تحوّل الحادث الذي وقع في كانون الثاني/ يناير 2023، من مشاجرة عادية إلى اعتداء طائفي شمل تجمهر مسلمين أمام كنيسة الآباء الرسل في القرية، تبعه إلقاء حجارة وهتافات عنصرية ضد المسيحيين، واعتداء على عدد من الأقباط وممتلكاتهم. هذا الحادث يتكرر كثيراً، لا سيما في محافظة المنيا – التي تشهد كثافة سكانية مسيحية – لكن أكثر ما أثار غضب المهتمين بالشأن القبطي، هو الخضوع للجلسات العرفية بدلاً من الحل القضائي، خوفاً من ازدياد الممارسات الطائفية التي قد تصبح دموية في أي لحظة.
حكمت اللجنة العرفية ضد الأقباط بغرامة قدرها 500 ألف جنيه (16650 دولاراً)، وتنازلهم عن المحاضر التي حُرِّرت ضد المعتدين، وتم توقيع شرط جزائي بقيمة مليون جنيه (33000 دولار) على أي شخص لا يتنازل عن المحضر، أو يبدأ بالتعدي مرة أخرى، أو يكتب أي شيء على وسائل التواصل الاجتماعي ضد قرارات التحكيم.
ميزان القوة يميل غالباً الى صالح المسلمين، حتى وإن كانت موازين القوة لصالح الأقباط.
إشاعة وحرق منزل وهتك عرض
شهدت قرية الكرم في مركز أبو قرقاص بمحافظة المنيا، عنفاً طائفياً عام 2016، على خلفية إشاعة ارتباط سيدة مسلمة بعلاقة غرامية مع شاب مسيحي يُدعى عطية دانيال، ويعرف باسم “أشرف”. أسفرت الإشاعة عن اعتداء طائفي شمل مسيحيين كثراً وعلى رأسهم السيدة سعاد ثابت والدة أشرف، التي تم حرق بيتها بالكامل وتجريدها من ملابسها في الشارع، ما يُعتبر في القانون المصري جريمة “هتك عرض”.
السيدة المسلمة هي نجوى، ظهرت مع أسرتها في لقاء تلفزيوني بعد الواقعة، وقالت إن الإشاعة مصدرها أسرة زوجها، لطلبها الطلاق منه بسبب خلافات عائلية مستمرة، وإن أسرة زوجها طلبت تنازلها عن حقوقها المادية مقابل الطلاق، وهي مؤخر الصداق وقائمة المنقولات، وحين رفضت أشاعوا عنها أنها على علاقة بشريك زوجها (أشرف دانيال).
أما أشرف دانيال، فقال في لقاء مسجل، إنه سمع عن الإشاعة حين كان في القرية، فتوجّه بنفسه إلى مركز الشرطة، وقابل ضابط المباحث وأخبره بالإشاعة، وطلب منه التحفّظ عليه حتى يتأكد من الإشاعة بنفسه، فإذا كانت حقيقية يلقي القبض عليه، وإن كانت غير ذلك يقوم بحمايته، إلا أن الضابط طلب منه مغادرة القرية.
عقب الواقعة، شهدت قضية السيدة سعاد تضامناً واسعاً من الإعلام والدولة، إذ اعتذر لها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي خلال افتتاح مشروع إسكان حي الاسمرات، وقال “لا يليق أبداً أن ما حدث يحدث في مصر أو يتكرر، ومن يخطئ في مصر، سيحاسب”.
لم يُترجم الاعتذار على أرض الواقع، بحسب تقرير المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، إذ شهدت القرية في شباط/ فبراير 2020 جلسة صلح عرفية في منزل عمدة القرية، تمت بين الأقباط المعتدى عليهم عدا زوج سعاد ثابت. قبل الأقباط هذا الصلح، خوفاً من تكرار التعدي عليهم مرة أخرى، وبسبب المقاطعة التي فرضها المسلمون عليهم في القرية، وكُتب محضر بالصلح لتقديمه إلى هيئة المحكمة، على أن يَعدل الأقباط عن أقوالهم. وهو ما جرى فعلاً في جلسة محاكمة لاحقة، حيث أقر أربعة أقباط: فضل سعد وإسحاق سمير وسامي كمال ووجيه قاصد، من المدعين بالحق المدني، بالتصالح مع المتهمين من دون أي ضغوط، وبأن الصلح نابع من الرغبة في الحفاظ على التعايش المشترك، وأكدوا أنهم لم يشاهدوا المتهمين في الأحداث أثناء حرق منازلهم، بينما رفض دانيال عطية وزوجته السيدة سعاد ثابت وزوج ابنتها عطية عياد التصالح، وتمسكوا بأقوالهم السابقة ضد المتهمين بحرق منزلهم. القضية حالياً أمام المحكمة بعد صدور حكم بالسجن المؤبد على 24 متهماً، وبراءة متهم واحد، إذ طلب المتهمون إعادة محاكمتهم.
