علق “حزب البعث العربي الاشتراكي” نشاطه في سوريا عقب سقوط النظام السوري وهروب بشار الأسد، لتُطوى بذلك صفحة من تاريخ واحد من أشد الأحزاب إشكالية في المنطقة، والذي سبق أن أطيح به في العراق عام 2003 على يد الاحتلال الأميركيّ، وإلقاء القبض على صدام حسين ومحاكمته ثم إعدامه، وتشكيل “هيئة اجتثاث البعث”، لملاحقة “فلول” النظام، في حين ما زال في لبنان يؤكد وجوده، معلناً أنه مستقلّ عن البعث السوري تنظيمياً وهيكلياً.
على رغم كل الهزائم التي تعرض لها حزب البعث، ما زال صدام حسين ذا مكانة مثيرة للجدل في “قلوب” الكثيرين، صوره تتداول حتى الآن لا من البعثيين، بل من شخصيات مختلفة، ترى فيه قائداً عربياً، لم يطح به سوى الاحتلال، على الرغم ما ارتكبه من فظائع وجرائم ترتقي إلى جرائم ضد الإنسانيّة.
المفارقة الأولى، هي ظهور صورة صدام حسين في تظاهرة في بيروت تحتفل بانتصار الثورة السورية وإطاحة بشار الأسد، بل كانت الصورة معلّقة على “علم الثورة” نفسه. بالطبع، لا يمكن فهم العلاقة بين الاثنين إلا من وجهة نظر طائفيّة، تنتصر للمكون السنّي، خصوصاً أن صدام يُذكر دائماً في المعارك ضد “الأعداء”، خصوصاً ضد إسرائيل، فتعلو دوماً أصوات تردّد عبارات كـ”لو كان صدام حياً لما تجرأت إسرائيل على فعل ما تفعله”.
حضر طيف أبو عدي أثناء إسقاط الأسد، إذ تداولت حسابات صوراً من دمشق لشبان يرفعون علم الثورة السورية إلى جانب صورة صدام حسين، وأخرى لسيارة تعلّق الصورة نفسها على شباكها الخلفي أمام قلعة حلب. لا نعلم حقيقة هذه الصور، ولا تُخفى على من يدقق فيها أيادي البروباغندا الروسية والأخبار الكاذبة، التي تراهن على صورة صدام حسين بوصفه آخر “بطل/ سفاح” عربي، لكن لا نعلم بدقة لماذا؟
مفارقات حضور صدام حسين كثيرة وغريبة، إذ تداولت حسابات أثناء إطلاق سراح السجناء في سوريا أن البعض ظن أن من يحررهم هو الجيش العراقي، وأن صدام حسين غزا سوريا وأطاح الأسد، وهذا يعود نظرياً الى وجود بعض السجناء في المعتقلات لأكثر من 30 عاماً، الإشارة هنا إلى الأسد الأب، حافظ، الذي لم يكن على وفاق مع صدام حسين.
صدام حسين في الأردن
“بعث” صدام حسين من القبر وحضور صوره سبق على انهيار البعث السوري، أجواء مشحونة سبقت لقاء المنتخب الأردني بنظيره العراقي في البصرة ضمن تصفيات آسيا المؤهلة إلى كأس العالم 2026، والتي انتهت بتعادل سلبي مرضٍ للأردن ومحبط للعراقيين؛ تبعت اللقاء حالات محدودة من الاشتباك اللفظي بين الجمهورين، خصوصاً بعد افتتاح اللقاء بإطلاق الجمهور العراقي صافرات استهجان عند عزف السلام الملكي الأردني؛ ما دفعَ قائد المنتخب الأردني إحسان حدّاد الى التعليق على هذه الأحداث بأنها صنيعة مواقع التواصل الاجتماعي ولا تمثل أي شعب أو أي شخص على أرض الواقع، ولا تعكس العلاقة بين البلدين والشعبين.
يبدو أن ما صرّح به حدّاد صحيحاً إلى حدّ بعيد على مستوى سياسي واجتماعي عريض، ولكنّه أغفل أيضاً وجود حساسيّة على أرض الواقع تعود الى أسباب سياسية ودينية يمكن لمسها بمجرد التجوّل في أي حيّ من شمال الأردن إلى جنوبه؛ وترتبط بشكل أساسي بتعلّق الأردنيين بشخص الرئيس العراقي السابق صدّام حسين، وعدائهم العلني لمكوّنات المرحلة التي تلت إطاحته، وتحديداً الشق المرتبط بإيران وميليشياتها والأحزاب الطائفية الموالية لها، وهو ما ولّد في المقابل أيضاً غضباً على الجانب العراقي الذي أدرك قطاع واسع منه عند إقامته في الأردن إبّان الغزو الأميركي، أن العراقي المرحّب به شعبياً هو العراقي المؤيد لصدّام حسين “المجيد”.
وتمتلئ منصات الإنترنت بمقاطع فيديو للجماهير الأردنية “بمناسبة وبدون”، وهي تهتف لصدام حسين في الملاعب، فخلال مباراة جمعت الأردن والكويت في 10 تشرين الأول/ أكتوبر 2019 في عمّان، أطلق الجمهور الأردني هتافات في الملعب لصدّام حسين، ما دفعَ الكويت للتقدم بشكوى رسمية قابلها اعتذار من الاتحاد الأردني لكرة القدم وتعبيره عن رفضه الشديد لهذه الهتافات، بينما حاكمت محكمة أمن الدولة بعض مطلقيها كما ذكرت وسائل إعلام حينها؛ مع ذلك، عادت وأطلقت جماهير نادي الرمثا (شمال الأردن) هتافات مماثلة لمناسبة الفوز ببطولة الدوري الأردني لكرة القدم 2021؛ وهنالك آلاف الصور التي تظهر مركبات أردنية تضع ملصقات للرئيس العراقي، الى درجة أنها أصبحت عادة معروفة لغير الأرديين حتى، وتحديداً للعراقيين.
لطالما عكست الجماهير الرياضية موقفاً سياسياً، وهو أمر لا يمكن تجاهل وجوده بأي شكل، من كلاسيكو مدريد وبرشلونة مروراً بمباراة ليفربول ومانشستر يونايتد وصولاً إلى لقاء الأردن والعراق؛ في كأس آسيا الأخيرة التي أقيمت في قطر، التقى المنتخبان في دور الـ16، وانتهت المباراة بتأهل الأردن بعد قلب النتيجة من تأخر بهدف الى فوز بهدفين؛ وأدّى احتفال العراقيين بهدفهم بتقليد تناول الأردنيين طبق المنسف الشعبي، الى مشاحنات كبيرة وصلت إلى طرد لاعب المنتخب العراقي. وزادت الطين بلّة تهنئة رغد صدام حسين المنتخب الأردني بفوزه ليتعمّق البعد السياسي عند الجمهورين.
صدام والنفط العراقي
تاريخ العلاقة بين الأردنيين وصدام يستحق وقفة جديّة لفهم أسبابها قبل الحديث عن انعكاساتها في ملاعب كرة القدم، فالرجل بنظر الأردنيين كان يجسّد شخصيّة الزعيم العربي القوي الذي وقف في وجه أميركا وقصفَ إسرائيل وتصدّى للمشروع الإيراني وحمى المنطقة بأسرها من تمدد الثورة الإيرانية “الشيعية”، وامتدّت مواقفه “الأصيلة” بالمفهوم العربي البدوي الى كل منزل أردني مع دراسة عشرات آلاف الأردنيين في الجامعات العراقية مجاناً. كما كان يمنح عمّان كميات من النفط والغاز مجانًا وأخرى بأسعار تفضيلية كانت تشكل فارقاً مع المواطن الأردني مقارنة بأسعار مرحلة ما بعد صدّام.
يعزو الكثير من الأردنيين شعبية صدام حسين إلى دعمه القضية الفلسطينية، ففي حديثه لـ”فرانس برس” في مقابلة أُجريت العام الفائت، برّر النائب الأردني خليل عطية العلاقة بين الأردنيين ورئيس دولة أخرى بأنها تعود الى كونه “مثّل لهم بطلاً وقائداً منقذاً، وكان صاحب مشروع للنهوض بالأمة العربية وحافظ على وحدة العراق”، ولا يكاد يخلو نقاش أردني من ذكر مناقب “الرئيس الشهيد” أو “السيد الرئيس” أو “صدام حسين المجيد” أو “أبو عديّ” كما يصفه الأردنيون في معرض أى حديث، والتذكير بدوره في دعم عائلات الشهداء الفلسطينيين وتمويل منح دراسية للطلاب الفلسطينيين والأردنيين للدراسة في العراق، والدعم الاقتصادي الذي قدمه للأردن خلال فترة حكمه، بما في ذلك تزويد الأردن بالنفط بأسعار مدعومة أو حتى مجاناً، وقد أُطلقت أسماء “صدام” و”عدي” على كثر من مواليد الأردنيين بين ثمانينات القرن الماضي والألفية الثانية، وسبق أن قرّر أفراد من عشيرة النوايسة الأردنية تسمية جميع أبنائهم الذين ولدوا في عام 2010 بصدّام.
وعلى المستوى السياسي، كان الأردن كمعظم الدول العربية التي دعمت العراق خلال حربه مع إيران في الثمانينات، وربّما تكون صورة الملك حسين إلى جانب صدام حسين لحظة إطلاق عملية عسكرية عراقية تجاه إيران، واحدة من أشهر صور الزعماء العرب، كما دعم الحسين صدّام بعد غزوه الكويت عام 1990، على عكس معظم الدول العربية التي عارضت احتلال الجيش العراقي وانضمت إلى الجهود الأميركية لطرد العراقيين؛ بعدما تبنى العاهل السابق في البداية موقف الحياد، ليعود ويصرح أن التدخل الأميركي كان ضد جميع العرب وجميع المسلمين وليس ضد العراق وحده”؛ قبل أن تشهد العلاقات بين البلدين فتوراً مع فتح الأردن أعداداً من القواعد الأميركية على أراضيها سبقت غزو العراق عام 2003 في عهد الملك عبدالله الثاني.
“مظلومية أبو عدي”
ينظر الأردني في موقعه الكائن في منتصف بؤرة صراع وأزمات إقليمية، أن صدّام خُذِل من شعبه ومن الأنظمة التي ساهمت بإطاحته بعدما كلّفوه بمهمّة حمايتهم من المدّ الإيراني، وأنه كان يستحق موقفاً داعماً من الأردن تحديداً بعد عقود من العلاقة التي جمعت نظامه بالنظام الأردني، وهو معادل موضوعي لشعور الطائفة الشيعية بخذلان الإمام الحسين، والذي تظهر تداعياته حتى اليوم سياسياً واجتماعياً وفي الموروث الشعبي الديني؛ ويبدو أن علاقة صدام حسين بالأردنيين تأخذ هذا البعد الذي يعبّر عنه بأشكال عدّة، يطاول بعضها الجانب السياسي مثل رفض الزيارات الدينية لأضرحة أئمة الشيعة في جنوب الأردن، أو التحفّظ على موقف الفصائل العراقية من دعم غزّة.
إلى جانب الاحتفاء والقدسية التي يحيط بها الأردنيون صدام، فإن في الأردن شخصيات محليّة مثل رئيس الوزراء السابق وصفي التل، والذي اغتيل في مصر على يد مقاتلين من منظمة أيلول الأسود، ومشهور حديثة الجازي الذي قاد الجيش الأردني في معركة الكرامة ملحقاً أول هزيمة عسكرية بإسرائيل؛ وهناك من يضيف إلى هذه القائمة الملك الراحل الحسين بن طلال مستذكراً أوضاعاً اقتصادية وعدالة اجتماعية أفضل من التي يعاصرها الشعب اليوم؛ لكن القاسم المشترك بين هذه الشخصيات أن جميعهم أموات وأنهم من الماضي وأن الأردني لا يجد في حاضره ومستقبله من يمثّل تطلّعاته نحو المستقبل، لا محلياً ولا على مستوى المنطقة و”الأمّة”.