fbpx

أزمة الخبز في تونس… محسوبيات وجفاف وفساد السلطة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

على رغم التوقعات بانفراج هذه الأزمة خلال الأيام المقبلة بعد عودة المخابز غير المصنّفة إلى العمل، وتعليقها الوقفات الاحتجاجية، فإن المؤشرات والعوامل التي لا تفصح عنها السلطة تؤكد أن أزمة الخبز ستتجدد على المدى القصير.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تشهد تونس منذ أسابيع نقصاً كبيراً في الخبز، المادة الغذائية الأكثر استهلاكاً لدى التونسيين، ما خلّف غضباً شعبياً بخاصة مع تفاقم الأزمة واضطرار المواطنين يومياً للوقوف في طوابير طويلة للحصول على حاجتهم من الخبز.

 على رغم التوقعات بانفراج هذه الأزمة خلال الأيام المقبلة بعد عودة المخابز غير المصنّفة إلى العمل، وتعليقها الوقفات الاحتجاجية، فإن المؤشرات والعوامل التي لا تفصح عنها السلطة تؤكد أن أزمة الخبز ستتجدد على المدى القصير.

واجهت الأسر التونسية منذ منتصف تموز/ يوليو الماضي صعوبات كبيرة في الحصول على الخبز، وأصبح مشهد الطوابير الطويلة أمام المخابز متكرراً بشكل يومي في كل مدن البلاد وفي الأوقات كافة، وهي مشاهد جديدة في تونس. 

ازداد الوضع سوءاً منذ بداية آب/ أغسطس، عندما أعلنت السلطات التونسية حرمان “المخابز العصرية” من الطحين المدعوم بذريعة أنها تبيع الخبز بأسعار مرتفعة، وعليه لم تعد الأخيرة تتلقى الطحين والسميد من الدولة التي تحتكر التزويد بالمادتين، وبالتالي تسجيل نقص أكبر في الخبز. 

رداً على ذلك، نظّم أصحاب هذه المخابز احتجاجات لأيام عدة انتهت بإبرام اتفاق جديد بينها وبين وزارة التجارة، يسمح لها بالتزوّد بالمواد الأساسية لصناعة أصناف من الخبز، باستثناء الخبز المدعوم. إثر ذلك، قُرر استئناف إنتاج الخبز وتعليق الوقفات الاحتجاجية بداية من 22 آب الحالي.

وفي خضم هذا كله، ومنذ بداية الأزمة، اختارت السلطات التونسية تحميل مسؤولية أزمة التزوّد بالخبز ومواد غذائية أخرى لشبكات الاحتكار والمضاربة التي تتهمها بـ”التلاعب بقوت التونسيين”، بدل مصارحة التونسيين ببقية الأسباب الأخرى التي تؤدي آلياً الى نقص المواد الأساسية، بما في ذلك الخبز. 

أصرّ الرئيس قيس سعيد على أن أزمة الخبز في البلاد وطوابير المواطنين أمام المخابز سببها “المتآمرون” وما يسميه “مسالك التجويع”، في إشارة إلى الوسطاء الذين يتدخلون في مسالك توزيع السلع. وعلى رغم وجود تلاعب كبير في عملية التوزيع، لا سيما المواد المدعومة، إلا أنه يبقى جزءاً من المشكلة، فالأسباب الأخرى لا تقل أهمية وتتطلب اعترافاً من الدولة وإسراعاً في علاجها، بخاصة نقص السيولة لشراء كميات كافية من الحبوب ونقص الإنتاج بسبب المناخ.

تشهد تونس منذ أسابيع نقصاً كبيراً في الخبز، المادة الغذائية الأكثر استهلاكاً لدى التونسيين، ما خلّف غضباً شعبياً بخاصة مع تفاقم الأزمة واضطرار المواطنين يومياً للوقوف في طوابير طويلة للحصول على حاجتهم من الخبز.

شبهات حول عملية التوزيع

بالنسبة الى عملية توزيع المواد المدعومة، فإنها تحصل عادة تحت إشراف مؤسسات حكومية، وهي موجّهة حصراً إلى المخابز المصنّفة من الدولة (مخابز متخصصة في بيع الخبز المدعوم) خلافاً للمخابز غير المصنّفة المتخصصة في صنع الخبز الفاخر والمرطبات وبيعها. ما يحدث أن هذه الأطراف تسرِّب هذه المواد الى المخابز غير المصنّفة، وبالتالي تذهب الى غير مستحقيها، وتجد المخابز المصنفة نفسها تشكو نقصاً كبيراً، وهذا ما تؤكده منظمة إرشاد المستهلك (منظمة مستقلة).

 لا يتوقف الأمر هنا، فحتى المخابز المصنفة لا تتلقى الكميات ذاتها من مادة الطحين المدعوم، إذ تهيمن أقلية من أصحاب المخابز على العدد الأكبر من الكميات الموزّعة. فتكون حصة غالبية بقية المخابز في حدود 118 قنطاراً شهرياً، أي ما يعادل 4.5 كيس يومياً، لذلك تلجأ تلك المخابز إلى استعمال مادة السميد والطحين لتغطية الطلب على الخبز. والأهم هنا، أن الدولة هي المسؤول عن هذا التلاعب باعتبارها الجهة المشرفة على عملية التوزيع.

يُذكر أن في تونس 3337 مخبزاً مصنفاً على أنه مدعوم حكومياً، يبيع الرغيف الواحد بـ190 مليماً (0.033 دولار)، و1443 مخبزاً غير مصنف يتم فيه تحرير أسعار الخبز. وتصل حاجة المخابز المصنفة إلى 50 ألف طن من الدقيق شهرياً، ما يساوي 2000 طن يومياً.

تتجنّب السلطة التونسية الحديث عن الخلل الحاصل أساساً داخل مؤسساتها وتحديداً داخل وزارة التجارة، التي تتحمل جزءاً كبيراً من المسؤولية في ما يحدث من نقص في مادة الخبز لدى إشرافها على منظومة التوزيع برمّتها. ولامتصاص غضب التونسيين، أُقيل مدير عام “ديوان الحبوب” باعتباره المؤسسة الحكومية المكلّفة تقنياً ولوجيستياً بتوفير القمح الصلب واللين للاستهلاك البشري ومادة الشعير للاستهلاك الحيواني. لكن عملياً، فإن وزارة التجارة هي التي تحدد الكميات المطلوبة من الحبوب للسوق التونسية حسب طلب السوق وحسب الميزانية المرصودة سنوياً لصندوق الدعم، وذلك بعد مصادقة وزارة المالية. كما تتحكم في أسعار الحبوب المدعومة وأسعار المواد المستخرجة المدعومة، وأيضاً في ميزانية الدعم عبر تحديدها وصرفها لـ”ديوان الحبوب”، وفي منظومة توزيع الحبوب لدى المطاحن وتوزيع الطحين المدعوم للمخابز المصنفة وغير المدعومة والسميد  للمخابز المصنفة وغير المصنفة. ما يعني أن ديوان الحبوب مجرد واجهة، وأن الخلل سببه الجهة التي تتحكم في المنظومة كاملة، ونعني هنا وزارة التجارة التي لم تتم مساءلتها رغم مسؤوليتها الكاملة عن هذه الأزمة.

يوضح حسام سعد، عضو منظمة “آلارت” Alert لمناهضة الاقتصاد الريعي (منظمة غير حكومية) لـ”درج”، “يقتصر ديوان الحبوب على لعب دور لوجستي في منظومة الحبوب أمام سيطرة وزارة التجارة (بالتعاون مع وزارة المالية) على كامل سلسلة الدعم والإنتاج والتوزيع. لكن ما يجري هو أن عمليات توزيع هذه الحصص يشوبها عدم شفافية وهيمنة للغرف النقابية لاتحاد الصناعة والتجارة على دواليب وزارة التجارة، ما يضعف قدرتها على العمل على الضغط على الكلفة الإجمالية للدعم والتعديل في الحصص بين الجهات وبين المطاحن حسب مصلحة الطرف الأخير (اتحاد الصناعة والتجارة)”. 

يضيف سعد، “سبق أن حاول وزير الفلاحة سنة 2019 بعث لجنة يرأسها ديوان الحبوب بقصد تحيين منظومة الحصص، وقد وجّه حينها مراسلتين لوزارة التجارة والغرفة الوطنية للمطاحن لفتح ملف توزيع الحبوب بعد شكاوى من عدد من المطاحن. أجاب وزير التجارة آنذاك، بأن اللجنة موجودة وترأسها وزارة التجارة ولا دخل لأي طرف غير وزارة التجارة في التصرف في الحصص كونها المسؤولة الوحيدة عن صندوق الدعم”. بمعنى أن وزارة التجارة ترفض تدخل أي جهة أخرى حتى تغطي على التجاوزات التي يدفع ثمنها المواطن التونسي ويجني ثمارها أصحاب رؤوس الأموال، وهو أحد العوامل التي لم يتحدث عنها قيس سعيد، وهو الذي اختار وزراءه بمن فيهم وزيرة التجارة.

أزمة اقتصادية

فضلاً عن خطورة الفساد الكبير داخل منظومة توزيع الحبوب والمواد الغذائية، فإن الأزمة الاقتصادية والمالية الحادة التي تعيش على وقعها تونس، أدت الى تبعات وخيمة على جميع الأصعدة بما في ذلك نقص المواد الأساسية. إذ تعاني تونس من شح في العملة الأجنبية، ما جعلها غير قادرة على توفير العملة الصعبة الضرورية لتوريد الحبوب وغيرها من المواد، لا سيما في ظل اشتراط المزودين الخلاص المسبق للشحنات. ولعل هذا ما يفسر رسو سفن عدة في الموانئ التونسية بكامل حمولتها. إذ تقول صحيفة “الشعب نيوز” التابعة للاتحاد العام التونسي للشغل، إن ثمانية بواخر محمّلة بالحبوب تنتظر منذ نحو أسبوعين في ميناء محافظة صفاقس (جنوب) الحصول على ثمن الشحنات لتفريغها.

في الأثناء، ترفض السلطات التونسية الخوض في هذه المعطيات وتعتبرها محاولة لإرباك الشعب وإخافته، رغم أن الأرقام الرسمية نفسها تؤكد هذا العجز على أكثر من صعيد. فمن جهة، تراجعت واردات تونس من القمح اللين خلال الأشهر الأربعة الأولى من سنة 2023 إلى 343.4 ألف طن مقابل 443.4 ألف طن في الفترة نفسها من سنة 2022، وكذلك واردات القمح الصلب من 275 ألف قنطار إلى 265 ألف قنطار. وهذا التراجع مرده عجز الدولة عن توفير كميات أكبر لا سيما في ظل ارتفاع الأسعار بسبب الحرب الأوكرانية – الروسية.  

من جهة أخرى، تأخرت الدولة ممثّلة في وزارة المالية حتى منتصف سنة 2023 عن صرف ميزانية الدعم لأكثر من 12 شهراً، وهو ما يحرم ديوان الحبوب من مداخيل مهمة تصل الى 2.4 مليون دينار، وهو ما يحدث ارتباكاً كبيراً في ميزانيته ويجعله غير قادر على الإيفاء بالتزاماته داخلياً وخارجياً، لا سيما أن مداخيل الدعم بالنسبة الى ديوان الحبوب هي الجزء الأهم من جلّ مداخيله. وهذا التأخر ناتج أساسا من الأزمة المالية التي تمر بها البلاد، وهو أيضاً ما لا ترغب السلطة في الإفصاح عنه.

الجفاف والأمطار المتأخّرة

منذ 2021، تراجع إنتاج الحبوب في تونس لأسباب مناخية، وكان موسم 2023 الأسوأ بسبب الجفاف والأمطار المتأخرة، اللذين أثرا على كمية وجودة إنتاج القمح الصلب الذي بلغ 250 ألف طن فقط، أي ما يعادل 19 بالمئة من حاجيات السوق. علماً  أن استهلاك تونس من الحبوب يبلغ 3.4 مليون طن موزعة بين 1.2 مليون طن لكل من القمح الصلب والقمح اللين، ومليون طن شعير، وفق بيانات رسمية لديوان الحبوب الحكومي. 

ولهذا، ترجح التقديرات الرسمية أن تتجه تونس الى شراء 90 بالمئة من احتياجاتها من القمح بسبب العوامل المناخية، وأيضاً بسبب إهمال القطاع الفلاحي (بخاصة الزراعات الكبرى) وتسعيرة شراء متدنية لا تمكّن الفلاحين من العيش الكريم. وتبدو هذه المهمة صعبة في ظل الأزمة الاقتصادية الراهنة.

وهذا ما يؤكده الخبير الاقتصادي خالد النوري بقوله لـ”درج”، “إن توريد الحبوب مرتبط بحصول تونس على القروض والتمويلات الخارجية لضمان تسيير المناقصات وتسديد فواتير المزودين والتجار، وهو أمر صعب راهناً في ظل تعثر المفاوضات مع صندوق النقد الدولي. وأعتقد أن تراجع محاصيل الحبوب في البلاد وأزمة الحبوب العالمية سيؤثران على نمط حياة التونسيينِ بشكل كبير لاحقاً”.

قد تنتهي أزمة الخبز الراهنة، لكن في ظل حالة الفساد التي تنخر مؤسسات الدولة المعنية بمسالك التوزيع وأمام استمرار الأزمة الاقتصادية من دون بوادر انفراجة، وفي ظل غياب استراتيجية وبرامج واضحة موجّهة الى قطاع الفلاحة فإن البلاد ستكون عرضة لتكرار هذه الأزمة وبأوجه ستكون أكثر ضراوة في المرات المقبلة، فللتونسيين تاريخ لا يُنسى مع الخبز يرهب أي سلطة. 

28.08.2023
زمن القراءة: 7 minutes

على رغم التوقعات بانفراج هذه الأزمة خلال الأيام المقبلة بعد عودة المخابز غير المصنّفة إلى العمل، وتعليقها الوقفات الاحتجاجية، فإن المؤشرات والعوامل التي لا تفصح عنها السلطة تؤكد أن أزمة الخبز ستتجدد على المدى القصير.

تشهد تونس منذ أسابيع نقصاً كبيراً في الخبز، المادة الغذائية الأكثر استهلاكاً لدى التونسيين، ما خلّف غضباً شعبياً بخاصة مع تفاقم الأزمة واضطرار المواطنين يومياً للوقوف في طوابير طويلة للحصول على حاجتهم من الخبز.

 على رغم التوقعات بانفراج هذه الأزمة خلال الأيام المقبلة بعد عودة المخابز غير المصنّفة إلى العمل، وتعليقها الوقفات الاحتجاجية، فإن المؤشرات والعوامل التي لا تفصح عنها السلطة تؤكد أن أزمة الخبز ستتجدد على المدى القصير.

واجهت الأسر التونسية منذ منتصف تموز/ يوليو الماضي صعوبات كبيرة في الحصول على الخبز، وأصبح مشهد الطوابير الطويلة أمام المخابز متكرراً بشكل يومي في كل مدن البلاد وفي الأوقات كافة، وهي مشاهد جديدة في تونس. 

ازداد الوضع سوءاً منذ بداية آب/ أغسطس، عندما أعلنت السلطات التونسية حرمان “المخابز العصرية” من الطحين المدعوم بذريعة أنها تبيع الخبز بأسعار مرتفعة، وعليه لم تعد الأخيرة تتلقى الطحين والسميد من الدولة التي تحتكر التزويد بالمادتين، وبالتالي تسجيل نقص أكبر في الخبز. 

رداً على ذلك، نظّم أصحاب هذه المخابز احتجاجات لأيام عدة انتهت بإبرام اتفاق جديد بينها وبين وزارة التجارة، يسمح لها بالتزوّد بالمواد الأساسية لصناعة أصناف من الخبز، باستثناء الخبز المدعوم. إثر ذلك، قُرر استئناف إنتاج الخبز وتعليق الوقفات الاحتجاجية بداية من 22 آب الحالي.

وفي خضم هذا كله، ومنذ بداية الأزمة، اختارت السلطات التونسية تحميل مسؤولية أزمة التزوّد بالخبز ومواد غذائية أخرى لشبكات الاحتكار والمضاربة التي تتهمها بـ”التلاعب بقوت التونسيين”، بدل مصارحة التونسيين ببقية الأسباب الأخرى التي تؤدي آلياً الى نقص المواد الأساسية، بما في ذلك الخبز. 

أصرّ الرئيس قيس سعيد على أن أزمة الخبز في البلاد وطوابير المواطنين أمام المخابز سببها “المتآمرون” وما يسميه “مسالك التجويع”، في إشارة إلى الوسطاء الذين يتدخلون في مسالك توزيع السلع. وعلى رغم وجود تلاعب كبير في عملية التوزيع، لا سيما المواد المدعومة، إلا أنه يبقى جزءاً من المشكلة، فالأسباب الأخرى لا تقل أهمية وتتطلب اعترافاً من الدولة وإسراعاً في علاجها، بخاصة نقص السيولة لشراء كميات كافية من الحبوب ونقص الإنتاج بسبب المناخ.

تشهد تونس منذ أسابيع نقصاً كبيراً في الخبز، المادة الغذائية الأكثر استهلاكاً لدى التونسيين، ما خلّف غضباً شعبياً بخاصة مع تفاقم الأزمة واضطرار المواطنين يومياً للوقوف في طوابير طويلة للحصول على حاجتهم من الخبز.

شبهات حول عملية التوزيع

بالنسبة الى عملية توزيع المواد المدعومة، فإنها تحصل عادة تحت إشراف مؤسسات حكومية، وهي موجّهة حصراً إلى المخابز المصنّفة من الدولة (مخابز متخصصة في بيع الخبز المدعوم) خلافاً للمخابز غير المصنّفة المتخصصة في صنع الخبز الفاخر والمرطبات وبيعها. ما يحدث أن هذه الأطراف تسرِّب هذه المواد الى المخابز غير المصنّفة، وبالتالي تذهب الى غير مستحقيها، وتجد المخابز المصنفة نفسها تشكو نقصاً كبيراً، وهذا ما تؤكده منظمة إرشاد المستهلك (منظمة مستقلة).

 لا يتوقف الأمر هنا، فحتى المخابز المصنفة لا تتلقى الكميات ذاتها من مادة الطحين المدعوم، إذ تهيمن أقلية من أصحاب المخابز على العدد الأكبر من الكميات الموزّعة. فتكون حصة غالبية بقية المخابز في حدود 118 قنطاراً شهرياً، أي ما يعادل 4.5 كيس يومياً، لذلك تلجأ تلك المخابز إلى استعمال مادة السميد والطحين لتغطية الطلب على الخبز. والأهم هنا، أن الدولة هي المسؤول عن هذا التلاعب باعتبارها الجهة المشرفة على عملية التوزيع.

يُذكر أن في تونس 3337 مخبزاً مصنفاً على أنه مدعوم حكومياً، يبيع الرغيف الواحد بـ190 مليماً (0.033 دولار)، و1443 مخبزاً غير مصنف يتم فيه تحرير أسعار الخبز. وتصل حاجة المخابز المصنفة إلى 50 ألف طن من الدقيق شهرياً، ما يساوي 2000 طن يومياً.

تتجنّب السلطة التونسية الحديث عن الخلل الحاصل أساساً داخل مؤسساتها وتحديداً داخل وزارة التجارة، التي تتحمل جزءاً كبيراً من المسؤولية في ما يحدث من نقص في مادة الخبز لدى إشرافها على منظومة التوزيع برمّتها. ولامتصاص غضب التونسيين، أُقيل مدير عام “ديوان الحبوب” باعتباره المؤسسة الحكومية المكلّفة تقنياً ولوجيستياً بتوفير القمح الصلب واللين للاستهلاك البشري ومادة الشعير للاستهلاك الحيواني. لكن عملياً، فإن وزارة التجارة هي التي تحدد الكميات المطلوبة من الحبوب للسوق التونسية حسب طلب السوق وحسب الميزانية المرصودة سنوياً لصندوق الدعم، وذلك بعد مصادقة وزارة المالية. كما تتحكم في أسعار الحبوب المدعومة وأسعار المواد المستخرجة المدعومة، وأيضاً في ميزانية الدعم عبر تحديدها وصرفها لـ”ديوان الحبوب”، وفي منظومة توزيع الحبوب لدى المطاحن وتوزيع الطحين المدعوم للمخابز المصنفة وغير المدعومة والسميد  للمخابز المصنفة وغير المصنفة. ما يعني أن ديوان الحبوب مجرد واجهة، وأن الخلل سببه الجهة التي تتحكم في المنظومة كاملة، ونعني هنا وزارة التجارة التي لم تتم مساءلتها رغم مسؤوليتها الكاملة عن هذه الأزمة.

يوضح حسام سعد، عضو منظمة “آلارت” Alert لمناهضة الاقتصاد الريعي (منظمة غير حكومية) لـ”درج”، “يقتصر ديوان الحبوب على لعب دور لوجستي في منظومة الحبوب أمام سيطرة وزارة التجارة (بالتعاون مع وزارة المالية) على كامل سلسلة الدعم والإنتاج والتوزيع. لكن ما يجري هو أن عمليات توزيع هذه الحصص يشوبها عدم شفافية وهيمنة للغرف النقابية لاتحاد الصناعة والتجارة على دواليب وزارة التجارة، ما يضعف قدرتها على العمل على الضغط على الكلفة الإجمالية للدعم والتعديل في الحصص بين الجهات وبين المطاحن حسب مصلحة الطرف الأخير (اتحاد الصناعة والتجارة)”. 

يضيف سعد، “سبق أن حاول وزير الفلاحة سنة 2019 بعث لجنة يرأسها ديوان الحبوب بقصد تحيين منظومة الحصص، وقد وجّه حينها مراسلتين لوزارة التجارة والغرفة الوطنية للمطاحن لفتح ملف توزيع الحبوب بعد شكاوى من عدد من المطاحن. أجاب وزير التجارة آنذاك، بأن اللجنة موجودة وترأسها وزارة التجارة ولا دخل لأي طرف غير وزارة التجارة في التصرف في الحصص كونها المسؤولة الوحيدة عن صندوق الدعم”. بمعنى أن وزارة التجارة ترفض تدخل أي جهة أخرى حتى تغطي على التجاوزات التي يدفع ثمنها المواطن التونسي ويجني ثمارها أصحاب رؤوس الأموال، وهو أحد العوامل التي لم يتحدث عنها قيس سعيد، وهو الذي اختار وزراءه بمن فيهم وزيرة التجارة.

أزمة اقتصادية

فضلاً عن خطورة الفساد الكبير داخل منظومة توزيع الحبوب والمواد الغذائية، فإن الأزمة الاقتصادية والمالية الحادة التي تعيش على وقعها تونس، أدت الى تبعات وخيمة على جميع الأصعدة بما في ذلك نقص المواد الأساسية. إذ تعاني تونس من شح في العملة الأجنبية، ما جعلها غير قادرة على توفير العملة الصعبة الضرورية لتوريد الحبوب وغيرها من المواد، لا سيما في ظل اشتراط المزودين الخلاص المسبق للشحنات. ولعل هذا ما يفسر رسو سفن عدة في الموانئ التونسية بكامل حمولتها. إذ تقول صحيفة “الشعب نيوز” التابعة للاتحاد العام التونسي للشغل، إن ثمانية بواخر محمّلة بالحبوب تنتظر منذ نحو أسبوعين في ميناء محافظة صفاقس (جنوب) الحصول على ثمن الشحنات لتفريغها.

في الأثناء، ترفض السلطات التونسية الخوض في هذه المعطيات وتعتبرها محاولة لإرباك الشعب وإخافته، رغم أن الأرقام الرسمية نفسها تؤكد هذا العجز على أكثر من صعيد. فمن جهة، تراجعت واردات تونس من القمح اللين خلال الأشهر الأربعة الأولى من سنة 2023 إلى 343.4 ألف طن مقابل 443.4 ألف طن في الفترة نفسها من سنة 2022، وكذلك واردات القمح الصلب من 275 ألف قنطار إلى 265 ألف قنطار. وهذا التراجع مرده عجز الدولة عن توفير كميات أكبر لا سيما في ظل ارتفاع الأسعار بسبب الحرب الأوكرانية – الروسية.  

من جهة أخرى، تأخرت الدولة ممثّلة في وزارة المالية حتى منتصف سنة 2023 عن صرف ميزانية الدعم لأكثر من 12 شهراً، وهو ما يحرم ديوان الحبوب من مداخيل مهمة تصل الى 2.4 مليون دينار، وهو ما يحدث ارتباكاً كبيراً في ميزانيته ويجعله غير قادر على الإيفاء بالتزاماته داخلياً وخارجياً، لا سيما أن مداخيل الدعم بالنسبة الى ديوان الحبوب هي الجزء الأهم من جلّ مداخيله. وهذا التأخر ناتج أساسا من الأزمة المالية التي تمر بها البلاد، وهو أيضاً ما لا ترغب السلطة في الإفصاح عنه.

الجفاف والأمطار المتأخّرة

منذ 2021، تراجع إنتاج الحبوب في تونس لأسباب مناخية، وكان موسم 2023 الأسوأ بسبب الجفاف والأمطار المتأخرة، اللذين أثرا على كمية وجودة إنتاج القمح الصلب الذي بلغ 250 ألف طن فقط، أي ما يعادل 19 بالمئة من حاجيات السوق. علماً  أن استهلاك تونس من الحبوب يبلغ 3.4 مليون طن موزعة بين 1.2 مليون طن لكل من القمح الصلب والقمح اللين، ومليون طن شعير، وفق بيانات رسمية لديوان الحبوب الحكومي. 

ولهذا، ترجح التقديرات الرسمية أن تتجه تونس الى شراء 90 بالمئة من احتياجاتها من القمح بسبب العوامل المناخية، وأيضاً بسبب إهمال القطاع الفلاحي (بخاصة الزراعات الكبرى) وتسعيرة شراء متدنية لا تمكّن الفلاحين من العيش الكريم. وتبدو هذه المهمة صعبة في ظل الأزمة الاقتصادية الراهنة.

وهذا ما يؤكده الخبير الاقتصادي خالد النوري بقوله لـ”درج”، “إن توريد الحبوب مرتبط بحصول تونس على القروض والتمويلات الخارجية لضمان تسيير المناقصات وتسديد فواتير المزودين والتجار، وهو أمر صعب راهناً في ظل تعثر المفاوضات مع صندوق النقد الدولي. وأعتقد أن تراجع محاصيل الحبوب في البلاد وأزمة الحبوب العالمية سيؤثران على نمط حياة التونسيينِ بشكل كبير لاحقاً”.

قد تنتهي أزمة الخبز الراهنة، لكن في ظل حالة الفساد التي تنخر مؤسسات الدولة المعنية بمسالك التوزيع وأمام استمرار الأزمة الاقتصادية من دون بوادر انفراجة، وفي ظل غياب استراتيجية وبرامج واضحة موجّهة الى قطاع الفلاحة فإن البلاد ستكون عرضة لتكرار هذه الأزمة وبأوجه ستكون أكثر ضراوة في المرات المقبلة، فللتونسيين تاريخ لا يُنسى مع الخبز يرهب أي سلطة.