شهدت قضية تعرية السيدة سعاد ثابت على مدار 6 سنوات من عمر القضية، قرارات وأحكاماً عدة، من بينها قرار “لا وجه لإقامة الدعوى” لعدم كفاية الأدلة، ثم صدور حكم غيابي بحبس المتهمين الثلاثة بالقضية، والمقصود هنا الزوج المسلم نظير إسحاق، وشقيقه عبد المنعم إسحاق ووالدهما. أعيدت المحاكمة مرة أخرى، ليحصل المتهمون الثلاثة على البراءة في كانون الأول/ ديسمبر 2020. وفي كانون الثاني/ يناير 2023 ، قضت محكمة النقض بتأييد حكم براءة المتهمين في القضية.
شهدت القضية أيضاً الكثير من التساؤلات، فعلى رغم تأكيد عمدة القرية، في لقاء إعلامي مسجل، وقوع حادث التعرية، إلا أنه عاد ورجع عن هذه الشهادة وأنكرها بالكامل، متهماً الأقباط بـ “تهويل ما حدث” .
يقول مينا ثابت، الخبير بشؤون الأقليات، في تصريح لـ”درج”، إن الحكم النهائي في قضية سيدة الكرم هو تعبير عن فشل منظومة العدالة المصرية في التحقيق في قضايا العنف الطائفي والتمييز والاعتداء على المسيحيين، وفشل مستمر للعدالة في إنصاف ضحايا العنف الطائفي في مصر، لأن الجريمة كانت واضحة، ولأن الجناة معروفون، لكن تم اعتماد العدالة المنقوصة، وأُسكت الأقباط حين حاولوا التصريح بما يحدث لهم أو المطالبة بحقوقهم، ولسان حال الدولة لم يكن أفضل، فما حدث قد حدث وانتهى الأمر.
يرى ثابت أن جلسات الصلح العرفي ليست بعيدة من القضية، وليست إلا استمراراً لموقف الدولة التي لا تريد القيام بدورها في إنصاف ضحايا العنف الطائفي، فـتلجأ إلى جلسات الصلح حيث يتم استرضاء المسلمين للتوقف عن الاعتداءات أو عدم الاعتداء مرة أخرى، وتطلب من الأقباط الصمت على حقوقهم. ويمكن القول إن العدالة تغيب في معظم قضايا العنف الطائفي، بسبب أزمة هيكلية في منظومة العدالة، وبسبب سلوك الأجهزة الأمنية ونزوعها الى تسوية النزاعات بشكل عرفي وليس قانوني حفاظاً على المواءمات الاجتماعية. فميزان القوة يميل غالباً الى صالح المسلمين، حتى وإن كانت موازين القوة لصالح الأقباط. هناك انحياز للمسؤولين المحليين وممثلي الدولة، ما يدل على عمق الثقافة الطائفية داخل أجهزة الدولة، بالإضافة إلى القوانين المنقوصة وغير المنصفة، والانحياز الطائفي الذي يحدث أحياناً في منظومة القضاء باعتبارها جزءاً من منظومة العدالة.
إقرأوا أيضاً:
“في عرف من؟”
لجأت قبل أشهر، المواطنة المصرية نيفين صبحي في قرية “سبك الأحد” بمركز أشمون بمحافظة المنوفية، الى أقرب صيدلية لشراء بعض المستلزمات، إلا أن ملابسها لم تعجب الصيدلي علي أبو سعدة واعتبرها غير محتشمة نهار رمضان، فصفعها مرتين على وجهها وقال لها نصاً “إيه اللي أنت عاملاه في نفسك، أزاي سايبة شعرك ولابسه نص كم، انتي مش عارفة إننا في رمضان”.
