تبقى الطرق البدائية الحل الأمثل عند انقطاع السبل وقلة الإمكانات، فالفلسطينيون في قطاع غزة لم تثنهم الظروف عن إيجاد البدائل والحلول لكل شيء، لتصبح بقايا البيوت المدمّرة غذاء النار التي يطهون بها طعامهم، بعد إغلاق المعابر الحدودية لأكثر من 20 يوماً، وعدم دخول غاز الطهي، الذي أصبح الآن حلماً لدى سكان غزة.
اليوم، وبعد ما عاشه القطاع من ويلات الحرب المستمرة، يلجأ الناس الى الأفران المصنوعة يدوياً من الطين، التي تعمل من خلال حرق الحطب والكرتون والبلاستيك والنايلون لطهي الطعام والخبز.
وأصبح البعض أيضاً، يستخدم هذه الأفران كمصدر رزق، عبر الخَبْزِ للجيران والنازحين، وتقديم الخبز لهم مُقابل مبلغ رمزي.
وبحسب مكتب الإعلام الحكومي في غزة، فقد تزايدت أعداد المخابز التي توقفت عن العمل بسبب انعدام غاز الطهي، إذ إن أكثر من 98 في المئة من مخابز القطاع التي تعتمد على الغاز لتشغيل أفران الخبز، توقّفت بشكل كامل.
تشير الأرقام إيضاً، إلى تدمير الكثير من المخابز المركزية منذ بداية الحرب، إذ يبلغ عدد المخابز في القطاع 2120 مخبزاً بين آلي ويدوي، تستهلك ما يقدّر بـ 14000 طن من القمح شهرياً، بحسب مركز الإحصاء الفلسطيني.
البديل الأنسب!
يقول محمد عبد من غزة لـ”درج”، إنه في ظل إغلاق المخابز وتوقفها عن العمل بسبب النقص الحاد في الوقود، عمد البعض إلى اللجوء إلى الطرق البدائية الأولية للحصول على الخبز.
يقول محمد عبد:”الأفران المصنوعة من الطوب والطين هي الوسيلة الوحيدة، التي نعود إليها حتى نعوض النقص الحاد في الخبز، في ظل ارتفاع أسعاره التي تفوق طاقتنا”.
كان محمد يحصل على الخبز بشكل يومي، بمعدل ربطة خبز واحدة فقط، من المخبز الموجود في المنطقة، وذلك لأن حجم الطلب على المخابز كبير، وبالتالي يحتاج إلى أن يمضي وقتاً طويلاً جداً للحصول على الخبز وبسعر مرتفع جداً.
وإثر طول الانتظار ومن باب توفير الخبز بشكل أكبر، تحولت عائلته الى الخبْز في المنزل على الحطب، علماً أن كلفة الخبز المنزلي عالية أيضاً، بسبب ارتفاع أسعار الطحين.
يقول خليل ثابت لـ”درج”، إن جودة الخبز الذي تنتجه المخابز تراجعت، وأصبحت أسعاره عالية، وليس بمقدور النازحين شراؤه.
يضيف خليل: “طاقة المخابز أقل بكثير من حاجة الناس، في ظل عدم وجود غاز الطهي، لذلك اضطر الناس إلى تقنين استهلاك الخبز وأكله مرة واحدة في اليوم، هذا إن توافر، وذلك يعتبر من أكبر المعضلات، فالخبز أبسط حق من حقوق الناس لسد الجوع”.
“الأفران المصنوعة من الطوب والطين هي الوسيلة الوحيدة، التي نعود إليها حتى نعوض النقص الحاد في الخبز، في ظل ارتفاع أسعاره التي تفوق طاقتنا”.
تجارة الحطب والخبز
لجأ نازحون كثر إلى من يملكون أفراناً طينية، للخبز مقابل مبلغ رمزي، أو مقابل أن يُحضروا معهم ما يُوقد النار، من حطب وكرتون وبلاستيك، إذ لا يمتلك كل النازحين أفراناً للطبخ.
المحامي سلامة عبد الحكيم، الذي اضطر بسبب الحرب إلى العمل في شراء الحطب من الناس وبيعه، يقول لـ”درج”: “بسبب ارتفاع الطلب الآن على الحطب لعدم توافر غاز الطهي، توجهت إلى هذا العمل، إذ أحصل بشكل يومي على الحطب من أشخاص يأتون به من البيوت المقصوفة والمهدمة، بعدما يجمعون ما تبقى في هذه البيوت من أبواب وأثاث وبيعه”.
ويضيف: “بطبيعة الحال، غزة لا يتوافر فيها حطب، فلولا البيوت المدمرة لا يمكن أن يجمع الناس الحطب.
يخبرنا عبد الحكيم أن هناك أشخاصاً يخاطرون بحياتهم لجمع الحطب من الحدود، بصورة أدق من البيوت التي خرج منها المستوطنون، إذ يشترون منهم الحطب تقريبا بـ3 شيكلات ونص شيكل ثم يباع بـ4 شيكلات.
يتفق عبد الحكيم حالياً مع تجار يشترون الحطب منه بالجملة، حتى أصحاب الأفران يقتاتون من هذا العمل، فيخبزون للناس ويأخذون مالاً بالمقابل.
استخدمت أم عبد الله، وهي إحدى النازحات إلى رفح، الفرن كمصدر رزق لها ولأسرتها، فصنعت فرناً من الطين، وتستخدم الكرتون والنايلون والبلاستيك وما يمكن توفيره من الحطب، لإشعال النار للخبز.
تعمل أم عبد الله طيلة اليوم، وتحت أشعة الشمس الحارقة، مستنشقةً الأدخنة المتصاعدة كافة، نتيجة حرق هذه المواد، ما يسبب سعالاً متواصلاً وحساسية، لكن عليها الاستمرار بهذا العمل، إذ لا بديل عنه في الفترة الحالية.
ما تجمعه أم عبد الله مقابل الخبز، بالكاد تسد فيه حاجاتها اليومية، لتعيل أسرتها الكبيرة، التي لا يوجد لها أي معيل غيرها.
المشهد اليوم هو تكرار لنكبة 1948، التي كانت لأفران الطين خلالها حكاية استمرت لسنوات عدة، مع الفلسطينيين المهجرين من منازلهم، نتيجة الحرب الإسرائيلية التي دفعتهم إلى ترك منازلهم مكرهين.
الحطب بديلاً لكن آثاره كارثية!
إلى جانب أخبار القصف المستمرة على مدى الأشهر الثمانية الماضية، انتشرت في الآونة الأخيرة أخبار عن حرائق في مراكز الإيواء وخيام النزوح، نتيجة إشعال النار فيها، والاختناق بسبب استخدام النار للطهي في أماكن مغلقة، واستقبلت المستشفيات حالات كثيرة من المتضرّرين نتيجة لهذا الأمر.
يؤكد اختصاصي الأمراض الصدرية في مستشفى شهداء الأقصى في دير البلح الدكتور محمد المدهون لـ”درج”، أن “تلوث الجو بالدخان الناتج من المحروقات مثل البلاستيك والكرتون والحطب، التي يستخدمها الناس في مراكز الإيواء وخيام النزوح للطهي، إضافة إلى الدخان المتصاعد بعد القصف الإسرائيلي، يؤديان إلى ضرر كبير بالجهاز التنفسي، مثل شلل الأهداب التي تنظّف الهواء الذي يدخل الرئتين، فينتج منه بعض الأمراض الصدرية والحساسية، مثل السدة الرئوية وضيق التنفس الحاد”.
وبحسب المدهون، “فإن استنشاق هذه المواد السامة بكميات كبيرة وبشكل مستمر، إلى جانب ما يستنشقه سكان القطاع من ملوثات القصف الإسرائيلي، تنتج منهما حالات اختناق ونقص شديد في الأوكسجين في الدم، الذي يسبب الوفاة”.
أما بالنسبة الى الأتربة والدخان الناتج من البلاستيك، وتأثيرهما على الجهاز التنفسي على المدى البعيد، يقول المدهون: “من الممكن أن يؤديا الى سدة رئوية، وفي أحيان كثيرة إلى تهيجات شديدة في الرئتين، يصاحبها عدم قدرة على أن تنظف نفسها بنفسها، وبالتالي تكوّن السرطانات الرئوية وفي الشعب الهوائية”.
تأكيدات متكررة
في هذا السياق، قال رئيس بلدية غزة يحيى السراج، في تصريح: “إن نقص الوقود يمنعنا من توفير المياه وتشغيل الآليات لخدمة المواطنين، كما أن المواد الغذائية باتت شحيحة جداً بعد إغلاق المعابر، وأسعارها ترتفع بشكل كبير في قطاع غزة”.
أما “الأونروا” فقالت: “سُمِحَ بالوصول إلى ما يقل قليلاً عن 450 شاحنة في الأسابيع الثلاثة الماضية، لدعم العملية الإنسانية، وهذا لا يكفي في ظل الاحتياجات، إذ إن هناك حاجة على الأقل إلى 600 شاحنة يومياً من السلع التجارية والوقود والإمدادات الإنسانية، كما أن الوقود على وشك النفاد، وهذا يجعل فرقنا على أهبة الاستعداد لاستلامه عندما تعطي السلطات الإسرائيلية الضوء الأخضر”.
وتؤكد “اليونيسيف” في تصريحات متكررة، أنه “لا يوجد أمان ولا أمن غذائي في قطاع غزة، ولا يوجد ما يكفي من المساعدات أو الوقود”.
في حين طالب مكتبها الإعلامي في تصريح سابق، كل دول العالم بـ”إعادة الحياة الى قطاع غزة، وإعادة الحياة الى القطاع الصحي، والقطاع الإنساني، وجميع القطاعات الحيوية: المخابز، آبار المياه، محطات الصرف الصحي، محطات مياه الشرب، الوقود، شبكات الكهرباء، شبكات الاتصالات”.
ودعا المكتب أيضاً دول العالم كلها إلى أن “تكون إنسانية وأخلاقية إزاء هذه الحرب الشاملة، التي أكلت الأخضر واليابس، والى بذل الجهود في الأطر والقطاعات كلها، لإعادة الحياة إلى قطاع غزة”.
إقرأوا أيضاً: