الصراع الطويل في سوريا، أدى إلى تبدلات وتحولات معقدة، على مستوى تركيبة السكان والتغيير الديمغرافي، تبعاً للجهات المسيطرة عسكرياً وإدارياً وأمنياً. وكنتيجة للتطورات التي رافقت الثورة السورية، فإن جغرافية الشمال السوري انقسمت بين ثلاث كتل عسكرية، هي “جبهة تحرير الشام” المسيطرة على إدلب وقسم من الأرياف المحيطة بها من جهة حلب واللاذقية، و”الجيش الوطني” المسيطر على ريف حلب الشمالي والشرقي عفرين، في حين تسيطر “قوات سوريا الديمقراطية” على الشمال الشرقي من البلاد.
حكومة الإنقاذ التي لم تُنقذ أملاك الناس!
تحمل ذاكرة المسيحيين والدروز في إدلب، ذكريات مريرة ودموية مُدمرة، وسط الصراع على النفوذ، إذ تضم مناطق الشمال الغربي 16 قرية درزية، تتوزع في جبل السماق، ومن أكبرها وأكثرها تضرراً وسيطرة على الأملاك، قرى وبلدات بنابل، كفر نبي، جدعين، عبريتا، كفتين، وقلب لوزة.
لا إحصاءات دقيقة بخصوص توزع الجماعات الدينية شمال سوريا، لكن تتداول أوساط دينية من الدروز أن عددهم فيها قرابة الـ30 ألف نسمة قبل العام 2011، ولم يتبقَّ منهم سوى ما يقارب الـ5 آلاف فقط، بالإضافة إلى ست قرى وبلدات مسيحية، هي: حلوز، الجديدة، اليعقوبية، الغسانية، القنية، التي لم يتبقَ من سكانها سوى بضع مئات، بعدما كانوا بالآلاف قبل عام 2011.
وتتبع بلدة جدعين الدرزية مدينة كفر تخاريم في محافظة إدلب، عاش أهلها أياماً وسنوات صعبة، بسبب العلاقات المتوترة بينهم وبين “هيئة تحرير الشام”. يقول ماهر حمدان أحد سكان البلدة لـ”درج” عبر الهاتف: “حاصرت الهيئة المدينة، وسعت الى السيطرة الميدانية والعسكرية عليها؛ لإخضاع جميع المدن الكبرى وتسلّم إداراتها”، مضيفاً: “مع كل توسع وتصعيد، ندرك حجم الكارثة التي تنتظرنا؛ فإذا كانوا ينتمون إلى مذهب وفكر ودين واحد ويتصرفون بهذه الطريقة، فكيف سيكون الحال معنا، وسط ضخامة الإشاعات والتشويه الذي لحق بنا”.
من جهتها، تقول منال الصلخدي؛ واحدة من أهالي بلدة عبريتا لـــ”درج”: “احترنا ما بين البقاء ومشاهدة الغرباء يستولون على منازل جيراننا وأهلنا، أو الهجرة وترك أملاكنا لهم”. وتتحدث عن التغيرات التي أصابت التركيبة السكانية، وعن سيطرة العناصر الأجنبية المنضوية في “هيئة تحرير الشام” على عقارات البلدة.
تقول الصلخدي: “حين انسحب النظام السوري، رفضنا الخروج أنا وزوجي، في حين هاجر أبناؤنا مع عوائلهم، بالتزامن مع هجرة قسم كبير من السكان بخاصة الشباب، وبقينا نحن المسنين نواجه هذه الصعاب وحدنا، إذ نعمل زوجي وأنا في صناعة المربيات والمخلل وبيعها في الأسواق، لم يتعرض لنا أحد بالسوء، لكن الهيئة صادرت أملاك أبنائي من منازل وعقارات، وأحدهم كان يملك 10 دونمات زراعية، وسلمتها لعناصر من دول أخرى لا نفهم لغتهم، وحين اعترضنا، كانت التهمة جاهزة: أبناؤكم كانوا يقاتلون مع النظام”.
لم يختلف الحال كثيراً مع قرية كفر نبي التي كانت تسكنها سابقاً عائلات درزية، وفقاً لما أكده زياد عيدو مسترجعاً ذكرياته: “دخلت الفصائل القرية، اعترانا الخوف والرعب، وسيطرت علينا هواجس المصير المجهول، فعناصرها غير منضبطين، وتم اعتقال من رفضوا تسليم منازلهم للمقاتلين الأجانب”.
لا يختلف حال المسيحيين عن الدروز، ففي قرية الغسانية بالقرب من جسر الشغور، قرر فادي ملكي البقاء في منزله، ورفض المغادرة بعد تأمين وصول عائلته إلى القامشلي، وفضل البقاء للحفاظ على أملاكهم، وقال لـ”درج” عبر الهاتف: “الغالبية هاجرت خوفاً، فتلك الفصائل كانت تعتبر موقف المسيحيين الحيادي انحيازاً للنظام، رافق ذلك مؤشرات إلزامنا بدفع الجزية، والسيطرة على منازل الأهالي الفارين من الموت وممتلكاتهم، وإغلاق كنيسة مريم العذارء”.
تغيرات في السياسات وتحول في النهج
أعاد المحامي إدوار حلو (اسم مستعار) من أهالي قرية اليعقوبية في ريف إدلب الغربي، التغيرات التي طرأت على سلوكيات “هيئة تحرير الشام” خلال العامين الأخيرين، إلى “محاولات “الهيئة” رفع اسمها عن لوائح الإرهاب، وربما كانت تُخطط لتوسيع نطاق جغرافية سيطرتها منذ تلك الأعوام”، وقال: “فجأة ومن دون تمهيد، قررت الهيئة إعادة قسم ليس بالقليل من الأملاك والعقارات المصادرة إلى أهلها، أو وكلائهم، ووافق الجولاني على إعادة فتح كنيسة القديسة آنا في قريتنا، بعد لقائه مع عدد من مسيحيي إدلب من قرى ريف جسر الشغور، وتم سحب أعداد كبيرة من الفصائل من داخل القرى والبلدات المسيحية والدرزية، لكن ما تزال قضايا اللباس والشعر المكشوف، والضوابط الصارمة لمنع الاختلاط بين الجنسين موجودة”.
في حين ترى ثريا نجم الدين من ريف إدلب، وهي طالبة ماجستير علم اجتماع في جامعة دمشق، أن “سرديات حقوق الأقليات سمعناها من النظام السوري أيضاً، من دون اقترانها بالأفعال والسلوكيات. يتحدثون عن حقوق الأقليات، ويفرضون الإطار والهوية الدينية. يستولون على أملاك الأقليات، ثم يتحدثون عن دمجهم مجتمعياً، الواضح أن العيش ضمن دولة مركزية، سيكون كفيلاً بالحفاظ على التوترات والنزاعات إلى عقود مقبلة”.
إقرأوا أيضاً:
عفرين: إدفعوا آلاف الدولارات لتحصلوا على منازلكم
سيطرت الإدارة الذاتية على عفرين منذ بدايات الثورة السورية، وأكد ناشطون أن العملية كانت تسليماً وتسلّماً بينها وبين النظام السوري، وفي حديثه عبر “واتساب” مع “درج”، قال عضو المجلس المحلي في بلدة جندريسي ريناس كردو؛ وفق ما طلب تسميته لأسباب أمنية: “توافد المئات من عناصر حزب العمال الكردستاني من تركيا وإيران، الذين لم يكن لهم أي سكن أو إقامة سابقة، ومع زيادة وتيرة الهجرة من عموم عفرين وريفها، زادت معها عمليات السيطرة على المنازل الفارغة التي تركها أهلها، ولم تنفع كل محاولات التوسط أو الضغط او الإعلام لإعادة تلك المنازل”.
وأضاف كردو: “كانت تُهمة التآمر على مكتسبات ثورة روج آفا والتعاون مع تركيا ضدهم، جاهزة في وجه كل من دافع عن أملاك أبنائه أو أخوته المهاجرين”، يضحك طويلاً قبل أن يُنهي حديثه “خرجت قواتهم وجاءت قوات أخرى أكثر وحشية وسوءاً، فعناصر الحمزات والعمشات وأحرار الشرقية، لم يسلم من شرهم حتى من بقي في منزله، من مصادرة الأملاك والعقارات والأراضي، إلى الشراكة وفرض الإتاوات على الأرزاق”.
وسيطرت فصائل المعارضة السورية التي كانت تُسمى “الجيش الوطني السوري”، على عفرين وريفها في عام 2018 خلال المعركة التي جرت بينها؛ بدعم من تركيا، وبين قوات الحماية الشعبية التابعة لحزب “الاتحاد الديمقراطي” المسيطر على الإدارة الذاتية. ووفقاً لمنظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” فإن الاستيلاء مستمر “على ممتلكات السكان المحليين من خلال النهب والاحتلال، وكذلك الضرائب الباهظة، يمنع سكان عفرين المهجرين قسراً من العودة إلى بيوتهم، ويهدف إلى إرغام من بقوا على الفرار”.
وقال حنان عبدو (42 عاماً) الذي نزح من عفرين بعد عام 2018: “سيطر ما يُعرف بالجيش الوطني على عقارات ومساكن تعود ملكيتها إلى أهالٍ من عفرين وريفها، وتم إسكان عوائل مقاتلين من الفصائل، أو تأجيرها من قبل عناصر تلك الفصائل لأناس من النازحين إلى عفرين”.
ووفقاً لعبدو فإن أكثر ما فضح عمليات الاستيلاء على العقارات، كان زلزال شباط/ فبراير 2023، الذي ألحق خسائر فادحة بمدينة جنديرس، وكشفت الأضرار سواء الكلية أو الجزئية التي لحقت بالمباني والمساكن، حجم الغُبن والنهب المنظم، حيث إن أغلب المنازل المتضررة كانت لأهالي المدينة، لكن كان يسكنها الغرباء، وتحولت إلى ركام وأطلال، ولم يبقَ منها سوى محاضرها السكنية”.
وختم عبدو حديثه “غالبية المطرودين من منازلهم، أو المهجرين من المدينة، يخشون من إعادة الاستيلاء على المنازل عبر تزوير محاضر عقاراتهم، بحجة التعافي المبكر، أو إعادة الإعمار، وهو يعني فقدان الحق بملكيتهم إلى الأبد”.
أكد ما سبق المحامي جوان جانو من جنديرس، الذي قال: “عمليات تزوير سندات ملكية محاضر العقارات جارية على قدم وساق، وبناء التجمعات السكنية مستمر، وغالباً يتم منحها إما لعوائل المقاتلين وإما للمحسوبين عليهم، والواضح أن التغيير الديمغرافي مستمر على أكمل وجه”.
تجريد الكرد من ممتلكاتهم، شمل عمليات استيلاء واسعة على ممتلكات أتباع الديانة الإيزيدية في عفرين، من منازل ومحال تجارية، وبساتين، وبيوت عبادة، حيث أكد ذلك بيخال مردو (39 عاماً) من أهالي قرية بافيلون في ناحية شران في عفرين؛ وجميع سكان تلك القرى من الإيزيديين، إذ قال: “فصيل الجبهة الشامية استولى على القرية بالكامل، مما دفع بالغالبية العظمى إلى الهجرة والهرب، وتم توطين نازحين أو عوائل مقاتلي الفصيل في بيوت الأهالي، وتحويل بعض المنازل إلى مقار أو قواعد عسكرية”، مضيفاً: “مشكلتنا أكبر من غيرنا، جُردنا من منازلنا وأملاكنا، واتهمنا بالشيطنة والكفر والإلحاد، وأن السطو على منازلنا يُعتبر نصرة للإسلام وفقاً لعقلهم الإجرامي”.
وقال برخدان أحمد عضو المجلس المحلي “للمجلس الوطني الكردي” في عفرين: “إن بعض الفصائل وخاصة العمشات، سيطروا على منازل السكان النازحين في تل رفعت والشهباء، وبعد عودتهم إلى قراهم رفضت تلك الفصائل إعادة المنازل قبل دفع مبلغ يتراوح بين 2500-4000$ لإعادة المنزل إلى صاحبه”، مضيفاً: “لم يحصل في تاريخ سوريا، بما فيها حقبة البعث والنظام البائد نفسه، أن خُير صاحب دار بين النوم في العراء أو دفع مثل هذا المبلغ لقاء إعادة حقه وأملاكه المسلوبة، وأساساً هل يُمكن لنازح من بيته إلى مُخيم، وعائد إلى منزله، أن يملك مثل هذا المبلغ؟”. يبدو أن في عفرين قصة خاصة تتجاوز منطق المنازل، حيث “تم تشييد أكثر من 24 مجمعاً سكنياً في مناطق مختلفة منها، خُصصت للغرباء عن المنطقة فقط، من دون أن يُستفاد منها أبداً”.
الإدارة الذاتية تستولي على منازل المسيحيين المهاجرين
نشرت “الشبكة الآشـورية لحقوق الإنسان” بياناً مفصلاً قالت فيه: “إن جهات أمنية مسلحة تابعة لما يعرف بـ “الأسايش” قامت خلال الأيام القليلة الماضية، بكسر أقفال عدد من المنازل وفتح أبوابها بالقوة، في حي الوسطى والحي الغربي في مدينة القامشلي، وفي مساكن الشهداء ومساكن المحطة ومنطقة تل عزة في محافظة الحسكة، واستولت بالقوة على عدد من المنازل والعقارات، التي تعود ملكيتها إلى مواطنين سوريين من أبناء المكون السرياني الآشـوري (مسيحيون)”.
وأضافت الشبكة: “المنازل مُنحت لنازحين تم استقدامهم من مناطق عفرين وحلب، وهم بمعظمهم من القيادات العسكرية والسياسية المحسوبة على الإدارة الذاتية”، وفي حديثها مع “درج” قالت ماريا؛ وهي من عائلة أحد المهاجرين الذين استولي على منزلهم: “هاجر خالي إلى أوروبا منذ عدة سنوات، نتيجة للوضع الأمني والمعيشي، وبقي المنزل مغلقاً طوال تلك الفترة، ترددنا عليه بين الحين والآخر، كي لا يُترك مغلقاً، حتى تفاجئنا بكسر الأقفال ومنحه لشخص لم نفهم لغته الكردية، ولم يكن يُجيد الحديث بالعربية، وحين طالبناهم بالخروج رفضوا وأصروا على البقاء فيه”.
من جهته، قال محامٍ مقرب من “المنظمة الديمقراطية الآشورية” في حديثه مع “درج”، رفض الكشف عن هويته بسبب عمله ضمن محاكم الإدارة الذاتية: “إن هذه الأعمال تُعتبر انتهاكات جسيمة، وإجراءات تعسفية وممارسات غير قانونية، من حق الجميع ترك منازلهم والهجرة، وعلى أي سلطة تحكم هذه المناطق، أن تُراعي حساسية التكوين القومي والديني فيها، ومنع الاعتداء على منازل النازحين والمهاجرين”، مضيفاً: “تعهدت الإدارة الذاتية بإعادة المنازل المستولى عليها، لكنها لم تنفذ وعدها بعد”.
سبق أن أصدرت “الإدارة الذاتية في شمالي وشرقي سوريا في عام 2020 قانون “حماية وإدارة أملاك الغائب”، لإدارة أملاك الأشخاص المقيمين خارج سوريا، في مناطق سيطرتها، ولا يقيم أحد من أقاربه من الدرجة الأولى أو الثانية في سوريا، ثم تراجعت عنه بعد ضغط واعتراضات كبيرة شهدتها المناطق العربية مثل دير الزور والرقة، لكنها استخدمته في بعض المناطق والأحياء في قامشلو قبل أن تعيد المنازل بعد أشهر عدة.
إقرأوا أيضاً: