“حين وقع الانفجار، لم تكن لوحتي قد جفّت بعد، اختلطت ألوانها بالفوضى ومزّقها الزجاج المتناثر… هي واحدة من عشرات اللوحات التي فقدتها، لكنها الوحيدة التي بدأتُ رسمها صباح 4 آب/ أغسطس”… تقول لُمى رباح، فنانة تشكيلية لبنانية فقدت بيتها والاستديو الخاص بها في منطقة الأشرفية بعد انفجار مرفأ بيروت، وفقدت معهما أكثر من 15 عملاً فنياً لها.
لُمى التي باشرت برسم لوحتها صباح 4 آب، لم تكملها لأنها لم تكن على ما يرام في ذاك اليوم. تركتها وغادرت بيروت بنيّة استكمالها لاحقاً، إلا أنّها حين عادت، أدركت أن اللوحة لم تعد بانتظارها، فالانفجار أخذها معه ودمّر أعمالاً فنية أخرى لها، أو “أبناءها”، كما تقول.
بعد مرور أكثر من شهر على الانفجار، تشرح لُمى إن كل محاولاتها للرسم باءت بالفشل، على رغم أنها مهنتها ومصدر رزقها الوحيد، وتضيف، “أشعر بأنني لم أرسم أبداً في حياتي، وكأنني لم أحمل فرشاة قبل الآن… تتملكني حالة من التعاسة بعد المشاهد التي رأيتها، خصوصاً أنني فقدت أصدقاءً في التفجير”.
لُمى هي واحدة من الفنانات والفنانين الذين ينقلون البهجة في أعمالهم، يقول كثيرون إنها “ترسم الفرح”، وهي من أبرز الفنانات اللواتي وثّقن ثورة 17 تشرين الأول/ أكتوبر، إلا أنها تقف اليوم عاجزة تماماً عن رسم مشهدٍ حزين لبيروت، خصوصاً أنها لم تلقَ أي دعم مادي أو حتى معنوي من أي مؤسسة رسمية. حتى أنها شعرت في أكثر من موقف بجهلهم الكامل حيال الدمار الذي لحق بالأعمال الفنية، إذ إنها حين سُئلت عن الأضرار التي لحقت بمعرضها، لم يسجّل العسكري سوى الخسائر المتعلقة بالزجاج والبناء، وحين كررت على مسمعه أن لوحاتها تمزّقت، تأكدت أنه لا يبالي ولا يرى بذلك ضرراً.
لُمى هي واحدة من عشرات الفنانين التي دمّر الانفجار أعمالهم. فبيروت، لا سيما متاحفها ومعارضها التي تحوي إرثاً ثقافياً كبيراً، وشهدت حروباً وأحداثاً استطاعت أن تقف بوجهها، إلا أن انفجار المرفأ كان أقسى من كل ما حدث سابقاً، فقد ألحق أضراراً جسيمة بأعمال فنية يعود بعضها إلى القرنين السابع عشر والثامن عشر، خصوصاً أن المناطق الأكثر تضرراً هي تلك التي تمثّل مركز الحياة الإبداعية للمدينة، أي الأشرفية والجميزة ومار ميخائيل، حيث استوديوهات فنانين ومعارض فنية ومتاحف وأقدم المكتبات.
مبادرة من رحم الدمار
“هناك أعمال فنية عريقة اختفت بالكامل، وأخرى سقطت منها الألوان ولم يبقَ سوى قطعة قماشٍ جرداء…”، يقول غابي معماري لـ”درج”، وهو فنان متخصص بترميم الأعمال الفنية.
سار غابي في شوارع المدينة لأيام مراقباً وجهها الحزين، وبذلك وثّق الدمار المتفاوت الذي ألحقه الانفجار بأعمال فنية، وأطلق مبادرة مجانية هدفها ترميم الأعمال الفنية وتوعية مالكيها على كيفية التعامل معها، خصوصاً أن التراث الفني لم يسبق أن دُمّر بهذا السوء من قبل وفقاً لغابي، “كل ما عشته من حروب ونزاعات سياسية… عاد إلى ذاكرتي في لحظات بعد مشاهد الركام”، يقول.
تواجه المبادرة عراقيل كثيرة بسبب نقص المواد المستخدمة أو غلاء سعرها مع انخفاض قيمة الليرة اللبنانية مقابل الدولار، خصوصاً إنها مواد مستوردة غالباً من خارج لبنان. كما إنها تفتقد للخبراء، نظراً لدقّة العمل والجهد الذي يتطلّبه.
“الدولة حطيلي ياها ع جنب”… يقول غابي بعد سؤاله عن أي مساعدات أو حتى دعم معنوي قدمته أي جهة رسمية له بعد إطلاقه المبادرة، معبّراً عن غيابٍ كامل للجهات المعنية في الدولة، على رأسها وزارة الثقافة، التي لم تطرح أي نيّة لتوثيق الخسائر حتى، بل إنها “تجهل معنى وقيمة التراث الثقافي، الذي خسرت بيروت بعضاً منه لا يقدّر بثمن”، وفقاً لمعماري.
حصة المتاحف من الدمار
كانت للمتاحف حصة كبيرة من الدمار، إذ تعرضت 8 منها على الأقل لأضرار متنوعة، أبرزها متحف سرسق، الذي يضم المجموعة الرئيسية للفن الحديث والمعاصر في بيروت. ووفقاً لمسح أولي أجراه باتريك ميشيل، المتخصص بعلم الآشوريات في جامعة لوزان السويسرية، فقد تحطمت جميع نوافذ المتحف، بما في ذلك النوافذ الزجاجية الملونة في الواجهة، كما انهارت جدران داخلية وأسقف مصنوعة يدوياً، عدا عن تضرر نحو 30 لوحة وعملاً خزفية أخرى.
“متحف ما قبل التاريخ اللبناني في جامعة القديس يوسف” لم ينجُ أيضاً من انفجار بيروت، فقد تعرّض لأضرار جسيمة، كما أن سقفه معرّض للانهيار، وفق تقارير. أما المتحف الأثري التابع للجامعة الأميركية في بيروت، والذي يقع على بعد نحو ميلين غرب المرفأ، فقد تحطمت أبوابه ونوافذه، وتأذّت محتوياته. وتعرض متحف بيروت الوطني، الذي يضم مجموعة الآثار الرائدة في لبنان، لأضرار في النوافذ والأبواب والمصاعد.
انفجار بيروت الذي انقض على أفراحها الصغيرة وتلك الكبيرة أيضاً، لم يسلم منه أحد، لم يسلم منه شيء، حتى اللوحات الهانئة والتحف الفنية… فيما الدولة غائبة، تتصرّف وكأنّ لا شيء حدث، تشتري المزيد من الوقت على حساب خسائرنا، وحسب.