في أي دولة أخرى غير مصر، تنتهي هذه الواقعة بحبس الصيدلي، لكن ما جرى هو جلسة صلح عرفي، بحضور عمدة القرية، ومسؤول من مديرية أمن المنوفية، ونائب برلماني وعدد من رجال الدين المسيحي وكاهن القرية، والنتيجة، اعتذار الصيدلي وتغريمه 100 ألف جنيه (3300 دولار) استلمها كاهن القرية، وظهرت نيفين في الصورة التي نُشرت احتفالاً بالصلح، مطأطئة الرأس.
في هذا الإطار، أصدرت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية في أيار/ مايو 2015، دراسة بعنوان “في عرف من؟”، رصدت فيها 45 حالة عنف طائفي تم اللجوء فيها الى جلسات الصلح العرفية من كانون الثاني 2011، وحتى كانون الأول 2014.
وما ورد في الدراسة من أنماط وأسباب للاعتداء على الأقباط، ينطبق على حالة مراد جرجس، مواطن اسكندري سكن حتى عام 2011 في قرية شربات بمنطقة العامرية بالإسكندرية، وهي منطقة على أطراف الإسكندرية يسيطر عليها التيار السلفي، وما حصل أنه اتُّهم في العام نفسه بتصوير مقاطع جنسية لفتاة مسلمة.
قُبض على مراد بعد تقديم بلاغ للشرطة ضده، لكن أُفرج عنه بعد ذلك لعدم ثبوت الاتهام، واضطر للمغادرة إلى الغردقة بناء على نصيحة راعي الكنيسة، لكن بعد ثلاثة أشهر، تم إبلاغه بانعقاد جلسة عرفية قضت بتهجيره من القرية وعرض منزله للبيع، وهو ما رفضه مراد، لكنه اضطر إلى استئجار منزل في الإسكندرية، فظلّ خلال أربع سنوات مشرداً لا يستطيع العودة الى منزله بسبب قيام شيخ سلفي بحل دمه، قبل أن يبلغه راعي الكنيسة بأن المسيحيين أنفسهم يرفضون وجوده خوفاً من تعرّضهم لعقاب جماعي، ما اضطره لبيع منزله ومحله عام 2015 بمبلغ لا يزيد عن ثلث الثمن الأصلي، واضطر لترك مهنته الأساسية، وهي الحياكة، والعمل في مهن أخرى، ترافق ذلك مع وفاة والده بسبب ما حصل.
لماذا يقبل الضحايا جلسات الصلح العرفي؟ لماذا لا يصر الأقباط على سلوك الطرق القانونية إذا كانت الجلسة العرفية تهدر حقوقهم؟
وجّهنا في “درج” السؤال السابق لإسحاق إبراهيم، مسؤول ملف حرية الدين والمعتقد في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، الذي أجاب بأن الضحايا عادة ما يقبلون جلسات الصلح العرفي على رغم كونها تنتهك حقهم في الحصول على العدالة عبر الطرق الدستورية والقانونية لأسباب عدة، أولها طول وبطء إجراءات التقاضي التي تتطلب تكلفة مالية قد تفوق أصلاً حجم الضرر.
أما السبب الثاني فهو نمط العلاقات المتشعبة في الريف، فالعلاقات الاجتماعية متداخلة بشكل كبير، وعدم القبول بالجلسات العرفية في حد ذاتها ليس مشكلة، لكن المشكلة تكمن في قراراتها غير العادلة والظالمة التي تكون في كثير من الأحيان مخالفة للدستور والقانون، لكن لا يمكن رفضها لأن الطرفين يوقعان على “ِشيكات أو إيصالات أمانة” قبل بدء التحكيم لمنع أي تراجع، ويتم القبول بذلك تحت ضغوط شعبية واجتماعية، سواء من أهل القرية أو من القيادات السياسية مثل نواب البرلمان، أو مؤسسات الدولة مثل بيت العائلة المصري.
لا يمكن الفصل بين سيدة الكرم وبين الجلسات العرفية، فعلى رغم كل الدعم الذي حظيت به سيدة بكى على حالها كثيرون ضمن وسائل الإعلام، ودعمها رئيس الدولة نفسه، إلا أن هذا الدعم لم يكن كافياً لتحصل على العدالة بعد ست سنوات من تعريتها وسحلها في شوارع قريتها، وكأنها عبرة للأقباط الذين يصرون على السير في طريق القانون بعيداً من جلسات الصلح العرفي، فسواء كان الحكم عرفياً أو قضائياً فلا عدالة للأقباط.