في عام 2013، اعتقلت قوات النظام في سوريا الطبيبة رانيا العباسي مع أطفالها الستة في العاصمة دمشق، حيث اقتحم عناصر النظام منزلها وأخذوها مع عائلتها إلى مكان مجهول، لتنقطع أخبارهم منذ ذلك الحين.
لم تفلح محاولات عائلتها في الوصول إلى أي معلومة حول مصيرها أو مصير أطفالها الذين تراوحت أعمارهم وقت الاعتقال بين عام واحد و14 عاماً. على الرغم من تبني منظمة العفو الدولية قضيتهم، وتوجيه رسائل مباشرة الى النظام السوري للإفراج عن الأطفال، لم يصدر أي رد أو تفاعل رسمي، ولم يتمكن أحد من معرفة مصير الطبيبة وأطفالها.
شكّل هذا الاعتقال حينها محطة مؤلمة في تاريخ الانتهاكات المتمادية، لا سيما المتعلقة باحتجاز أطفال وطفلات لأسباب سياسية. ومنذ إعلان سقوط النظام الحاكم في سوريا، توالت الأخبار عن احتمال تورط بعض دور الأيتام لا سيما “قرى الأطفال SOS ” في سوريا في عملية إخفاء الأطفال.
ظهر أخ الدكتورة المخطوفة، حسان العباسي، في تسجيل فيديو متحدثاً عن اتصالات أجراها مع” القرى” في دمشق للتحقق من هذا الأمر بعد تواتر معلومات عن وجود أطفال الدكتورة هناك ولكن تحت أسماء مستعارة.
ارتباط القرى بالنظام
تعتبر “قرى الأطفال SOS “، ومقرها الرئيسي في النمسا، منظمة دولية غير حكومية، لكنها تخضع للأنظمة المرعية الإجراء في الدول التي توجد فيها. وعليه فهي وكما في كل الدول، تخضع لنفوذ النظام المحلي.
في سوريا، وجود المنظمة محكوم بعقود وشروط تتيح للنظام التدخل المباشر في تعيين أعضاء مجلس إدارة القرى والوظائف الأساسية فيها، لا سيما أن رواتب الموظفين والموظفات هو أعلى بكثير من الرواتب المحلية. و عليه كانت “القرى” على علاقة وطيدة مع النظام، بخاصة مع بداية تظهير صورة أسماء الأسد كسيدة أولى تهتم بشؤون الأطفال.
خصّت أسماء الأسد القرى باهتمام خاص بعدما تعرضت المنظمة لخضات كبيرة مع نهاية التسعينات، فكانت تحرص على زيارة القرى في مناسبات عدة لتلميع صورة الحريصة على توفير الرعاية للأطفال والطفلات، وكانت زيارتها الأخيرة في حفلة عيد الأم عام 2024.
البدايات الفعلية لهذه العلاقة الوطيدة بدأت بالظهور بي عامي 2004 و2005، إذ بالإضافة إلى استئثار النظام بالمناصب الأساسية في القرى كان له القرار الفاصل في تعيين مديرة القرى، والتي كانت مقرّبة من النظام خلال السنوات الماضية.
في عام 2019، تناولت تقارير صحافية معارضة، معلومات عن تعرض الأطفال للضرب والإيذاء النفسي على يد “الأمهات” و”الخالات” المسؤولات عن رعايتهم في قرية الأطفال في قدسيا، كما تم توثيق حالات تستر الإدارة على المتورطين بالإساءات، وإعادة توظيفهم في مواقعهم بعد فترات قصيرة.
والسؤال هنا لا بد من أن يطرح نفسه: هل فعلاً بإمكان منظمة محلية ذات بعد دولي أن تتورط في إخفاء الأطفال أو تنفيذ احتجاز حريتهم بأمر من السلطات المحلية؟
إقرأوا أيضاً:
مأزق قرى الأطفال الدولية
عالمياً، تعرضت منظمة قرى الأطفال إلى اهتزازات كبيرة نتيجة انتشار تقارير عن تعرض الأطفال إلى إساءة المعاملة وصولاً إلى الاعتداءات الجنسية، ناهيك بفساد مالي مستشرٍ. وهذا ما أجبر المنظمة الدولية على تشكيل اللجنة المستقلة في عام 2021، للتحقيق في إخفاقات الحماية والتزام القوانين، بما في ذلك انتهاكات ضد الأطفال، الفساد، وسوء استخدام الموارد.
ولم تكن “قرى الأطفال” في عالمنا العربي، لا سيما في لبنان وسوريا، بعيدة من هذه الإساءات، إذ ظهرت تقارير عدة تؤكد انتهاكات أساسية تعّرض لها الأطفال في هذه القرى. وتم توثيق جزء أساسي من هذه الانتهاكات في تقرير اللجنة المستقلة، إذ زار فريق متخصص لبنان وأجرى تحقيقات معمقة أكدت تعرض الأطفال لاعتداءات بشكل ممنهج.
كل هذه التوثيقات دفعت بمنظمة قرى الأطفال الدولية إلى تقديم اعتذار علني عن الإخفاقات السابقة، وشجعت جميع من لديهم معلومات عن إساءة أو سوء سلوك للإفصاح عنها. وأطلقت خطة عمل تضم 24 نقطة لتحسين حماية الأطفال ومعالجة الإخفاقات السابقة. لكن المنظمة أخفقت في جبر ضرر الضحايا لا سيما الأطفال والطفلات الذين تعرضوا للاعتداءات، والعاملين والعاملات في هذه القرى المتصدين/ات لهذه الانتهاكات. ورغم نية المنظمة في تصحيح أوضاعها إلا أنها ما زالت تواجه تحديات أساسية في تطبيق إصلاحات عميقة على المستوى الدولي والمحلي.
توضيح مبهم من القرى
في تصريح صادر في 16 كانون الأول/ ديسمبر 2024، أقرت المنظمة الدولية بالمخاوف المتعلقة بالأطفال الذين تمت إحالتهم إلى منظمات الرعاية، بما في ذلك قرى الأطفال SOS – سوريا، “من الحكومة السابقة خلال الحرب الأهلية”. كما أكدت أن هؤلاء الأطفال، الذين فُصلوا عن عائلاتهم أثناء النزاع، وضعتهم السلطات في عهدة القرى من دون تقديم وثائق تُثبت أصولهم.
استمرت هذه الإحالات القسرية إلى القرى، بحسب البيان، حتى عام 2019، عندما طلبت من السلطات التوقف عن إرسال هذه الحالات المُسماة بـ”حالات أمنية”. إلا أن القرى لم توضح مصير هؤلاء الأطفال وكيفية حفظ سجلاتهم.
كما أوضحت الإدارة في بيان، أنها عملت بشكل مكثف لمساعدة عائلة العباسي، إلا أن أياً من أبناء رانيا العباسي لم يصل إلى فروع “قرى الأطفال” في دمشق وخارجها.
هيئة تحقيق مستقلّة
في ظل ما نشهد عليه من ممارسات وحشية ضد معتقلين ومعتقلات نظام الأسد في سوريا، هناك أسئلة كثيرة حول مناعة جمعيات وهيئات في مقاومة ما فرضه النظام. وربما كانت قرى الأطفال في سوريا مجبرة على تنفيذ أوامر النظام بقبول الأطفال والطفلات من دون سجلات أو وثائق، إلا أن هذا لا يشكل مبرراً كافياً لمنع المنظمة من توثيق الحد الأدنى من المعطيات المستقاة عن الأعداد والأعمار وصور الأطفال والطفلات عند قدومهم/ن الى القرى، إضافة إلى فتح ملفات فردية خاصة بكل طفل/ة.
هذه إجراءات روتينية كنا نقوم بها كجزء من عملي السابق كمديرة لقرى الأطفال في لبنان. فماذا الذي منع قرى الأطفال في سوريا من إجراء عملية توثيق رديف محلي بغرض لم الشمل عندما تتيح الفرصة لذلك. هل تورطت القرى مع النظام عبر توفير سجن للأطفال والطفلات؟ وإذا كانت القرى المحلية محكومة بمتطلبات النظام، فماذا فعلت المنظمة الدولية بهذا الخصوص على مدار السنوات السابقة؟
والمهم الآن أن نعرف ما هي الخطة الفعلية لقرى الأطفال للكشف عن مصير الأطفال والطفلات المخفيين/ات قسراً في صروحها؟ وما هي الخطة الآمنة التي ستتبعها للم شمل الأطفال والطفلات مع عائلاتهم/ن؟
قضية كهذه تتطلب تحقيقاً متخصصاً مستقلاً قبل أن يخفي المتورطون والمتورطات في الداخل الأدلة!
إقرأوا أيضاً: