يستحق ما يقرب من مئة ألف لبناني ممن لم يعودوا إلى قراهم المدمّرة على الحدود مع إسرائيل، مكاشفتهم بأن عودتهم ليست وشيكة، وأن منطقة عازلة بين لبنان وإسرائيل صارت أمراً واقعاً.
و”المنطقة العازلة” هي خارج محاولات منع استئناف الحرب التي تلوح في الأفق القريب. فحين تتحدث الدول عن ضرورة سحب سلاح حزب الله، وإلا على لبنان أن يستعد لحملة عسكرية جديدة، فهي لا تعني أن سحب السلاح سيفضي إلى انسحاب إسرائيلي من النقاط الخمس التي تحتلّها إسرائيل في لبنان، أو إلى وقف الاحتلال الافتراضي والجوي الذي تمارسه طائراتها ومسيراتها في الأجواء اللبنانية.
لقد صارت هذه الأمنيات وراءنا، فبنيامين نتانياهو يعيش نشوة انتصار يشعر معه أن المشرق صار أشبه بعجينة بين يديه، وهو اكتشف هشاشة كل الدفاعات التي أوهمَنا بها أهل المحور، ولا يقف أحد في وجه طموحاته، إلا، وهنا المفارقة، دونالد ترامب، والأخير طبعاً يصدّه وفق حسابات أخرى، غير تلك التي يمكن أن تأخذ بالاعتبار المأساة التي يعيشها المئة ألف لبناني من أهل الحدود.
الهزيمة عميقة، ويجب تحييدها عن بازارات السجال اللبناني. بنيامين نتانياهو مأزق أكبر من أن نزجه في نزواتنا المذهبية الصغيرة. نحن نتحدث عن مساحة جغرافية وأهلية في طريقها لأن تُقتطع على نحو شبه دائم من الـ10452 كيلومتراً، التي تشكل هذا اللبنان الرهيب. يحدث هذا بينما يعيش لبنان حالاً من النكران، بين من يقول إن “المقاومة بخير”، وبين من يسعى من خلف الهزيمة إلى أن يمرر حقبة الفساد المدمر والموازي لحقبة السلاح، بأن يُبعد الأنظار عن سرقة العصر، وأن يقصرها على حقبة السلاح.
إقرأوا أيضاً:
القصة أكبر من سلاح حزب لله. القصة هي ما يعتقده بنيامين نتانياهو بأنه إنجاز نادر لن تتاح له فرص أفضل لأن يتحقق. إنجاز تاريخي له علاقة بنموذج الدولة الإسرائيلية، بعدما هزم اليمين فيها فكرة الآباء المؤسّسين. والمخيف في الأمر، أن العودة عن الفكرة تحتاج إلى تحولات هائلة في إسرائيل، وهي غير متوافرة على الإطلاق.
أما بالنسبة إلينا فنحن عالقون بصغائرنا، فهل سبق أن سمعنا بقانون يهدف إلى منع الناخبين من الاقتراع؟ أليس هذا سابقة تاريخية علينا أن نضمها إلى أكبر انهيار مالي في التاريخ، وثاني أكبر انفجار في القرن؟
نعيم قاسم، الأمين العام الجديد لحزب الله، ما زال يتصرف وكأنه الحاكم بأمره في لبنان. لا يريد تسليم السلاح، ولا يريد للبنانيي الخارج أن يقترعوا في الانتخابات، ويوزّع شهادات الوطنية والتخوين في كل الاتجاهات، بين “سياديين حقيقيين” وآخرين “مزيّفين”. أما الضلع الثاني من معادلة الثنائي، أي رئيس مجلس النواب نبيه بري، فيخوض معركة الرمق الأخير ليمنع المغتربين من الاقتراع، في مواجهة خرافية تنتمي إلى زمن ما قبل الهزيمة، أي تلك الأيام التي كانت فيها هيمنة السلاح في ذروتها، ولا تعيقها فضيحة بحجم منع لبنانيين من الاقتراع في الانتخابات، وأي لبنانيين، إنهم أولئك الذين يشكلون الرئة الاقتصادية الوحيدة التي ما زالت تشتغل.
ومن بين من يمنعنا حزب الله من التفكير بهم هم المئة ألف لبناني من أهل القرى التي صارت “منطقة عازلة”! الاعتراف بالأمر الواقع هو اعتراف بالهزيمة، وبلا جدوى السلاح وحروب الإسناد، واعتراف بالقول إن حرب الإسناد قدمت لإسرائيل ذريعة كانت تنتظرها لإقامة الجدار العازل بينها وبين لبنان، وألا تقتصر الحدود على شريط شائك.
السياسة والحروب ليستا علماً بالغيب على نحو ما يتحفنا به مفوّهو المحور! ما كنا نجهله عن قوة إسرائيل، كان أساساً لسياسات تحمّل اللبنانيون عموماً والمئة ألف حدودي خصوصاً نتائجها. تدمرت بيوتهم وقراهم وقُتل أبناؤهم بسبب هذا الجهل. هم اليوم أضعف من أن يطالبوا بالمحاسبة، لكن حقهم علينا هو أن نسعى لإعادتهم إلى ما تبقى من قراهم، وهذا لن يتحقق بتكرار التجربة.
يقول حزب لله إن المعنيين بالعودة سلّموا له أمرهم، وأنهم في غالبيتهم سيقترعون له، والأرجح أن هذا صحيح، لكن قضية “المنطقة العازلة” هي قضية لبنانية، مصير المئة ألف مواطن يحدده لبنان كله، والأرض المنتزعة خسرها لبنان، وحزب الله لم يكن خير مؤتمن عليها. علماً أن الذهاب إلى طهران للمفاوضة عليها سيطيح حلم العودة إذا ما قُدمت لطهران أثمان من نوع رفع العقوبات.
يبدو أن ما جرى أكبر من مخيلات مَن مِن المفترض أن يتعاملوا معه، فهو لا يقتصر على خسارة ميدانية في الحرب، ذاك أن اسرائيلاً مختلفة ولدت، بموازاة تغير كبير أصاب أميركا. نتانياهو يشبه هذه الـ”أميركا” أكثر مما يشبه اسرائيل السابقة. هو ابن هذه الثقافة، وهو يحترفها أكثر من نظيره في البيت الأبيض.
في غمرة هذا التحول خسرنا الحرب وخسرنا الحدود.
إقرأوا أيضاً:













