fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

أكثر من مجرد بقعة حمراء… إلى متى تهميش آلام النساء الشهرية؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

في كثير من الحالات، يتم تجاهل الآلام المزمنة التي تتعرض لها النساء، حيث يوصفن بأنهن مفرطات في الحساسية، أو “مهسترات”، أو مهدرات للوقت.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تعود من عملها في السادسة مساء، وتتجه إلى دورة المياه لتغير ملابسها التي امتلأت بالدماء، وتدلّك بطنها ببعض الماء الساخن لتخفيف الآلام، ليدخل عليها زوجها ساخراً من ألمها قائلاً، “إيه الدلع ده”.

اعتادت نورهان سليم مذ كانت في الرابعة عشرة (ذكرى دورتها الشهرية الأولى)، على آلام مبرحة في هذا الوقت، وكانت والدتها إذا أرادت طمأنتها، تؤكد لها أن الألم سيختفي عند الزواج، ولكن الآلام استمرت، وتفاقمت مع  سخرية زوجها منها، وعدم اقتناعه بأنها حقاً لا تستطيع العمل خلال تلك الفترة ولا تستطيع إتمام مهماتها المنزلية.

نورهان (33 سنة) زوجة وأم لطفلين، تعمل في واحدة من شركات الاتصالات، وزوجها مهندس، إلا أنها تعاني من أنها تتحمل العبء الأكبر، “لا يشعر زوجي بآلامي الشهرية، ويتهمني بأنني أبالغ بها، يقول إن الدورة الشهرية تصيب كل النساء، وهو أمر طبيعي علينا مواجهته، دون التقصير في الأعمال المنزلية. تكثر طلباته ونتشاجر. لا يستطيع استيعاب ما أشعر به”.

يشير مسح أجرته مؤسسة “يوغوف” إلى أن معظم النساء العاملات يتعرضن لآلام الطمث، ما ينعكس على قدرتهن على العمل، وأجرى المركز “مسحاً بمشاركة ألف امرأة لبرنامج “إيما بارنيت” الذي يُبث على إذاعة بي بي سي 5. وجاءت نتيجة المسح كالتالي: 52 في المئة من النساء المشاركات في المسح أثرت تلك الآلام على قدرتهن في العمل، ولكن 27 في المئة منهن فقط أخبرن مدراءهن السبب وراء تأثر قدرتهن على العمل، وبحسب الدراسة، طلبت نحو ثلث النساء اللاتي شاركن في المسح إجازة مرضية يوماً على الأقل بسبب آلام الدورة الشهرية.

ما تواجهه نورهان في المنزل تواجهه في العمل أيضاً، “للأسف لا يوجد قانون داخلي في الشركة الخاصة، لمنح النساء العاملات يوم إجازة عند قدوم دورتهن الشهرية، كما لا يمكنني طلب إجازة لهذا الأمر، وما يزيد الأمر صعوبة أنني اضطر للعمل خلال تلك الفترة، على أمل الذهاب إلى المنزل والراحة، ولكن ما يحصل أنني أواجه معركة جديدة مع زوجي”.

ما يحدث مع نورهان، تواجهه أيضاً سماء محمد (28 سنة)، وهي زوجة وربة منزل، “بعد زوجي بشهر أتت دورتي الشهرية، وطلبت حينها من زوجي شراء فوط صحية ومسكن للألم، ذهب وأحضر الفوط الصحية متذمراً مبرراً الأمر أنه لا يمكن لرجل دخول صيدلية وشراء شيء خاص بالنساء، وعندما سألته لماذا لم يحضر لي مسكن الألم، طلب مني النزول وشراءه من الصيدلية لأنها مسائل سيدات لا يفهمها”.

في منتصف القرن الثالث قبل الميلاد، وصف أفلاطون الرحم بأنه كائن حي، “يغضب ويحزن” إذا لم تتحقق رغبته في الحمل، وساد اعتقاد بأن للدورة الشهرية علاقة بالكثير مما يصيب النساء من أمراض.

خرجت سماء وهي تحاول التغلب على ألمها الذي يعيقها حركتها واشترت المسكن من الصيدلية، وعادت لتطلب من زوجها مساعدتها في تحضير كوب شاي ساخن، لعله يريحها قليلاً، “فوجئت به ينفعل ويطلب مني تحضيره بنفسي لأنه منشغل حالياً ببعض الاتصالات مع أصدقاء، واشتدّ الشجار بيننا عندما أخبرته أنني لم أستطع تحضير طعام اليوم، وعلينا شراء طعام جاهز، يتهمني بالتقصير، متناسياً ألمي”.

كثيرة هي المشكلات المتعلقة بالدورة الشهرية في المجتمعات العربية، بين صعوبة الوصول إلى متطلبات النظافة الشخصية، وانتشار مفاهيم مغلوطة حول وصمة العار عند الحديث عن الأمر، لكن أهم تلك المشكلات التي تؤرق النساء هي تعامل الرجال معهن خلال تلك الفترة، فكما تقول سماء، “الرجال يحكمون على الأمر دون تجربته، هل جرب أحدهم أن تأتيه الدورة الشهرية، مع آلام مبرحة أسفل البطن والظهر تعيق الحركة؟ هل وضع أحدهم نفسه مكان زوجته قبل أن يتهمها بالإهمال والتقصير والتمارض؟”.

في دراسة قائمة على الملاحظة عام 1979، تحدث 104 أشخاص حول صحتهم في 5 مجالات “آلام الظهر والصداع والدوخة وآلام الصدر والإرهاق”، وقد لوحظ أن الأطباء أجروا فحوصات مكثفة للرجال أكثر في أحيان كثيرة من النساء اللواتي عبّرن عن شكاوى مماثلة، ما يدعم أن المريضات يؤخذن على محمل الجد بنسبة أقل من نظرائهن الذكور في ما يتعلق بالأمراض أو الآلام الجسدية.

هذا الأمر ليس وليد العصر الحديث، إذ بدأ من عصور ماضية، ففي منتصف القرن الثالث قبل الميلاد، وصف أفلاطون الرحم بأنه كائن حي، “يغضب ويحزن” إذا لم تتحقق رغبته في الحمل، وساد اعتقاد بأن للدورة الشهرية علاقة بالكثير مما يصيب النساء من أمراض، وكان العلاج الذي يصفه الأطباء في ذلك الحين أن تتزوج الفتاة في سن مبكرة، لتمارس الجنس بانتظام مع زوجها وتنجب عدداً كبيراً من الأطفال. واستمرت تلك النظرة حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر وتواصل الجدل بين الأطباء حول ما إذا كانت الهيستيريا تنتج عن خلل في الجهاز العصبي أم في الأعضاء التناسلية للمرأة.

وقد توصلت دراسة حديثة أجريت في كندا إلى أن النساء أكثر عرضة بنسبة 32 في المئة للوفاة عند إجراء الجراحين الذكور عمليات جراحية لهن، مقارنة بالجرّاحات الإناث. ومن بين الأسباب المحتملة التي تبنتها الدراسة هو أن هناك اختلافاً كبيراً في إدراك الألم أو تقدير الألم بين الجراحين الذكور والإناث. فالأطباء الذكور لديهم “عدم تقدير أو ربما نوع من الاستخفاف بشدة الأعراض لدى المريضات”.

وفي مراجعة أجراها المعهد الوطني للصحة في الولايات المتحدة عام 2018 وشملت 77 مقالاً طبياً أظهرت أنه في كثير من الحالات، يتم تجاهل الآلام المزمنة التي تتعرض لها النساء، حيث يوصفن بأنهن مفرطات في الحساسية، أو “مهسترات”، أو مهدرات للوقت، وتشير الكثير من الأبحاث إلى أن الأمراض التي تظهر عند النساء بأعراض مختلفة عن الأعراض التي يعاني منها الرجال عادة ما تمر بدون تشخيص. كما أن الأمراض التي تصيب النساء بالأساس لا يزال يكتنفها الغموض، إذ ثمة نقص في الدراسات التي تتناولها وفي العلاجات التي تستهدفها.

تقول ناهد جمال طبيبة النساء والتوليد، إن جزءاً كبيراً من النساء يعانين بين الحين والآخر من آلام الدورة الشهرية، والتي تتراوح بين المعتدلة والحادة، فقد تظهر الآلام في أسفل البطن، أو في الظهر والفخذين، وقد تكون مصحوبة بالصداع، والغثيان، والدوار أو الإغماء والإسهال والإمساك.

وتوضح جمال لـ”درج”، أن عدم اعتراف عدد كبير من الرجال بتلك الآلام مرتبط بأن الحديث عن الدورة الشهرية ما زال يمثل عيباً في المجتمع المصري، فيخشى الرجل شراء فوط صحية لزوجته لأنه يرى أن الأمر ينتقص من رجولته، كما أنه يتصور دوماً أن ما يبذله من مجهود في العمل خارج المنزل يفوق ما تتعرض له المرأة، وهو ما يعزز النظرة الذكورية دوماً في مواجهة آلام النساء، لأنه كبر وتربى على هذا الأمر، فالكثير من الأسر المصرية تمنح الرجال الامتيازات كافة، في مقابل وجوب طاعة المرأة وتبعيتها للرجل، ولا يقتصر الأمر على ألم الدورة الشهرية فقط”.

الموروث الثقافي التي تتحدث عنه الطبيبة، تؤكده نورهان في حديثها لـ”درج”، فمنذ صغرها وأسرتها تتعامل مع الدورة الشهرية على أنها “عيب”، أو “سر حربي” كما تصفه، “حين أتتني الدورة في المرة الأولى دخلت دورة المياة وفوجئت بقطرات دماء تسقط مني، لم أكن أعرف حينها ما هذا الشيء، أصابني الخوف حين رأيت الدم، ناديت أمي التي كانت تجلس مع شقيقي الأصغر وأنا أصرخ وأردد ماما الحقي في دم بينزل مني”.

نهرت الأم الابنة التي لم تكن تتخطى عامها الثالث عشر حينها “صرخت أمي في وجهي وأخذتني إلى دورة المياه مجدداً، وهي توبخني لأنني  أتحدث عن هذا الأمر أمام أخي”، لتكبر الابنة وبداخلها مشاعر سلبية تتجدد معها كل شهر “مع دورتي الشهرية كانت تطلب مني والدتي إخفاء الفوط الصحية بعيدا عن أعين أبي وشقيقي، فلا يمكن وضعها في دورة المياة دون غطاء، كما أنني كنت وما زالت أشتريها من الصيدلية في كيس بلاستيكي أسود”.

الفيلم الوثائقي “الدورة الشهرية، نهاية الجملة”، الذي حصل على جائزة الأوسكار لأفضل وثائقي قصير والذي أخرجته الهندية رييكا زيتابشي، يناقش ما تتحدث عنه نورهان، tعلى مدار 26 دقيقة، يتحدث الفيلم عن النظرة المجتمعية للدورة الشهرية، ويوضح تأثير الوصمة الاجتماعية المقترنة بالدورة الشهرية في حياة النساء وطموحاتهن، وحتى في ممارستهن العبادات والأديان.

الموروث الثقافي الذي عاشته نورهان، عاشته أخريات، تعاملن مع الدورة الشهرية على أنها عيب يصيبهن كل شهر، وعليهن مواجهته بمفردهن دون البوح بآلامه أو الحديث عنه “في حوار بيني وبين والدة زوجي طلبت منها الحديث مع نجلها حو لما أتعرض له شهريا، باعتبارها امرأة وستفهمني، وفوجئت برد قاسي منها بأنه لا ينبغي الحديث مع الرجال بتلك الأمور، وعلى المرأة أن تتحمل من أجل الرجل كما كانت تفعل هي سابقاً مع زوجها، وفوجئت أيضا بأنها تخبرني أن المرأة في تلك الفترة عليها اعتزال الرجل حتى لا يتأذى منها وكأن ما يصيبني شهرياً مرض يُشعر من حولي بالاشمئزاز”.

جولييت توما، المديرة الإعلامية لمكتب اليونيسف لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أكدت في تصريحات صحافية لها، تلك النظرة السلبية المنتشرة، فتقول إن الدورة الشهرية تعتبر “وصمة عار” في بعض الأماكن، لذا تسعى المنظمة لتغييرها من خلال برامج عدة، ويبدو أن جذور المشكلة تعود إلى مراحل مبكرة تنقص فيها مواد تعليمية أو توعوية حول الجانب البيولوجي للمسألة؛ ففي كثير من البلاد العربية تمر الكتب المدرسية بسرعة على موضوع الدورة الشهرية سواء أكان ذلك في مادة العلوم، أو في مادة التربية الدينية، فيبقى الحديث العلني عن الدورة الشهرية “عيباً” في معظم المجتمعات.

الأمراض التي تصيب النساء بالأساس لا يزال يكتنفها الغموض، إذ ثمة نقص في الدراسات التي تتناولها وفي العلاجات التي تستهدفها.

في مقابل تلك النظرة والثقافة، لا تسعى الكثير من أماكن العمل في مصر إلى منح الموظفات يوم إجازة للدورة الشهرية، حتى قررت شركة مصرية منح يوم إجازة مدفوع الأجر للعاملات بها أثناء دورتهن الشهرية والسماح لهن بالعمل من المنزل خلال تلك الفترة إذا ناسبت ظروف العمل ذلك، ليفتح هذا القرار جدلاً كبيراً في منصات التواصل الاجتماعي.

رانيا مصطفى، مديرة قسم الموارد البشرية في الشركة، قالت إن القرار صدر بعد مراجعة أبحاث علمية حول الألم الذي تتعرض له النساء خلال الدورة الشهرية، ما دفع الشركة لإصدار القرار للحفاظ على  قيام جميع الموظفات بأداء مهمات عملهن بكامل طاقاتهن، ليقابل القرار رفضاً من جهات عدة، فعدد من الرجال بدأ يسخر من الأمر، والعدد الآخر وصفه بأنه كشف لعيب تتعرض له المرأة وكأن الدورة الشهرية وصمة عار يجب إخفاؤها.

وتطبق بعض الدول مثل أندونيسيا وتايوان وكوريا الجنوبية سياسة إجازة الدورة الشهرية، والتي تمنح المرأة إجازة من العمل يوماً على الأقل، وأيضاً تقابل تلك السياسة بانتقادات كثيرة لأنها قد تعزز صوراً سلبية عن المرأة العاملة، وقد تؤدي إلى ردود فعل سلبية حيال توظيف النساء ومنعهن من تولي مناصب قيادية والحصول على رواتب عالية بحجة الغياب المتكرر.

وبجانب الآلام الجسدية، تصاب النساء أيضاً بتقلبات مزاجية، وهو ما يحدث مع دينا عبد الوهاب (35 سنة)، أم لثلاثة أطفال، تقول “تأتي دورتي الشهرية ومعها تقلبات مزاجية ورغبة مستمرة في البكاء، لا يعرف زوجي كيف يتعامل مع تلك التقلبات والتي يصفها بفترة من النكد الصافي، وإنما أكون أنا بحاجة للمزيد من الدعم والحب، ولا أجدهما عنده، ويتحول الأمر إلى سخرية من مشاعري فيقول أمام أطفالنا، سيبوها في حالها أصلها عندها الدورة”.

هكذا تواجه نورهان ودينا وسماء وأخريات، العذاب الشهري وحيدات، من دون دعم ومن دون تفهّم… ما يضيف آلاماً نفسية إلى الأوجاع الجسدية الحادة. 

إقرأوا أيضاً:

نجيب جورج عوض - باحث سوري | 21.03.2025

هيئة تحرير الشام، الطائفية، و”ميتريكس” سوريا الموازية

في سوريا الحالية الواقعية، لا يوجد خيار ولا كبسولتان ولا حتى مورفيوس: إما أن تنصاع لحقيقة هيمنة ميتريكس سوريا الافتراضية الموازية الذي أحضرته الهيئة معها من تجربة إدلب، أو عليك أن تتحول إلى ضحية وهدف مشروعين أمام خالقي الميتريكس وحراسه في سبيل ترسيخ وتحقيق هيمنة الميتريكس المذكور على الواقع.
14.09.2022
زمن القراءة: 8 minutes

في كثير من الحالات، يتم تجاهل الآلام المزمنة التي تتعرض لها النساء، حيث يوصفن بأنهن مفرطات في الحساسية، أو “مهسترات”، أو مهدرات للوقت.

تعود من عملها في السادسة مساء، وتتجه إلى دورة المياه لتغير ملابسها التي امتلأت بالدماء، وتدلّك بطنها ببعض الماء الساخن لتخفيف الآلام، ليدخل عليها زوجها ساخراً من ألمها قائلاً، “إيه الدلع ده”.

اعتادت نورهان سليم مذ كانت في الرابعة عشرة (ذكرى دورتها الشهرية الأولى)، على آلام مبرحة في هذا الوقت، وكانت والدتها إذا أرادت طمأنتها، تؤكد لها أن الألم سيختفي عند الزواج، ولكن الآلام استمرت، وتفاقمت مع  سخرية زوجها منها، وعدم اقتناعه بأنها حقاً لا تستطيع العمل خلال تلك الفترة ولا تستطيع إتمام مهماتها المنزلية.

نورهان (33 سنة) زوجة وأم لطفلين، تعمل في واحدة من شركات الاتصالات، وزوجها مهندس، إلا أنها تعاني من أنها تتحمل العبء الأكبر، “لا يشعر زوجي بآلامي الشهرية، ويتهمني بأنني أبالغ بها، يقول إن الدورة الشهرية تصيب كل النساء، وهو أمر طبيعي علينا مواجهته، دون التقصير في الأعمال المنزلية. تكثر طلباته ونتشاجر. لا يستطيع استيعاب ما أشعر به”.

يشير مسح أجرته مؤسسة “يوغوف” إلى أن معظم النساء العاملات يتعرضن لآلام الطمث، ما ينعكس على قدرتهن على العمل، وأجرى المركز “مسحاً بمشاركة ألف امرأة لبرنامج “إيما بارنيت” الذي يُبث على إذاعة بي بي سي 5. وجاءت نتيجة المسح كالتالي: 52 في المئة من النساء المشاركات في المسح أثرت تلك الآلام على قدرتهن في العمل، ولكن 27 في المئة منهن فقط أخبرن مدراءهن السبب وراء تأثر قدرتهن على العمل، وبحسب الدراسة، طلبت نحو ثلث النساء اللاتي شاركن في المسح إجازة مرضية يوماً على الأقل بسبب آلام الدورة الشهرية.

ما تواجهه نورهان في المنزل تواجهه في العمل أيضاً، “للأسف لا يوجد قانون داخلي في الشركة الخاصة، لمنح النساء العاملات يوم إجازة عند قدوم دورتهن الشهرية، كما لا يمكنني طلب إجازة لهذا الأمر، وما يزيد الأمر صعوبة أنني اضطر للعمل خلال تلك الفترة، على أمل الذهاب إلى المنزل والراحة، ولكن ما يحصل أنني أواجه معركة جديدة مع زوجي”.

ما يحدث مع نورهان، تواجهه أيضاً سماء محمد (28 سنة)، وهي زوجة وربة منزل، “بعد زوجي بشهر أتت دورتي الشهرية، وطلبت حينها من زوجي شراء فوط صحية ومسكن للألم، ذهب وأحضر الفوط الصحية متذمراً مبرراً الأمر أنه لا يمكن لرجل دخول صيدلية وشراء شيء خاص بالنساء، وعندما سألته لماذا لم يحضر لي مسكن الألم، طلب مني النزول وشراءه من الصيدلية لأنها مسائل سيدات لا يفهمها”.

في منتصف القرن الثالث قبل الميلاد، وصف أفلاطون الرحم بأنه كائن حي، “يغضب ويحزن” إذا لم تتحقق رغبته في الحمل، وساد اعتقاد بأن للدورة الشهرية علاقة بالكثير مما يصيب النساء من أمراض.

خرجت سماء وهي تحاول التغلب على ألمها الذي يعيقها حركتها واشترت المسكن من الصيدلية، وعادت لتطلب من زوجها مساعدتها في تحضير كوب شاي ساخن، لعله يريحها قليلاً، “فوجئت به ينفعل ويطلب مني تحضيره بنفسي لأنه منشغل حالياً ببعض الاتصالات مع أصدقاء، واشتدّ الشجار بيننا عندما أخبرته أنني لم أستطع تحضير طعام اليوم، وعلينا شراء طعام جاهز، يتهمني بالتقصير، متناسياً ألمي”.

كثيرة هي المشكلات المتعلقة بالدورة الشهرية في المجتمعات العربية، بين صعوبة الوصول إلى متطلبات النظافة الشخصية، وانتشار مفاهيم مغلوطة حول وصمة العار عند الحديث عن الأمر، لكن أهم تلك المشكلات التي تؤرق النساء هي تعامل الرجال معهن خلال تلك الفترة، فكما تقول سماء، “الرجال يحكمون على الأمر دون تجربته، هل جرب أحدهم أن تأتيه الدورة الشهرية، مع آلام مبرحة أسفل البطن والظهر تعيق الحركة؟ هل وضع أحدهم نفسه مكان زوجته قبل أن يتهمها بالإهمال والتقصير والتمارض؟”.

في دراسة قائمة على الملاحظة عام 1979، تحدث 104 أشخاص حول صحتهم في 5 مجالات “آلام الظهر والصداع والدوخة وآلام الصدر والإرهاق”، وقد لوحظ أن الأطباء أجروا فحوصات مكثفة للرجال أكثر في أحيان كثيرة من النساء اللواتي عبّرن عن شكاوى مماثلة، ما يدعم أن المريضات يؤخذن على محمل الجد بنسبة أقل من نظرائهن الذكور في ما يتعلق بالأمراض أو الآلام الجسدية.

هذا الأمر ليس وليد العصر الحديث، إذ بدأ من عصور ماضية، ففي منتصف القرن الثالث قبل الميلاد، وصف أفلاطون الرحم بأنه كائن حي، “يغضب ويحزن” إذا لم تتحقق رغبته في الحمل، وساد اعتقاد بأن للدورة الشهرية علاقة بالكثير مما يصيب النساء من أمراض، وكان العلاج الذي يصفه الأطباء في ذلك الحين أن تتزوج الفتاة في سن مبكرة، لتمارس الجنس بانتظام مع زوجها وتنجب عدداً كبيراً من الأطفال. واستمرت تلك النظرة حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر وتواصل الجدل بين الأطباء حول ما إذا كانت الهيستيريا تنتج عن خلل في الجهاز العصبي أم في الأعضاء التناسلية للمرأة.

وقد توصلت دراسة حديثة أجريت في كندا إلى أن النساء أكثر عرضة بنسبة 32 في المئة للوفاة عند إجراء الجراحين الذكور عمليات جراحية لهن، مقارنة بالجرّاحات الإناث. ومن بين الأسباب المحتملة التي تبنتها الدراسة هو أن هناك اختلافاً كبيراً في إدراك الألم أو تقدير الألم بين الجراحين الذكور والإناث. فالأطباء الذكور لديهم “عدم تقدير أو ربما نوع من الاستخفاف بشدة الأعراض لدى المريضات”.

وفي مراجعة أجراها المعهد الوطني للصحة في الولايات المتحدة عام 2018 وشملت 77 مقالاً طبياً أظهرت أنه في كثير من الحالات، يتم تجاهل الآلام المزمنة التي تتعرض لها النساء، حيث يوصفن بأنهن مفرطات في الحساسية، أو “مهسترات”، أو مهدرات للوقت، وتشير الكثير من الأبحاث إلى أن الأمراض التي تظهر عند النساء بأعراض مختلفة عن الأعراض التي يعاني منها الرجال عادة ما تمر بدون تشخيص. كما أن الأمراض التي تصيب النساء بالأساس لا يزال يكتنفها الغموض، إذ ثمة نقص في الدراسات التي تتناولها وفي العلاجات التي تستهدفها.

تقول ناهد جمال طبيبة النساء والتوليد، إن جزءاً كبيراً من النساء يعانين بين الحين والآخر من آلام الدورة الشهرية، والتي تتراوح بين المعتدلة والحادة، فقد تظهر الآلام في أسفل البطن، أو في الظهر والفخذين، وقد تكون مصحوبة بالصداع، والغثيان، والدوار أو الإغماء والإسهال والإمساك.

وتوضح جمال لـ”درج”، أن عدم اعتراف عدد كبير من الرجال بتلك الآلام مرتبط بأن الحديث عن الدورة الشهرية ما زال يمثل عيباً في المجتمع المصري، فيخشى الرجل شراء فوط صحية لزوجته لأنه يرى أن الأمر ينتقص من رجولته، كما أنه يتصور دوماً أن ما يبذله من مجهود في العمل خارج المنزل يفوق ما تتعرض له المرأة، وهو ما يعزز النظرة الذكورية دوماً في مواجهة آلام النساء، لأنه كبر وتربى على هذا الأمر، فالكثير من الأسر المصرية تمنح الرجال الامتيازات كافة، في مقابل وجوب طاعة المرأة وتبعيتها للرجل، ولا يقتصر الأمر على ألم الدورة الشهرية فقط”.

الموروث الثقافي التي تتحدث عنه الطبيبة، تؤكده نورهان في حديثها لـ”درج”، فمنذ صغرها وأسرتها تتعامل مع الدورة الشهرية على أنها “عيب”، أو “سر حربي” كما تصفه، “حين أتتني الدورة في المرة الأولى دخلت دورة المياة وفوجئت بقطرات دماء تسقط مني، لم أكن أعرف حينها ما هذا الشيء، أصابني الخوف حين رأيت الدم، ناديت أمي التي كانت تجلس مع شقيقي الأصغر وأنا أصرخ وأردد ماما الحقي في دم بينزل مني”.

نهرت الأم الابنة التي لم تكن تتخطى عامها الثالث عشر حينها “صرخت أمي في وجهي وأخذتني إلى دورة المياه مجدداً، وهي توبخني لأنني  أتحدث عن هذا الأمر أمام أخي”، لتكبر الابنة وبداخلها مشاعر سلبية تتجدد معها كل شهر “مع دورتي الشهرية كانت تطلب مني والدتي إخفاء الفوط الصحية بعيدا عن أعين أبي وشقيقي، فلا يمكن وضعها في دورة المياة دون غطاء، كما أنني كنت وما زالت أشتريها من الصيدلية في كيس بلاستيكي أسود”.

الفيلم الوثائقي “الدورة الشهرية، نهاية الجملة”، الذي حصل على جائزة الأوسكار لأفضل وثائقي قصير والذي أخرجته الهندية رييكا زيتابشي، يناقش ما تتحدث عنه نورهان، tعلى مدار 26 دقيقة، يتحدث الفيلم عن النظرة المجتمعية للدورة الشهرية، ويوضح تأثير الوصمة الاجتماعية المقترنة بالدورة الشهرية في حياة النساء وطموحاتهن، وحتى في ممارستهن العبادات والأديان.

الموروث الثقافي الذي عاشته نورهان، عاشته أخريات، تعاملن مع الدورة الشهرية على أنها عيب يصيبهن كل شهر، وعليهن مواجهته بمفردهن دون البوح بآلامه أو الحديث عنه “في حوار بيني وبين والدة زوجي طلبت منها الحديث مع نجلها حو لما أتعرض له شهريا، باعتبارها امرأة وستفهمني، وفوجئت برد قاسي منها بأنه لا ينبغي الحديث مع الرجال بتلك الأمور، وعلى المرأة أن تتحمل من أجل الرجل كما كانت تفعل هي سابقاً مع زوجها، وفوجئت أيضا بأنها تخبرني أن المرأة في تلك الفترة عليها اعتزال الرجل حتى لا يتأذى منها وكأن ما يصيبني شهرياً مرض يُشعر من حولي بالاشمئزاز”.

جولييت توما، المديرة الإعلامية لمكتب اليونيسف لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أكدت في تصريحات صحافية لها، تلك النظرة السلبية المنتشرة، فتقول إن الدورة الشهرية تعتبر “وصمة عار” في بعض الأماكن، لذا تسعى المنظمة لتغييرها من خلال برامج عدة، ويبدو أن جذور المشكلة تعود إلى مراحل مبكرة تنقص فيها مواد تعليمية أو توعوية حول الجانب البيولوجي للمسألة؛ ففي كثير من البلاد العربية تمر الكتب المدرسية بسرعة على موضوع الدورة الشهرية سواء أكان ذلك في مادة العلوم، أو في مادة التربية الدينية، فيبقى الحديث العلني عن الدورة الشهرية “عيباً” في معظم المجتمعات.

الأمراض التي تصيب النساء بالأساس لا يزال يكتنفها الغموض، إذ ثمة نقص في الدراسات التي تتناولها وفي العلاجات التي تستهدفها.

في مقابل تلك النظرة والثقافة، لا تسعى الكثير من أماكن العمل في مصر إلى منح الموظفات يوم إجازة للدورة الشهرية، حتى قررت شركة مصرية منح يوم إجازة مدفوع الأجر للعاملات بها أثناء دورتهن الشهرية والسماح لهن بالعمل من المنزل خلال تلك الفترة إذا ناسبت ظروف العمل ذلك، ليفتح هذا القرار جدلاً كبيراً في منصات التواصل الاجتماعي.

رانيا مصطفى، مديرة قسم الموارد البشرية في الشركة، قالت إن القرار صدر بعد مراجعة أبحاث علمية حول الألم الذي تتعرض له النساء خلال الدورة الشهرية، ما دفع الشركة لإصدار القرار للحفاظ على  قيام جميع الموظفات بأداء مهمات عملهن بكامل طاقاتهن، ليقابل القرار رفضاً من جهات عدة، فعدد من الرجال بدأ يسخر من الأمر، والعدد الآخر وصفه بأنه كشف لعيب تتعرض له المرأة وكأن الدورة الشهرية وصمة عار يجب إخفاؤها.

وتطبق بعض الدول مثل أندونيسيا وتايوان وكوريا الجنوبية سياسة إجازة الدورة الشهرية، والتي تمنح المرأة إجازة من العمل يوماً على الأقل، وأيضاً تقابل تلك السياسة بانتقادات كثيرة لأنها قد تعزز صوراً سلبية عن المرأة العاملة، وقد تؤدي إلى ردود فعل سلبية حيال توظيف النساء ومنعهن من تولي مناصب قيادية والحصول على رواتب عالية بحجة الغياب المتكرر.

وبجانب الآلام الجسدية، تصاب النساء أيضاً بتقلبات مزاجية، وهو ما يحدث مع دينا عبد الوهاب (35 سنة)، أم لثلاثة أطفال، تقول “تأتي دورتي الشهرية ومعها تقلبات مزاجية ورغبة مستمرة في البكاء، لا يعرف زوجي كيف يتعامل مع تلك التقلبات والتي يصفها بفترة من النكد الصافي، وإنما أكون أنا بحاجة للمزيد من الدعم والحب، ولا أجدهما عنده، ويتحول الأمر إلى سخرية من مشاعري فيقول أمام أطفالنا، سيبوها في حالها أصلها عندها الدورة”.

هكذا تواجه نورهان ودينا وسماء وأخريات، العذاب الشهري وحيدات، من دون دعم ومن دون تفهّم… ما يضيف آلاماً نفسية إلى الأوجاع الجسدية الحادة. 

إقرأوا أيضاً: