ولّدت حرب الإبادة الإسرائيلية الجارية على قطاع غزة، منذ فجر السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، عندما أطلقت “كتائب القسام” هجوماً على مستوطنات ومقار عسكرية في غلاف غزة، انقساماً فكرياً وثقافياً ربما يكون غير مسبوقاً في حدّته؛ خلق نوعاً من الشعبوية والقوالب والردود الجاهزة، لقتل أي وجهة نظر من “عميل إسرائيل” إلى “عميل إيران”، ومن “متصهين عربي” إلى “ذمّي الإسلام السياسي”.
واحدة من أكثر الممارسات شيوعاً في هذا النوع من النقاشات، التي تحاول مقاربة عملية “طوفان الأقصى” من منظور نقدي آخر غير السائد، وما تلاها من ممارسات سياسية وعسكرية وإعلامية من قبل حركة “حماس” وجناحها العسكري، هي الإسكات، إما بحجة “عدم الوقوع في فخ تكرار رواية العدو”، أو أن هذا “ليس الوقت المناسب للنقد”، إذ إنَّ الحركة ما زالت تخوض معركتها وهي الطرف الأضعف فيها، كما لو أن النقد “لا يستمد شرط إمكانه، بل مشروعيته، إلا من حصول واقعة الهزيمة، ولا تكون له وجاهة أو لا يظفر بمتسع وظرف موافقين له إلا تحت أثر الصدمة القاسية وتساقط الشعارات وانتحاب الحماسة”، كما يقول الكاتب والباحث اللبناني وسام سعادة.
بيد أن مقاومة المحتل أو المستعمر، بما في ذلك المقاومة المسلّحة، أمرٌ مشروع، تحفظه القوانين الدولية، ويرقى في بعض الأحيان إلى الواجب الوطني، إلا أن هذه المحاججة تتجاهل، عن عمد أو غير قصد، أن حركة “حماس” منذ إصدار بيانها التأسيسي الأول إبان الانتفاضة الأولى في الرابع عشر من ديسمبر/ كانون الأول 1987، ومنذ ذلك الحين، قدمت نفسها على أنها حركة “سياسية”، ولم يتغير هذا الشيء، بل أشار إليه صراحة خليل الحية، عضو مكتبها السياسي في مقابلته مع “أسوشييتد برس” عندما قال إن “الحركة ستكتفي بمتابعة العمل السياسي فور التحرير”.
فلسطين أرض وقف إسلامي!
وضعت الحركة، التي قدّمت نفسها بداية كذراع لجماعة “الإخوان المسلمين” في فلسطين، أهدافاً واضحة في وثيقتها التأسيسية، تتمثل في تحرير كل الأرض الفلسطينية على اعتبارها “أرض وقف إسلامي على أجيال المسلمين إلى يوم القيامة، لا يصح التفريط بها أو بجزء منها أو التنازل عنها أو عن جزء منها […] وأن أي تصرف مخالف لشريعة الإسلام هذه بالنسبة لفلسطين، فهو تصرفٌ باطل مردود على أصحابه”.
عارضت “حماس” منذ البداية، المبادرات والمؤتمرات الدولية لحل القضية الفلسطينية بوصفها تتعارض مع عقيدة حركة المقاومة الإسلامية، فالتفريط في أي جزء من فلسطين تفريط في جزء من الدين، فوطنية حركة المقاومة الإسلامية جزء من دينها” وأن “ما تلك المؤتمرات إلا نوع من أنواع تحكيم أهل الكفر في أرض المسلمين، ومتى أنصف أهل الكفر أهل الإيمان؟”.
انطلاقاً من هذا الموقف، وخلال السنوات الخمس التي تلت التأسيس، والتي مهّدت لولادة اتفاقية أوسلو عام 1993 التي نبذتها “حماس” جملةً وتفصيلا، نفذت الحركة، بحسب دراسة كتبها غسان دوعر، 138 عملية خسرت إسرائيل فيها حسبما أعلنت 79 قتيلاً و220 جريحاً، وإن كان لذلك من عراقيل، إلا أنه لم يوقف بأي شكل اتفاقيتي أوسلو اللاتي وُقّعتا في نهاية المطاف.
وفي السنوات السبع التي تلت، ومع تململ الفلسطينيين، من مختلف أطيافهم، لانتهاء الفترة المقررة لتطبيق الحل النهائي بحسب اتفاقيات أوسلو، والشعور بالإحباط بسبب المماطلة وجمود المفاوضات بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي بعد مؤتمر قمة كامب ديفيد، وتوضّح محاولة إسرائيل؛ بدعم من الولايات المتحدة، فرض حل على الفلسطينيين، بعيداً عن قرارات الشرعية الدولية، واقتحام آرييل شارون رفقة ألفي جندي إسرائيلي، باحات المسجد الأقصى في السابع والعشرين من سبتمبر/ أيلول 2000، ومشاهد مقتل محمد الدرة في شارع صلاح الدين في غزة، أطلق ياسر عرفات الانتفاضة الثانية، التي حملت طابعاً مسلحاً منذ يومها الأول، وشهدت بداية نهايته مع حصار مقر الرئاسة الفلسطينية وحبسه فيه حتى وفاته.
شهدت تلك الانتفاضة مشاركة مسلحة من قبل كافة الفصائل الفلسطينية؛ “فتح” و”حماس” و”الجبهة الشعبية” و”الجبهة الديمقراطية” و”الجهاد الإسلامي”، كما شهدت بزوغ عهد الصواريخ وازدهار استراتيجية “العمليات الانتحارية” لدى حركة “حماس”، ففي التاسع عشر من أغسطس/ آب 2003، نفذ كل من حركتي “حماس” و”الجهاد الإسلامي” هجوماً انتحارياً على حافلة مزدحمة في القدس أسفرت عن مقتل 23 مستوطناً إسرائيلياً، وكانت العملية بمثابة إنهاءً الهدنة التي تم الإعلان عنها في يوليو/ تموز 2003، وإعلاناً لاستمرار الانتفاضة حتى تحقيق أهدافها من جهة و”وقف الاعتداءات على الأقصى” من جهة أخرى.
وفي أعقاب اغتيال مؤسس الحركة ورئيسها الشيخ أحمد ياسين في 22 مارس/ آذار 2004، ومع مبايعة أعضاء الحركة لعبد العزيز الرنتيسي خلفاً له، وفي أول خطاب له بعد توليه قيادة “حماس”، وقف وهو يحمل بندقية كلاشنكوف، وقال: “هذا هو حوارنا مع الصهاينة وهذا – رافعاً سلاحه ومشيراً إليه – هي طريقنا لتحرير الأقصى”.
إقرأوا أيضاً:
وثيقة المبادئ والسياسات العامة
بعد وفاة ياسر عرفات في 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 2004، ووصول محمود عباس إلى سدّة الرئاسة الفلسطينية في التاسع من يناير/ كانون الثاني 2005، التقى عباس وشارون في قمة شرم الشيخ حيث تعهّدا بوقف كل طرف الهجمات على الآخر، ووافق شارون على إطلاق سراح 900 أسير فلسطيني والانسحاب من مدن الضفة الغربية.
رفضت حركة “حماس” أن تكون طرفاً في الاتفاق، على اعتبار أن الانتفاضة لم تحقق شروطها بعد، وبالفعل لم تلتزم إسرائيل تماماً ببنود الاتفاق، لكن أياً من ممارسات حركة “حماس” بعد ذلك، بما فيها حروب 2008 و2012 و2014 (التي راح ضحيتها مجتمعة 3652 فلسطينياً بفعل آلة القتل الإسرائيلية) لم تمنع من تفاقم الانتهاكات الإسرائيلية، إذ وُثّق منذ ذلك الحين وحتى أغسطس/ آب 2017، أكثر من 20 انتهاكاً للمسجد الأقصى، نُفذت على يد أكثر من 80 ألف سياسي ومستوطن وجندي وعنصر أمن وطلاب ورجال دين إسرائيليين.
وفي الأول من مايو/ أيار 2017، أعلن رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” آنذاك، خالد مشعل، عن وثيقة المبادئ والسياسات العامة الجديدة لحركة المقاومة الإسلامية، التي قبلت بها الحركة ضمنياً بحلّ الدولتين، ونسفت ما وقفت لأجله، وبررت به ممارساتها وسياساتها، طوال السنوات السابقة، إذ جاء في مقدمتها أن “إقامة دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس، على خطوط الرابع من يونيو/ حزيران 1967، هي “صيغة توافقية وطنية مشتركة”، لكنها لم تُبدِ أيَّة جدّية للامتثال لذلك، وظلَّت الوثيقة حبيسة الأدراج، وكانت وظيفتها للرأي العام والتداول في الإعلام الغربي فقط.
“يوم الهزيمة” ؟
خاضت “كتائب القسام” بعد ذلك حربي 2018 و2021 على غزة، التي حصدت أرواح 294 فلسطينياً، من دون درء أي سياسة أو ممارسة إسرائيلية، ومع تفاقم تلك السياسات وزيادة فجاجتها، جاء “طوفان الأقصى”، الذي وضع في ساعاته الأولى، القائد العام ل”كتائب القسام” محمد الضيف هدف العملية وحدّد طبيعتها، كيوم وعد لهزيمة إسرائيل.
طالب الضيف الفلسطينيين، من النهر إلى البحر، والأمتين العربية والإسلامية بالمشاركة في المعركة بكافة الوسائل، بقوله: “هذا يومكم لتفهِموا هذا العدو المجرم أنه انتهى زمنه (واقتلوهم حيث ثقفتموهم، وأخرجوهم من حيث أخرجوكم)… قاتلوا، والملائكة سيقاتلون معكم…وسيوفي الله بوعده لكم”، وأكّد ذلك الناطق باسم “كتائب القسام” أبو عبيدة بعد يومين، بتحديد مطالب أكثر دقة للعملية، وهي وقف الانتهاكات الإسرائيلية ورفع الحصار عن غزة وتبييض السجون من كامل أسراها الفلسطينيين.
النتيجة اليوم بعد أكثر من 9 أشهر، أكثر وضوحاً من الشمس، قضى عشرات الآلاف من الفلسطينيين وهُجٍّر أضعافهم، غزة فقدت مدنيّتها، بن غفير وزبانيته من المتطرفين في الأقصى كل أسبوع، الجيش الإسرائيلي يقيم حفلات “الباربكيو” على محور نتساريم، نتنياهو يجول في رفح، واليمين الإسرائيلي ضمَّ الضفة، وجعل حلَّ الدولتين “غير قانوني”، وتحتاج غزة عقوداً للعودة إلى حالها الذي كانت عليه مساء السادس من أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
ظهرت بعض التبريرات مؤخراً، إذ خرج أسامة حمدان ليقول إن الحركة لم تتوقع رد الفعل الإسرائيلي المبالغ به، بينما قال خليل الحية إن “كتائب القسام” لم تتوقع انهيار فرقة غزة بتلك السرعة، إلا أن تلك التصريحات، وإن كانت تشكّل تعارضاً تامّاً مع ما أعلنه الضيف وحتى اسماعيل هنية بداية العملية، وإن أُخذت بحُسن نية مُطلق، فلا يمكن لها إلا أن تنطوي على مجرد قصور متكرر في قراءة العدو أولاً، والواقع السياسي المحيط وخارطة التحالفات الإقليمية والعالمية ثانياً.
إذاً، نحن أمام سلسلة، تمتد لقرابة الأربع عقود من الزمن، من تحديد أهداف اليوم والتراجع عنها غداً، لقول الشيء ونقيضه، مع غياب استراتيجية سياسية واضحة ومسؤولة لتحقيق تلك الأهداف (المُحقّة بطبيعتها) في كل مرة، فلماذا لم يرحم ذلك النهج عبد الفتاح السيسي عندما طالع المصريون مؤخراً تغريداته القديمة وقارنوها بسياساته؟ لماذا تشكّل تصريحات أردوغان القديمة بحقّ الأسد إدانة صارخة له اليوم مع تبديل موقفه السياسي؟ ولماذا الفشل في تحقيق الأهداف ضمن دورة حُكم واحدة كان كافياً لإطلاق الثورة والاحتجاجات في مختلف أنحاء العالم، حتى ضمن حركات التحرر الوطني؟ لماذا يوجد استثناء؟
يضع الكاتب السوري سامي الكيال تعريفاً مبسّطاً للـ “النصر” عندما نفكّر فيه بمعزل عن “الانتصارات الإلهية”: تحقيق أهداف حددتها شرعية وطنية أو شعبية ما، مع إمكانية محاسبة القائمين على تحقيقها، والبحث في مدى جدوى كل تصرّف عسكري أو سياسي بالقياس إلى تلك الأهداف، وكذلك رأي البشر الذين دفعوا ثمنها. لكن مع الاحتفاء اليوم بإنجاز انقلاب الرأي العام العالمي ضد إسرائيل، الذي لم يأتِ مع الطوفان بل حققته إسرائيل نفسها بوحشيتها وكانت عدوة نفسها الأولى، يبدو أننا اكتفينا بهدف إظهار العدو، الذي صُنّف كـ “عدو”، منذ سبعة عقود، على أنه “غاشم ابن غاشم”، ولم يحن بعد وقت الهزيمة ليأتي النقد.