اليوم هو الجمعة، اليوم الثامن والعشرين منذ بداية الحرب على غزة، ما زالت تتوارد أخبار القتل والتدمير وإبادة مربعات سكنية وقتل عائلات بأكملها في مخيمات اللاجئين التي تعتبرها إسرائيل والعالم مناطق آمنة. بلغ عدد القتلى أكثر من 9000 ونحو 2000 مفقود تحت الأنقاض، وأكثر من 20 ألف مصاب، كما أعلن الجيش الإسرائيلي أنه نفذ 12 ألف هجوم في غزة منذ بدء الحرب.
منذ اليوم الأول للحرب لم يتوقف المسجد القريب من مكان إقامتنا عن رفع الأذان عبر مكبرات الصوت وإقامة الصلوات الخمس، وما زال الكثيرون يتوجهون للصلاة في المسجدين القريبين.
اليوم استيقظ عادل ذو العامين مُبكراً، قبل السابعة، وأصر أن أخرج معه من البيت. تغلبت على خوفي مرة أخرى، وتجاوزت التفكير في حرب الإبادة والقتل الجماعي، وما يجري في غزة وشمالها. خرجت معه بعد أن كنت أحاول الاتصال بابنتي يافا في مدينة غزة لمعرفة أخبارها، وبخالتي وزوجها في مخيم جباليا وبيتهم المجاور للمربع السكني التي ارتكبت فيه طائرات الاحتلال الحربية مجزرة فظيعة. خرجت وأنا أفكر بهم وبغيرهم من الأقارب والأصدقاء الذين حاولت معرفة أخبارهم. وبعد جولة مع عادل استمرت نحو ربع ساعة في المخيم عدنا للبيت، لكنه لم يكتف، يريد البقاء واللعب مع أولاد الجيران.
بعض الأهالي متشائمين، يتوقعون أن يغيظ لعب الأطفال الطيارين الإسرائيليين فيقصفوا المنطقة.
لم يتوقف عادل خلال الأيام الماضية عن النظر عبر النافذة وهو يسمع صوت الاذان، وهدير الطائرات وانفجارات الصواريخ والقنابل الضخمة التي تنفجر قريبا وبعيداً، والتي لا تغيب عن سماء رفح. يحاول نطق كلمة طائرة وهو يشير بإصبعه الى السماء، كما يُصر على الخروج من المنزل ليشاهد أولاد الجيران يرفعون المياه إلى الطابق الثالث بواسطة الحبل، الحدث الذي يستمر لساعات طويلة، ويتكرر مرةً كل يومين.
يستيقظ عدد من أطفال الحارة باكراً للخروج إلى الشارع كي يلعبوا بصورة يوميّة، لكن في ساعات بعد الظهر يزداد عدد الأطفال بشكل مخيف. العشرات من الأطفال يلعبون، يقسمون أنفسهم إلى مجموعات للعب كرة القدم في شارع عرضه 6 أمتار.
أشعر بالفرح والرعب في نفس الوقت، عندما أشاهد الأطفال يصرخون و يتناقلون الكرة حفاة يملؤهم شعور غامر بالفرح والبهجة، دون أن يلتفتوا لصوت الطائرات. في الأيام السابقة كان الجيران يمنعوهم من اللعب خوفا عليهم، لأن الأوضاع لا تسمح، كما أن بعض الأهالي أكثر تشاؤماً، يتوقعون أن يغيظ لعب الأطفال الطيارين الإسرائيليين فيقصفوا المنطقة.
بعد نحو 30 عاماً من العمل في حقوق الإنسان، والآن كرئيس لمجلس إدارة الضمير لحقوق الإنسان في غزة، أنا أشعر بالخجل، وأسأل ماذا فعلنا طوال السنين؟. خلال السنوات الماضية حديث عن حقوق الناس وتدريبهم وتثقيفهم، والآن نشاهد المقتلة الكبرى واستسهال قتل البشر وظُلمهم واضطهادهم دون تدخل من أحد. تنتشر الآن أفكار سوداء حول حقيقة العالم والديمقراطية ومعاييرها والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، نحن نشهد استمراراً لـ 75 عاماً من الظلم وإنكار حقوق الفلسطينيين من قبل نظام فصل عنصري مدعوم من مجتمع دولي منافق.
يوم الاربعاء هو يوم الماء في حي الشابورة والحارة التي نقيم فيها، فموعد وصول المياه وفقاً لجدول بلدية رفح وهو يوم الاثنين من كل أسبوع، حيث يتم ضخها لـ 5 ساعات فقط، لكن هذا الاسبوع تم تأخيرها ليوم الاربعاء.
كانت الحارة خلية نحل، يستعدّ سكّانها لرفع المياه للطوابق العليا، (الاول والثاني)، وحجز مولدات الكهرباء التي يتم تشغيلها بواسطة أنابيب غاز الطهي في المنازل، وذلك لعدم توفر السولار والبنزين. ينتظر غالبية الناس وصول مياه البلدية لأنهم لا يستطيعون شراء المياه.
مساء الخميس من اليوم الـ 27 للحرب بدأت الأحاديث والأخبار تتوارد عن مهاجمة جموع من الناس والنازحين مركز “اونروا” المخصص لتخزين المساعدات الإنسانيّة، غرب مدينة رفح. اقتحم الناس المخازن للحصول على الطحين والمواد التموينية المخزنة منذ ثلاثة أسابيع ولم يتم توزيعها.
أصبح الناس على حافة الجوع مع نقص المواد الغذائية وندرة النقود والفقر والبطالة التي تصل إلى 80%، إذ يعتاش الكثير من سكان القطاع على المساعدات الإنسانية الشهرية التي لم توزعها “اونروا”، وبعضهم يعتمد على المساعدة القطرية التي تبلغ (100) دولار شهرياً وتوزع على نحو 100 ألف أسرة. ناهيك بتوقف المساعدات النقدية، التي يستفيد منها 85 ألف أسرة من قطاع غزة تقدمها وزارة التنمية الاجتماعية في السلطة الفلسطينية، والتي تقلصت خلال السنوات الثلاثة الماضية إلى الحد الأدنى.
يشعر الناس بغضب شديد تجاه “اونروا” التي فشلت، وما زالت لا تقوم بواجبها، هم يدركون أنها لا تستطيع حماية اللاجئين، لكن عدم القدرة على إدارة الأزمة الإنسانية وتوزيع المواد الغذائية يعتبره البعض تواطؤ.
الساعة السادسة من مساء أمس الخميس الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني، اتصل أسامة، صديق ابني يوسف، يبلغ عدد أفراد عائلة أسامة نحو 50 شخص، يعيشون في منزل مكون من ثلاث طوابق في مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة. لم تغادر عائلته المدينة، لكنه أخبر يوسف أن العائلة ستغادر المخيم الى مستشفى الشفاء، بعد أن ألقى الجيش الاسرائيلي مناشير من الطائرات تطالب السكان بمغادرة المخيم.
قال أسامة أيضاً أن ليلية الأربعاء شهدت غارات عنيفة جداً، استمرت لساعات طويلة تعرض إثرها المخيم ومحيطه لهجمات عنيفة من الطائرات الحربية الاسرائيلية، وقتل المئات في المخيم في قصف طال منازل مجاورة لمدرسة للأونروا، كما سقط أحد الصواريخ في ساحة مدرسة تستخدم مركز للايواء، وتسبب بمقتل اثنين من النازحين.
إقرأوا أيضاً: