fbpx

أطفال سوريا…
يتسوّلون الخبز وعيدان الثقاب

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

الحكومة التي قمعت شعبها لا تزال تحكم. تلك الحكومة ذاتها التي يُعاد تأهيلها ببطء لكي تعود إلى الساحة الدولية، مع نسيان سجلها الواسع من انتهاكات حقوق الإنسان… تلك الحكومة التي يتّمت أطفالنا وهجرتهم في الشوارع.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“أنقذوهم”…

رُسمت هذه الكلمة بأسلوب مزخرف، ووضع خط آخر تحتها، على جانب أحد المباني الطوبية في وسط إدلب التي مزقتها الحرب. إنها لوحة جدارية لفنان سوري من رسامي الشوارع المجهولين، تحكي مأساة شبيهة بمأساة “بائعة الكبريت” لهانس أندرسون كريستيان.

تحكي القصة الشهيرة عن فتاة صغيرة كانت تتجمد من شدة البرد، وقبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة، رأت آمالها تتهاوى أمام أعينها على ضوء نيران أعواد الثقاب، التي كان يفترض أن تبيعها. لقد أثارت مشاعري أوجهُ التشابه بين هذه القصة والظاهرة التي يبدو أنها تجتاح أطفال الشوارع السوريين؛ إنها تلك الحاجة إلى الهروب إلى ملجأ يخدر شعورهم بمرارة حياة الشارع.

كتبت سينثيا سليمان- المتخصصة في مجال حماية الأطفال- أن أطفال الشوارع اللاجئين السوريين في بيروت “… ليسوا لصوصاً ولا مجرمين؛ ورغم الصعوبات التي يواجهونها، فلا يزال بإمكانهم أن يكونوا عطوفين بشكل لا يصدق، ولديهم آمال ومخاوف مثل أي شخص آخر”. وبجانب هؤلاء، هناك حوالى 26 ألف طفل سوري مشرد في إسطنبول، تعرضوا للتهميش، والوصم، والتحيز ضدهم. من لبنان إلى إسطنبول؛ ضاع هؤلاء الأطفال وسط حلقة مفرغة من إهمال نظامٍ ليس على طاولة أولوياته دمجُ الأيتام في المجتمع. وسواء عُدُّوا من المنسيين، أو عدهم آخرون مصدر إزعاج، أو قيل إنهم الوقود المثالي لإشعال أوار خطاب الجناح اليميني؛ ففي النهاية “… ليسوا سوى أطفال، يملأون الشوارع بضجيجهم”.

ومقابل ساعة من السعادة أو أقل، سيتمسك هؤلاء الأطفال بأي شيء ينسيهم البرد القارس وآلام الجوع. ومن هنا حاول هؤلاء وقد أصبحوا بالأحرى “بقايا أطفال” بعدما حولهم البرد إلى أشباح، أن يلتمسوا ملاذاً في “اللهب”، تماماً كما فعلت بائعة الكبريت.

أشعل عود ثقاب، فأرى الأطفال يصيحون فرحين كلما علت بهم أرجوحة العيد…

وكما كانت بائعة الكبريت تهرب من مآسيها في لهب أعواد الثقاب؛ فقد اخترع أطفال الشوارع السوريون “لهبهم” الخاص: غراء لاصق، يضغط في كيس بلاستيكي ثم يُستنشق، ويباع بسعر مغرٍ للغاية، ويسبب للإدمان. إنه مهرب سهل المنال من وحشية الفقر المدقع؛ نحو 300 ليرة سورية فقط لا غير.

هناك فيديو لفتاة صغيرة تقف خلف الحواجز على حافة نهر بردى. من المؤكد أنها لم تتجاوز الحادية عشرة، يبدو شعرها الكستنائي الأشعث كما لو كان مقصوصاً لجعل الحياة أقل تشوشاً، وليوفر وقتاً أطول للتسول والمخدرات. كانت مستلقية على ظهرها، ومن الواضح أنها في قبضة عالم آخر، ووجهها مغطى بكيس بلاستيكي. كانت تتنفس في هذا الكيس، فينكمش بشهيقها، وينبسط بزفير أنفاسها الطفولية. ثم وقف أمامها رجلٌ وهو يصور.

الرسمة للرسامة التصويرية السورية ديمة نشاوي

أقامها لتجلس، وسألها: “ما الذي تتعاطينه؟ ما هذا الذي تستنشقينه؟”.

تنهدت الفتاة، ثم تشبثت بالكيس وأخذت تستنشق منه بعمق كما لو كانت تتنفس هواء عالمها الهادئ، ثم تخرج زفيرها العميق.

كانت إجابتها تعكس حالتها المزرية، كانت إجابة شخص في عالمٍ آخر.

“من أين أنتِ؟

-شاغور

-أين عائلتك؟

-أمي ميتة، وأبي في السجن”.

عادت الفتاة لشهيقها اليائس من الكيس، ثم استلقت ثانية. حاول الرجل سحب الكيس منها، وهي تمسك به بقوة وتبكي وتستميت. وفي أثناء ذلك أشاحت برأسها إلى الخلف لتكشف عن وجهها الذي أذهبت ملامحه المخدرات.

يُظهر المقطع التالي الطفلة في النهر، واقفة على الحافة، تتلمس الحائط وتبكي؛ بينما يكافح أفراد من العامة لإخراجها. ليس واضحاً تماماً ما إذا كانت قد ألقت بنفسها أو سقطت بلا قصد، أو كانت تحاول استعادة الكيس.

الرسمة للرسامة التصويرية السورية ديمة نشاوي  

عندما أُجريت مقابلات مع أطفال آخرين لسؤالهم عن الأكياس، قالوا إن ذلك ينسيهم الجوع، ويخدر حواسهم، ويساعدهم على النسيان، ويأخذهم إلى عالم آخر؛ عالم يرون فيه الشخص الذي فقدوه منذ فترة طويلة. ألا نرغب جميعاً في العودة إلى ما فقدناه؟ ربما كانت هذه الطفلة تبحث عن والدتها في العالم الآخر، ربما كانت هناك بين ذراعيها، بشعرها الطويل اللامع، وملابسها النظيفة، وخديها الورديين، وخصرها الممتلئ.

أشعل عود ثقاب، فأراني أعود إلى ضفة نهر العاصي، حيث تتغنى السواقي العتيقة وهي ترفع الماء، ويقفز الأطفال إلى حلم الصيف المجيد.

كانت زيارتي الأخيرة إلى دمشق عام 2017، وسط ويلات الحرب الأهلية الجارية هناك. فقد باتت دمشق قلعة مكدسة بالمآسي الإنسانية من أولها إلى آخرها. لم يكن هناك ماء وتقريباً لا كهرباء، ومشيت في تلك الشوارع التي لم يعد بإمكاني التعرف إليها، في ذهول. ورأيت بأم عيني أطفال الشوارع في مدينتي. أذكر فتاة واحدة على وجه الخصوص، جلست على جانب الطريق مع صندوق علكة. لقد كانت صغيرة، لم تكن أكبر من طفلي آنذاك. في البداية ظننتها بمفردها، لذا اقتربت منها وتحدثت إليها، لكن عمها ظهر فجأة لطمأنتي أنها ليست بمفردها. فقد كانت فتاة صغيرة جميلة تجلس على جانب الطريق تبيع العلكة، جمالها وسيلة لجذب شفقة المارة. كانوا لاجئين من حلب. وكان هناك أطفال مثلها في كل مكان. يتجمعون على الأبواب، والبعض منهم كان نائماً لأن النوم في ساعات النهار أكثر أماناً، والبعض يتسول، والبعض الآخر يحدق بعيداً. لم تعد المدينة التي عرفتها وأحببتها.

مررت فوق جسر فيكتوريا في ذلك اليوم، ووجدت طفلة وطفل آخرين، والصغيرة كانت مصابة بتشوه واضح في ساقها التي كسرت ولم تتلق الرعاية الطبية المناسبة اللازمة، ونتيجة لذلك أصبحت عرجاء. تجلس بجوار شقيقها يتسولان في برد كانون الثاني/ يناير القارس على جسر فيكتوريا. أعطيتها المال المتبقي في حقيبتي على أمل ساذج بأن تذهب إلى “المنزل”. جلست بجانبها أشعر بعجز شديد، أنظر إلى الناس يمشون غير مكترثين، كلهم كانوا منهمكين في معاركهم الخاصة من أجل البقاء، بينما كانوا يعبرون فوق ساقها كما لو أنها لم تكن سوى غصن ملقى على الأرض.

الرسمة للرسامة التصويرية السورية ديمة نشاوي

أولئك الأطفال كان يجب أن يكونوا في منازلهم يشعرون بالدفء ويتابعون دراستهم. لكن في الحقيقة ووفقاً للأمم المتحدة، هناك 2.6 مليون طفل مشرد داخل سوريا، و2.5 مليون طفل يعيشون لاجئين في البلدان المجاورة. و5.5 مليون طفل بحاجة إلى المساعدات الإنسانية.

أشعل عود ثقاب والمباني باقية على حالها. وأشعل آخر والخوذ البيض لم يعد لها وجود.

الإهانات التي نواجهها داخل حدودنا، والتي تجبرنا على الفرار، تُضاهي تلك الإهانات التي واجهناها في الأراضي الأجنبية. فقد أعطيت لنا أرقام في الفروع الأمنية السورية، وقام التشيكيون بإخراجنا من القطارات من أجل تسجيل أرقام على أذرعنا وحسب. وتعرضنا للضرب في البلقان على الطريق إلى ألمانيا. في حين ألغت الدانمرك وضع الإقامة الموقت، وحبستنا إلى أجل غير مسمى في مراكز الاحتجاز. فقد كانت معظم الحالات حتى الآن من النساء والمسنين، لأن البلاد تدرك الخطر على الرجال المعرضين لخطر التجنيد الإجباري أو العقاب بسبب فرارهم.

أشعل عود ثقاب، وبشرة أخي تصبح ناعمة ولا أثر للشظايا.

لقد هربنا من حكومة تشعل النار في شعبها، وتتجاوز “الخطوط الحمر” من دون رادع. تلك الحكومة التي دفعتنا إلى الانتظار لساعات من أجل الحصول على رغيف خبز، وتفجر الأسواق وطوابير الخبز. دفعتنا إلى حمل اسطوانات الغاز عبر الشوارع، والنوم طوال الليل في سياراتنا على أمل الحصول على الوقود، ثم نرجع إلى منازلنا خالي الوفاض. ونختفي بلا رجعة عند نقاط التفتيش. ونضطر إلى إيجاد وسيلة للهروب عبر الحدود، والسباحة في غياهب البحار.

وفقاً لـ”منظمة العفو الدولية”، لا تزال الانتهاكات مستمرة، إذ يتعرض اللاجئون الذين عادوا إلى سوريا للاحتجاز القسري والتعذيب والاغتصاب. ربما هدأت الهجمات العسكرية، بيد أن الحكومة التي قمعت شعبها لا تزال تحكم. تلك الحكومة ذاتها التي يُعاد تأهيلها ببطء لكي تعود إلى الساحة الدولية، مع نسيان سجلها الواسع من انتهاكات حقوق الإنسان… تلك الحكومة التي يتّمت أطفالنا وهجرتهم في الشوارع.

أشعل عود ثقاب فأرى وجهك.

سأحتفظ بآخر عود ثقاب معي ليوم الميلاد.

إقرأوا أيضاً:

مرام أحمد | 07.09.2024

طبقات الجباية و”الأتاوات” في الاقتصاد السوري

تشهد المناطق الخاضعة لسلطة النظام السوري هجرة واسعة للصناعيين والتجّار، وأصحاب الفعّاليات التجارية، وإلى جانب الحرفيين والمهنيين العاملين في قطّاع المهن والحرف التقليدية، نتيجة للانخفاض الحادّ في الربحية، وارتفاع في الضرائب، وإجبار البعض على دفع الإتاوات والمخالفات.
13.12.2021
زمن القراءة: 5 minutes

الحكومة التي قمعت شعبها لا تزال تحكم. تلك الحكومة ذاتها التي يُعاد تأهيلها ببطء لكي تعود إلى الساحة الدولية، مع نسيان سجلها الواسع من انتهاكات حقوق الإنسان… تلك الحكومة التي يتّمت أطفالنا وهجرتهم في الشوارع.

“أنقذوهم”…

رُسمت هذه الكلمة بأسلوب مزخرف، ووضع خط آخر تحتها، على جانب أحد المباني الطوبية في وسط إدلب التي مزقتها الحرب. إنها لوحة جدارية لفنان سوري من رسامي الشوارع المجهولين، تحكي مأساة شبيهة بمأساة “بائعة الكبريت” لهانس أندرسون كريستيان.

تحكي القصة الشهيرة عن فتاة صغيرة كانت تتجمد من شدة البرد، وقبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة، رأت آمالها تتهاوى أمام أعينها على ضوء نيران أعواد الثقاب، التي كان يفترض أن تبيعها. لقد أثارت مشاعري أوجهُ التشابه بين هذه القصة والظاهرة التي يبدو أنها تجتاح أطفال الشوارع السوريين؛ إنها تلك الحاجة إلى الهروب إلى ملجأ يخدر شعورهم بمرارة حياة الشارع.

كتبت سينثيا سليمان- المتخصصة في مجال حماية الأطفال- أن أطفال الشوارع اللاجئين السوريين في بيروت “… ليسوا لصوصاً ولا مجرمين؛ ورغم الصعوبات التي يواجهونها، فلا يزال بإمكانهم أن يكونوا عطوفين بشكل لا يصدق، ولديهم آمال ومخاوف مثل أي شخص آخر”. وبجانب هؤلاء، هناك حوالى 26 ألف طفل سوري مشرد في إسطنبول، تعرضوا للتهميش، والوصم، والتحيز ضدهم. من لبنان إلى إسطنبول؛ ضاع هؤلاء الأطفال وسط حلقة مفرغة من إهمال نظامٍ ليس على طاولة أولوياته دمجُ الأيتام في المجتمع. وسواء عُدُّوا من المنسيين، أو عدهم آخرون مصدر إزعاج، أو قيل إنهم الوقود المثالي لإشعال أوار خطاب الجناح اليميني؛ ففي النهاية “… ليسوا سوى أطفال، يملأون الشوارع بضجيجهم”.

ومقابل ساعة من السعادة أو أقل، سيتمسك هؤلاء الأطفال بأي شيء ينسيهم البرد القارس وآلام الجوع. ومن هنا حاول هؤلاء وقد أصبحوا بالأحرى “بقايا أطفال” بعدما حولهم البرد إلى أشباح، أن يلتمسوا ملاذاً في “اللهب”، تماماً كما فعلت بائعة الكبريت.

أشعل عود ثقاب، فأرى الأطفال يصيحون فرحين كلما علت بهم أرجوحة العيد…

وكما كانت بائعة الكبريت تهرب من مآسيها في لهب أعواد الثقاب؛ فقد اخترع أطفال الشوارع السوريون “لهبهم” الخاص: غراء لاصق، يضغط في كيس بلاستيكي ثم يُستنشق، ويباع بسعر مغرٍ للغاية، ويسبب للإدمان. إنه مهرب سهل المنال من وحشية الفقر المدقع؛ نحو 300 ليرة سورية فقط لا غير.

هناك فيديو لفتاة صغيرة تقف خلف الحواجز على حافة نهر بردى. من المؤكد أنها لم تتجاوز الحادية عشرة، يبدو شعرها الكستنائي الأشعث كما لو كان مقصوصاً لجعل الحياة أقل تشوشاً، وليوفر وقتاً أطول للتسول والمخدرات. كانت مستلقية على ظهرها، ومن الواضح أنها في قبضة عالم آخر، ووجهها مغطى بكيس بلاستيكي. كانت تتنفس في هذا الكيس، فينكمش بشهيقها، وينبسط بزفير أنفاسها الطفولية. ثم وقف أمامها رجلٌ وهو يصور.

الرسمة للرسامة التصويرية السورية ديمة نشاوي

أقامها لتجلس، وسألها: “ما الذي تتعاطينه؟ ما هذا الذي تستنشقينه؟”.

تنهدت الفتاة، ثم تشبثت بالكيس وأخذت تستنشق منه بعمق كما لو كانت تتنفس هواء عالمها الهادئ، ثم تخرج زفيرها العميق.

كانت إجابتها تعكس حالتها المزرية، كانت إجابة شخص في عالمٍ آخر.

“من أين أنتِ؟

-شاغور

-أين عائلتك؟

-أمي ميتة، وأبي في السجن”.

عادت الفتاة لشهيقها اليائس من الكيس، ثم استلقت ثانية. حاول الرجل سحب الكيس منها، وهي تمسك به بقوة وتبكي وتستميت. وفي أثناء ذلك أشاحت برأسها إلى الخلف لتكشف عن وجهها الذي أذهبت ملامحه المخدرات.

يُظهر المقطع التالي الطفلة في النهر، واقفة على الحافة، تتلمس الحائط وتبكي؛ بينما يكافح أفراد من العامة لإخراجها. ليس واضحاً تماماً ما إذا كانت قد ألقت بنفسها أو سقطت بلا قصد، أو كانت تحاول استعادة الكيس.

الرسمة للرسامة التصويرية السورية ديمة نشاوي  

عندما أُجريت مقابلات مع أطفال آخرين لسؤالهم عن الأكياس، قالوا إن ذلك ينسيهم الجوع، ويخدر حواسهم، ويساعدهم على النسيان، ويأخذهم إلى عالم آخر؛ عالم يرون فيه الشخص الذي فقدوه منذ فترة طويلة. ألا نرغب جميعاً في العودة إلى ما فقدناه؟ ربما كانت هذه الطفلة تبحث عن والدتها في العالم الآخر، ربما كانت هناك بين ذراعيها، بشعرها الطويل اللامع، وملابسها النظيفة، وخديها الورديين، وخصرها الممتلئ.

أشعل عود ثقاب، فأراني أعود إلى ضفة نهر العاصي، حيث تتغنى السواقي العتيقة وهي ترفع الماء، ويقفز الأطفال إلى حلم الصيف المجيد.

كانت زيارتي الأخيرة إلى دمشق عام 2017، وسط ويلات الحرب الأهلية الجارية هناك. فقد باتت دمشق قلعة مكدسة بالمآسي الإنسانية من أولها إلى آخرها. لم يكن هناك ماء وتقريباً لا كهرباء، ومشيت في تلك الشوارع التي لم يعد بإمكاني التعرف إليها، في ذهول. ورأيت بأم عيني أطفال الشوارع في مدينتي. أذكر فتاة واحدة على وجه الخصوص، جلست على جانب الطريق مع صندوق علكة. لقد كانت صغيرة، لم تكن أكبر من طفلي آنذاك. في البداية ظننتها بمفردها، لذا اقتربت منها وتحدثت إليها، لكن عمها ظهر فجأة لطمأنتي أنها ليست بمفردها. فقد كانت فتاة صغيرة جميلة تجلس على جانب الطريق تبيع العلكة، جمالها وسيلة لجذب شفقة المارة. كانوا لاجئين من حلب. وكان هناك أطفال مثلها في كل مكان. يتجمعون على الأبواب، والبعض منهم كان نائماً لأن النوم في ساعات النهار أكثر أماناً، والبعض يتسول، والبعض الآخر يحدق بعيداً. لم تعد المدينة التي عرفتها وأحببتها.

مررت فوق جسر فيكتوريا في ذلك اليوم، ووجدت طفلة وطفل آخرين، والصغيرة كانت مصابة بتشوه واضح في ساقها التي كسرت ولم تتلق الرعاية الطبية المناسبة اللازمة، ونتيجة لذلك أصبحت عرجاء. تجلس بجوار شقيقها يتسولان في برد كانون الثاني/ يناير القارس على جسر فيكتوريا. أعطيتها المال المتبقي في حقيبتي على أمل ساذج بأن تذهب إلى “المنزل”. جلست بجانبها أشعر بعجز شديد، أنظر إلى الناس يمشون غير مكترثين، كلهم كانوا منهمكين في معاركهم الخاصة من أجل البقاء، بينما كانوا يعبرون فوق ساقها كما لو أنها لم تكن سوى غصن ملقى على الأرض.

الرسمة للرسامة التصويرية السورية ديمة نشاوي

أولئك الأطفال كان يجب أن يكونوا في منازلهم يشعرون بالدفء ويتابعون دراستهم. لكن في الحقيقة ووفقاً للأمم المتحدة، هناك 2.6 مليون طفل مشرد داخل سوريا، و2.5 مليون طفل يعيشون لاجئين في البلدان المجاورة. و5.5 مليون طفل بحاجة إلى المساعدات الإنسانية.

أشعل عود ثقاب والمباني باقية على حالها. وأشعل آخر والخوذ البيض لم يعد لها وجود.

الإهانات التي نواجهها داخل حدودنا، والتي تجبرنا على الفرار، تُضاهي تلك الإهانات التي واجهناها في الأراضي الأجنبية. فقد أعطيت لنا أرقام في الفروع الأمنية السورية، وقام التشيكيون بإخراجنا من القطارات من أجل تسجيل أرقام على أذرعنا وحسب. وتعرضنا للضرب في البلقان على الطريق إلى ألمانيا. في حين ألغت الدانمرك وضع الإقامة الموقت، وحبستنا إلى أجل غير مسمى في مراكز الاحتجاز. فقد كانت معظم الحالات حتى الآن من النساء والمسنين، لأن البلاد تدرك الخطر على الرجال المعرضين لخطر التجنيد الإجباري أو العقاب بسبب فرارهم.

أشعل عود ثقاب، وبشرة أخي تصبح ناعمة ولا أثر للشظايا.

لقد هربنا من حكومة تشعل النار في شعبها، وتتجاوز “الخطوط الحمر” من دون رادع. تلك الحكومة التي دفعتنا إلى الانتظار لساعات من أجل الحصول على رغيف خبز، وتفجر الأسواق وطوابير الخبز. دفعتنا إلى حمل اسطوانات الغاز عبر الشوارع، والنوم طوال الليل في سياراتنا على أمل الحصول على الوقود، ثم نرجع إلى منازلنا خالي الوفاض. ونختفي بلا رجعة عند نقاط التفتيش. ونضطر إلى إيجاد وسيلة للهروب عبر الحدود، والسباحة في غياهب البحار.

وفقاً لـ”منظمة العفو الدولية”، لا تزال الانتهاكات مستمرة، إذ يتعرض اللاجئون الذين عادوا إلى سوريا للاحتجاز القسري والتعذيب والاغتصاب. ربما هدأت الهجمات العسكرية، بيد أن الحكومة التي قمعت شعبها لا تزال تحكم. تلك الحكومة ذاتها التي يُعاد تأهيلها ببطء لكي تعود إلى الساحة الدولية، مع نسيان سجلها الواسع من انتهاكات حقوق الإنسان… تلك الحكومة التي يتّمت أطفالنا وهجرتهم في الشوارع.

أشعل عود ثقاب فأرى وجهك.

سأحتفظ بآخر عود ثقاب معي ليوم الميلاد.

إقرأوا أيضاً:

13.12.2021
زمن القراءة: 5 minutes
|

اشترك بنشرتنا البريدية