الانتهازية والوصولية والشيفونية، معايير يتم على أساسها انتقاء أعضاء “الأكاديمية الوطنية للتدريب”، التي قرر نظام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي تأسيسها في 28 آب/ أغسطس 2017، بعد مطالبات من عدد من الدول والبنوك ورؤوس الأموال التي تستطيع إعطاء مصر قروضاً أو ضخ استثمارات لمحاولة إنقاذ الوضع الاقتصادي المتدنّي، وذلك لفتح المجال العام أمام تنظيمات تستطيع استيعاب غضب الشارع في حال حدوث ثورة مماثلة لثورة 25 كانون الثاني/ يناير 2011، من حركات شبابية كان هدفها الأول العمل على إعادة بناء وطن حرّ يتمتع بعدالة وديمقراطية ومساواة.
“الأكاديمية الوطنية للتدريب” هي مؤسسة – من المفترض – أنه تم تأسيسها لتدريب الشباب وتأهيلهم ليصبحوا قادة سياسيين يتولّون في المستقبل مسؤولية عملية التنمية في المجتمع، من خلال تدريبهم على عدد من البرامج، منها “مدرسة رئاسية للقيادة” و “مدرسة المرأة” و”مدرسة القيادة الدولية”. ويزعم النظام أنه يتم اختيار المتدرّبين على أسس علمية ديمقراطية، وإتاحة الفرصة للشباب للمشاركة في المجال العام والتعبير عن آرائهم بحرية تامة.
لكن الحقيقة، أنه في ظل السلطة القائمة في مصر ليست هناك أي مساحة للمشاركة السياسية، فكل الأحزاب المستقلة في مصر غير مسموح لها بالتجمعات أو إقامة مناسبات، وفي حال إقامة أي فاعلية في الشارع يكون هناك خطر محدق بالأعضاء المشاركين، فيتعرضون هم وأي منضم إليهم الى احتمالية الاعتقال وتلفيق التهم. حتى نشاط الجمعيات الأهلية في خطر بسبب فرض قوانين تقيّد عملها وتعرض سلامة العاملين فيها لخطر الاعتقال أو الإخفاء والتعذيب.
منذ سنوات طويلة، تغيب عن مصر الحرية والتعددية، اللذين يعتبران من أهم عناصر الدولة الديمقراطية، فلا توجد مشاركة مدنية أو سياسية أو مجتمعية، وكل ما يحاول النظام تصديره الى الخارج ما هو إلا محاولة لتبييض صورته أمام المجتمع الدولي وإيهام العالم بأن تلك المساحة – الوهمية – هى خطوة نحو الديمقراطية.
عرائس ماريونيت
يحاول النظام من خلال “الأكاديمية الوطنية للتدريب”، تسخير الشباب وتحويلهم من مستقبل البلاد الى عرائس ماريونيت، ليظل منفرداً بحكم مصر، وذلك من خلال انتقاء عدد من الشباب يمتلكون صفات محددة، في مقدمها الولاء للنظام، وضمّهم الى الأكاديمية وتحضيرهم لتولّي مناصب في الدولة ليكونوا ظهيراً شبابياً للنظام يحميه من المجتمع الدولي الذى يلحّ بضرورة إحداث تغيرات سياسية جذرية. ذلك كله لمحاولة الحفاظ على مصالح الدول العظمى، من بينها أهم ممر تجاري في العالم “قناة السويس”، و”حماية حدودنا البحرية ومحاربة الهجرة غير الشرعية وخلق استقرار لدولة يحكمها القانون والديمقراطية، ليست مهددة في أي لحظة بالانهيار نتيجة لثورة بسبب سخط الشارع من آلية الحكم الحالي”.
تحافظ البلاد المتقدّمة على وجود ضمانات حقوق الإنسان كافة وتوافر مساحة آمنة من الحرية، وتخلق بالقوانين جهات مراقبة تتمثل في أعضاء البرلمان وأحزاب سياسية ومنافذ تمكّن الشباب من المشاركة في المجال العام، والعمل على استغلال نشاطهم وأفكارهم لتحسين الوضع السياسي والاقتصادي وخلق كوادر حقيقية لتولي القيادة السياسية.
أما في مصر، فكيف يمكن أن تحدث انفراجة سياسية أو تحسين للأوضاع السياسية والاقتصادية إذا كانت القوى الشبابية، والتى ستخرج من رحم “الأكاديمية الوطنية للتدريب” هي وجه آخر للنظام تعمل للمصالح الشخصية وتدين بالولاء لنظام لا يؤمن بالحق في تداول السلطة أو حرية التعبير.
وعلى الرغم من محاولة القوى السياسية الحقيقية في مصر لتقديم حلول، منها فتح المجال العام وضرورة استيعاب الآراء المختلفة وحرية طرح الأفكار والاعتراف بوجود أزمة في المشهد المصري الحالي، إلا أن حديثها لا يجد صدى، فهي تقدم اقتراحات لحكومة لا تستمع سوى الى صوتها.
يحكم السيسي مصر بالنار والحديد، وكل من يحاول التعليق على سياسة الدولة يتم اعتقاله او إخفاؤه قسرياً من دون أي سند قانوني، ومن لم يوجد مبرر قانوني لحبسه يتم استخدام سلاح الحبس الاحتياطى للزج به في السجن من دون تهمة. فهناك من ظل لسنين طويلة خلف القضبان على ذمة قضية، ويتم تجديد حبسه بشكل دوري احتياطياً 45 يوماً على ذمة التحقيق، ثم يتم الإفراج عنه وتُحفظ القضية من دون الإحالة الى المحكمة لعدم وجود أي أدلة أو حتى أحراز.
أما محضر الضبط الذي يتم القبض على “المتهم” بناء عليه، فيكون في معظم المرات مزوراً وكُتب بعد عملية القبض بشهور بسبب إثبات أهلية المسجون واختفائه بطرق قانونية، منها إرسال تلغراف لمكتب النائب العام أو محضر إثبات لحالة الاختفاء.
إقرأوا أيضاً:
تجربة عبد الناصر
عبد الفتاح السيسي ليس هو الديكتاتور الأول في مصر الذي يحاول خلق جيل كامل ينتمي إليه، فلدى الرئيس الراحل جمال عبد الناصر تجربة مشابهة للأكاديمية الوطنية للتدريب، فمنذ صدور قرار مجلس قيادة الثورة في كانون الثاني/ يناير 1953 بإلغاء الأحزاب السياسية وحظر تأسيس أي أحزاب جديدة، بدأ عصر الديكتاتورية والانفراد بالسلطة، ولم يظهر أي كيان سياسي حقيقي حتى تنظيم “هيئة التحرير”، الذى تم تدشينه باعتباره التنظيم الشعبي والسياسي المسموح بوجوده قانونياً.
وبعد صدور ذلك القرار، لم يخض أي معركة سياسية واحدة، فقد كافح للحصول على الاستقلال الوطني وإنهاء الاحتلال البريطاني لمصر ليس أكثر، حتى إنشاء عبد الناصر تنظيماً سياسياً حمل اسم “الاتحاد الاشتراكى العربى”، الذي كان آنذاك التنظيم السياسي الوحيد، وكان الهدف منه شبيهاً بالهدف من “الأكاديمية الوطنية للتدريب”، إي تجنيد العناصر “الصالحة” للقيادة والتي تدين بالولاء للرئيس، وقد وصل عدد أعضائه إلى 30 ألفاً. والتشابه لا يكمن في الهدف فقط وإنما في نقطة فيصلية أخرى، وهي أن الانضمام إليهما يعتبر “تذكرة مرور” للدخول في دائرة النفوذ وتولي المناصب القيادية في الدولة على حساب أصحاب الحق وأهل الخبرة. فأعضاء “الأكاديمية الوطنية للتدريب” يدخلون “تنسيقية شباب الأحزاب والسياسيين” ويترشحون بعدها الى أعلى المناصب في الدولة، مثلما حدث مع أعضاء “الاتحاد الاشتراكي العربي”، الذين انضموا الى “التنظيم الطليعي” واختيروا بعدها لتسلم مناصب في كل المواقع التنفيذية والسياسية، ليصبحوا هم المحافظين والوزراء وأعضاء مجالس الإدارات في المؤسسات كافة.
بداية الطريق
لكن السؤال الذي يُطرح هنا: هل نجاح الأكاديمية في خلق جيل من الشباب ينتمي الى النظام لا الى البلاد سيحمي مصر من الانهيار؟ الإجابة بالطبع لا، إذ إن ادعاء وجود حريات يحاول النظام تصديرها هو بداية طريق الانهيار، فلا يمكن أن تتقدم أي دولة من دون ديمقراطية ومشاركة شبابية حقيقية في إدارات الدولة.
بداية الطريق السليم تكمن في إصدار قانون العدالة الانتقالية، والذي نُص عليه بشكل صريح في المادة 241 من الدستور المصري الذي كتبته لجنة الخمسين، وحظي بموافقة 98.1 في المئة من المشاركين في الاستفتاء.
ونصت المادة على “أن يلتزم مجلس النواب في أول دور انعقاد له بعد نفاذ هذا الدستور بإصدار قانون للعدالة الانتقالية يكفل كشف الحقيقة، والمحاسبة، واقتراح أطر المصالحة الوطنية، وتعويض الضحايا، وذلك وفقاً للمعايير الدولية”. كما يجب إتاحة الحق في تأسيس الجمعيات الأهلية والسماح لها بالعمل بحرية من دون فرض أي قيود أو ملاحقة العاملين فيها، وإتاحة التجمع السلمي والحق في عقد الاجتماعات والتظاهرات، لتعود الحركات السياسية الشبابية والأولتراس وغيرهما من المجموعات الى مكانها الطبيعي في الشارع المصري، وذلك بعدما تم حصرها في صفحات مواقع التواصل الاجتماعي خشية من القبضة الأمنية. وأيضاً إيقاف عمليات الاعتقال للشباب السياسيين الحقيقيين والمعتقلين في سجون النظام منذ سنوات، ودمجهم في المجتمع والسماح لهم بالمشاركة في الحياة السياسية، بدلاً من خلق جيل من الشباب المنتمين الى النظام، وإيقاف أكذوبة الحوار الوطني الذي انطلق منذ شهور تحت رعاية “الأكاديمية الوطنية للتدريب”، لتتصدر المشهد كجهة محايدة، وهي في الأصل منشأة بأوامر من النظام !!
إقرأوا أيضاً: