غزة قضوا الحرب وهم مثقلون بالأعباء ويواجهون ظروفًا شبه مستحيلة، ما جعل من الصعب عليهم دعم جهود الأرشفة الخارجية بشكل منتظم. لذلك، تمكّنت Mnemonic من التحقق الكامل من جزء صغير فقط من الحالات التي جمعتها.
مع ذلك، أولت المنظمة الأولوية لإيصال المعلومات الموثقة إلى القضايا القانونية ضد مرتكبي جرائم الحرب في دول عدة، وتعمل مع منظمة Global Rights Compliance، وهي منظمة غير ربحية تقدّم الدعم للمحققين والمدعين العاملين في القضايا الجنائية الدولية.
في تشرين الأول الماضي، فتحت السلطات في بلجيكا تحقيقًا بشأن جندي بلجيكي-إسرائيلي ضمن وحدة قناصة، متهم بإطلاق النار على مدنيين عُزّل. وفي كانون الثاني/ يناير، فرّ أحد جنود الاحتياط الإسرائيليين الذي كان يمضي عطلة في البرازيل من البلاد ليلًا بمساعدة السلطات الإسرائيلية، بعدما أمر قاضٍ الشرطة بفتح تحقيق في جرائم حرب استنادًا إلى أدلة قدّمتها مؤسسة هند رجب، وهي منظمة حقوقية فلسطينية مقرها بلجيكا. وكانت المؤسسة قد تقدمت بشكوى إلى المحكمة الجنائية الدولية تتهم فيها 1000 جندي إسرائيلي بارتكاب مجموعة من جرائم الحرب، بما في ذلك النهب وتدمير الممتلكات والهجمات ضد المدنيين. وردّ الجيش الإسرائيلي لموقع Drop Site قائلًا إنه “يفحص التقارير المتعلقة بمقاطع الفيديو المنشورة على وسائل التواصل الاجتماعي ويتعامل معها بإجراءات قيادية وتأديبية”، مضيفًا أن الحالات التي وُجد فيها تعبير أو سلوك غير لائق من الجنود “تم التعامل معها بالشكل المناسب”.
ومع ذلك، تواجه جميع جهود الأرشفة الرقمية خطر التلف بمرور الوقت. فإذا لم تُنشأ نسخ احتياطية ولم يتم تحديثها باستمرار لتتوافق مع أنظمة التشغيل والمعدات المتطورة، قد يتدهور المحتوى الى درجة يصبح معها غير قابل للوصول أو الاستخدام. وباختصار، الرقمنة لا تعني بالضرورة الحفظ. تمامًا كما تحتاج المواد الغذائية القابلة للتلف إلى أن تُغلق بإحكام حتى لا تفسد، تحتاج المواد الرقمية أيضًا إلى أن تُخزَّن وتُضغط بطريقة تحفظ بياناتها الأصلية، مثل مكان وزمان التقاطها أو نشرها، ومحتواها — حتى إذا اختفى المصدر الأصلي.
مبادرة توثيق شعبية أخرى، أرشيف المساءلة، أنشأت نظام تخزين لمنع فقدان المعلومات التي تجمعها. يركّز الأرشيف على جمع وحفظ التصريحات الصادرة عن السياسيين والشخصيات العامة الذين يُعتقد أنهم أعربوا عن دعمهم لعمليات القتل الجماعي في غزة. قال أليكس فولي، أحد مؤسسي المجموعة، لموقع Drop Site: “نحن بحاجة إلى سجل لما قاله الناس وكيف برّروا العنف على هذا النطاق الواسع”، موضحًا الدافع وراء إطلاق الأرشيف.
وبما أن جريمة الإبادة الجماعية تتطلب إثبات وجود نية، فقد استخدمت منظمات مثل العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش، وكذلك باحثو دراسات الإبادة، تصريحات لمسؤولين إسرائيليين مشابهة لتلك التي يجمعها أرشيف المساءلة للاستدلال على أن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية وجرائم أخرى ضد الإنسانية. يتكوّن هذا المشروع التطوعي من فريق أساسي مقيم في المملكة المتحدة، يضم خمسة أفراد: ثلاثة باحثين، مطوّر، ومحلّل، ويستعينون أيضًا بمجلس استشاري مكوّن من نحو 12 شخصًا آخرين.
قال فولي إنهم بدأوا في البداية باستخدام نموذج Google لجمع البيانات. لكن الفريق خشي أن تحذفه Google، أو أن يتعرض لفقدان البيانات بفعل فيروس أو برامج تجسس. لذا، انتقلوا إلى استخدام نموذج منشور على موقعهم الإلكتروني، يتيح للمساهمين تحميل روابط للتصريحات ذات الصلة. ينشئ النظام تلقائيًا نسخة مؤرشفة، بينما يحتفظ الفريق بالمعلومات على خوادم خاصة وأقراص صلبة احتياطية. وبحلول كانون الثاني، كانوا قد خزّنوا أكثر من 53,000 نقطة بيانات.
وقال فولي، الذي كان يعمل في القطاع الخيري حين إجراء المقابلة معه: “أبدأ عملي الصباحي، ومن الساعة الخامسة حتى العاشرة مساءً أعمل على هذا. لقد أصبح وظيفة بدوام ثانٍ تقريبًا”.
إقرأوا أيضاً:
الأرشيفات العَرَضية
تاريخ الحادثة: 28-29 أكتوبر 2024
الموقع: بيت لاهيا، شمال غزة
نوع الضربة: غارة جوية
البنية التحتية: مبنى سكني
عدد المدنيين الذين قُتلوا: بين 129 و254 (بين 42 و60 طفلًا، بين 28 و37 امرأة، بين 29 و38 رجلًا)
الجهة المعروفة المنفذة: الجيش الإسرائيلي
لأكثر من عقد، تعمل المنظمة غير الربحية البريطانية Airwars على إنشاء إدخالات مشابهة لما ورد أعلاه لتوثيق الأذى الذي يلحق بالمدنيين جراء الغارات الجوية في مختلف أنحاء العالم. وقد أنشأت أرشيفات لسوريا والعراق والصومال وليبيا واليمن وأوكرانيا. وبالنسبة الى غزة، جمع فريق مكوّن من 10 أشخاص مدعوم بـ30 متطوعًا أكثر من 9,000 حادثة، وتمكّن من التحقق من قرابة 1,000 منها.
لكن يبقى التمويل هو العقبة الأكبر — وهو أمر غير معتاد في تاريخ Airwars، كما قالت مديرتها، إميلي تريب، لموقع Drop Site. وأضافت: “خضت محادثات مع مؤسسات مانحة تبدو في العلن داعمة جدًا للقضية، لكن داخليًا، السياسة المتعلقة بها تجعلها تتردد، فلا تستثمر ولا تقترب منها”.
وأوضحت: “شهدنا كيف كان من السهل على هؤلاء الممولين التحرك بسرعة عندما تعلق الأمر بأوكرانيا”، لكنها تابعت قائلة: “أما في ما يخص غزة، فجأة وجدنا الجميع يتردد، ويخوض نقاشات استراتيجية داخلية ليقرروا ما إذا كان هذا الأمر مهمًا أم لا”.
أكّدت تريب أيضًا الدور الجوهري الذي تلعبه وسائل التواصل الاجتماعي في عملهم. وشرحت قائلة: “في أي غارة معينة، تجد أحد أفراد الجالية الفلسطينية يقول: ‘قُتل قريبي’؛ وصحافيين محليين في موقع الحدث؛ وصفحات عائلية على فيسبوك. نحن نبحث عن أمور محددة جدًا بشكل متعمّد”. وتُعد هذه المعلومات التي تعيش على منصات التواصل أساسية لمساعدتهم في تقاطع المصادر والتحقق من الحقائق حول ما حصل على الأرض.
وأضافت تريب: “يجب أن تبدأ شركات وسائل التواصل الاجتماعي في رؤية نفسها كأرشيفات عَرَضية”. وتابعت: “لدينا شركات تقنية تتعامل بعشوائية مع كيفية تنظيم محتواها أو عدم تنظيمه، ولا ترى نفسها كجهة تحتفظ بمعلومات شديدة الأهمية والقيمة للبشرية”.
لكن الشركات تغيّرت كثيرًا بعد الحرب السورية. فقد كان من السهل سابقًا استخراج كميات كبيرة من البيانات من منصات مثل X (تويتر سابقًا) باستخدام مصطلحات البحث أو أدوات أخرى، مثل الإضافات على المتصفحات أو برامج مستقلة تجمع البيانات تلقائيًا. إلا أن تغييرات إدارة X بعد استحواذ إيلون ماسك وإعادة هيكلة الشركة، فرضت قيودًا صارمة على كمية المحتوى التي بإمكان الباحثين الوصول إليها على نطاق واسع، وهو ما يُعد شرطًا أساسيًا لأي أرشيف.
كما أن إجراءات X الصارمة لمكافحة جمع البيانات تمنع عناوين IP التي تحاول سحب البيانات بكميات كبيرة، وتوفر المعلومات الجماعية فقط للشراء. وفي عام 2021، طبّق فيسبوك أدوات تعتمد على الذكاء الاصطناعي والتعلّم الآلي، ما مكّنه من التعرف السريع على أي محاولة لاستخراج البيانات وحظرها، وهو ما عطّل بشكل كبير عمل الموثقين والأرشيفيين.
في الوقت نفسه، علّقت منصة X مئات الحسابات بزعم ترويجها خطاب الكراهية، ما أثار انتقادات من جماعات حقوق رقمية قالت إن المنصة استهدفت حسابات كانت تشارك معلومات مهمة عن الهجمات الإسرائيلية. ووفقًا لتقرير صادر عن هيومن رايتس ووتش، فإن شركة ميتا فرضت خلال الأشهر الثلاثة الأولى من الحرب رقابة منهجية وقمعت المحتوى المتعلق بفلسطين، إذ رُصد ما لا يقل عن 1050 حالة حذف لمحتوى في أكثر من 60 دولة. وفي بعض الحالات، زعمت ميتا أن المنشورات تعبّر عن دعم لـ”جماعات إرهابية” (حيث تعتمد ميتا في هذا التقييم على قائمة وزارة الخارجية الأميركية، التي تصنّف حركة حماس كجماعة إرهابية). لكن هيومن رايتس ووتش وجدت أن هذه المنشورات لم تكن تمدح حماس أو تدعمها، بل كانت تهدف إلى تقديم سياق ومعلومات لفهم تصاعد العنف. وفي حالات أخرى، حذفت ميتا حسابات فلسطينية بارزة، من دون تبرير، بما في ذلك حسابات صحافيين. ومن بين هذه الحسابات وكالة “شبكة قدس الإخبارية”، التي حُذف حسابها على فيسبوك بشكل دائم وعُلِّق حسابها على إنستغرام مؤقتًا.
كما حذفت ميتا بأثر رجعي محتوى نشره صحافيون في غزة. وأشهر هذه الحالات صور التقطها المصور معتز عزايزة، توثّق آثار الغارات الجوية وتظهر أطراف أطفال قُتلوا، والتي اعتُبرت مخالفة لإرشادات تتعلق بـ”النشاط الجنسي أو العري” وحتى “المواد الإباحية”، بحسب تحقيق أجراه AJ+، ما أدى إلى حذف عشرات من منشوراته. وفي كانون الأول/ ديسمبر 2023، وجّه مجلس الرقابة المستقل لميتا انتقادات لسياسة الحذف التلقائي للمنشورات التي تتضمن إشارات إلى حماس على إنستغرام، مشيرًا إلى أن بعض المنشورات التي حُذفت تضمّنت مقاطع توثق قتلى وجرحى بعد غارة على مستشفى، وتمت إعادة نشر إحداها بعد تصنيفها على أنها “خطاب كراهية”.
استمرت سياسة ميتا في حذف المحتوى الفلسطيني من خلال سياسات متجددة، مثل استهداف كلمات مفتاحية كـ”صهيوني” — التي تقول ميتا إنها قد تُستخدم كغطاء لخطاب الكراهية — وغالبًا ما تظهر بجانب منشورات توثّق الأذى الذي يتعرض له المدنيون نتيجة الغارات الإسرائيلية.
أما الصحافي سليمان الهجِّي، الذي لديه 165,000 متابع على إنستغرام و1,400 متابع على X، فقال إن منشوراته حُظرت أو قُيِّد وصولها لأنها تحتوي على صور لجثث مشوّهة نتيجة الغارات الإسرائيلية؛ وأحيانًا، اعتُبر محتواه “سياسيًا” ومخالفًا لإرشادات مجتمع ميتا. وأضاف: “كنت أتجنب استخدام كلمات معينة مثل ‘هجوم’ و’فلسطين’ كإجراء احترازي حتى لا تُحذف منشوراتي.” وفي الوقت نفسه، كانت منصة X تحذف الحسابات غير النشطة. وتساءل الهجِّي عما سيحدث لحساباته إذا ما انضم إلى أكثر من 200 صحافي قُتلوا خلال الصراع.
ولتجنّب تعرّض المحتوى للحذف، شجّع الناشطون على استخدام لغة مشفّرة — مثل كتابة فلسطين على شكل Pale$tine، على سبيل المثال. إلا أن لهذا الأمر عواقب، إذ يصبح البحث عن المحتوى صعبًا، لأن المصطلحات المباشرة مثل “فلسطين” أو “غزة” لن تُظهر كل المحتوى المتعلق بها، حتى لو كان لا يزال موجودًا. حتى الرموز التعبيرية مثل علم فلسطين والمثلث الأحمر، الذي يُربط بكتائب القسام، أصبحت معرّضة للحذف أو لتقييد الوصول (shadowbanning) للمنشور بكامله.
لم ترد شركتا ميتا وX على طلبات التعليق من موقع Drop Site.
لا توفّر شركتا ميتا وX أيضًا أي حماية إضافية لحسابات الصحافيين في فلسطين أو غيرهم ممن يؤدون دورًا عامًا في نقل المعلومات خلال هذا الصراع. محمود همص، 44 عامًا، مصوّر صحافي من غزة يعمل مع وكالة الأنباء الفرنسية فرانس برس. كان يبث بشكل مباشر عبر حسابه على إنستغرام، الذي كان يضم 40,000 متابع، موثقًا آثار الغارات الجوية، والناس وهم يفرّون من ضربات الطائرات المسيّرة الإسرائيلية، أو معاناة الأطفال من الأمراض الجلدية. كان يبث من الخيام، من رفح حتى مستشفى ناصر، ثم يحوّل هذه البثوث إلى مقاطع فيديو، وهي ميزة يوفّرها إنستغرام بالكامل، ليتمكن المستخدمون من مشاركتها.
لكن في كانون الثاني/ يناير، تعرّض حسابه للاختراق، وتم تغيير اسم المستخدم، وحذف جميع مقاطع الفيديو. استعان همص بزملائه في وكالة فرانس برس لمحاولة استعادة حسابه، من دون جدوى. وقال لموقع Drop Site: “كنت أحتفظ بكل عملي على هذه الصفحة ليعرف الناس ما كان يحدث في غزة.” وقد تمكّن من العثور على بعض البثوث المباشرة التي كان قد حوّلها إلى مقاطع فيديو محفوظة على هاتفه. أما الباقي، فقال: “لقد فقدناه”.
غزة كما كانت
حتى وقف إطلاق النار، قضى سليمان الهجِّي أيامًا لا تُحصى يتنقّل فيها بين العمل ومحاولة البقاء على قيد الحياة. فعندما لم يكن منشغلاً بالبحث والتوثيق، كان منشغلاً بالبحث عن وجبة طعام. وقال لموقع Drop Site في كانون الأول/ ديسمبر: “الحياة هنا ليست مستقرة”.
وبعد وقف إطلاق النار، عاد الهجِّي أخيرًا إلى منزله في مدينة غزة ليجده لا يزال قائمًا، لكن بلا كهرباء أو ماء أو إنترنت، ما دفعه للعودة إلى دير البلح حيث تتوافر الخدمات بشكل أكبر، وإن كان بشكل غير موثوق. لقد جعل توقف الغارات الحركة أكثر سهولة وأمانًا، وأصبح الوصول إلى الناس أكثر سهولة من قبل. لكن إعادة بناء البنية التحتية المدمرة لغزة ستكون بطيئة. لا يزال الوصول إلى الإنترنت متذبذبًا، إذ تم تدمير 75 في المئة من أبراج الاتصالات، وهناك نقص في الوقود لتشغيل الأبراج المتبقية.
المشهد المدمر يعوق حركة التنقل، ومن المتوقع أن يظل الكثير من الناس في الخيام أو في حالة نزوح لسنوات، ما يعني أن الوصول إلى شهود الجرائم السابقة سيظل صعبًا حتى مع انتهاء القصف. كما أن جهود إعادة البناء، مثل إزالة الأنقاض، قد تؤدي إلى فقدان الأدلة، بينما يجب جمع لقطات المراقبة من مرافق مثل المستشفيات والمدارس قبل أن تُحذف أو تُفقد. وفي الوقت نفسه، يتنافس التوثيق مع رغبة الناس في العودة إلى منازلهم، ومعرفة مصير أحبّائهم، والحِداد. بعد زيارته لرفح في اليوم التالي لبدء وقف إطلاق النار، قال رحيم، الباحث في المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، لموقع Drop Site: “حجم الدمار في المدينة مذهل”.
وعلى مدار 20 عامًا أمضاها الهجِّي في تغطية غزة قبل 7 تشرين الأول/ أكتوبر، وثّق مشاهد كورنيش غزة، والدوارات المزدحمة، والشوارع التي تمتد لأميال. تلك غزة لم تعد موجودة: الشوارع تحولت إلى أنقاض، والبنية التحتية المدمرة تركت القمامة والمياه الملوثة تتجمع على الساحل. يرى الهجِّي أن جوهر عمله لا يقتصر فقط على توثيق الدمار، بل أيضًا على إظهار كيف كانت غزة من قبل. وقال: “أريد للناس أن يعرفوا كيف كانت الحياة هنا لسنوات طويلة قبل أن يُخفي هذا الخراب العظيم جمال هذه البقعة من الأرض وقصصها وحياة سكانها اليومية”.
هذا المقال مترجم عن الإنكليزية ونشر على موقع dropsitenews.com
إقرأوا أيضاً: