قبل إعلان “حزب الله” رسمياً تكليفه الشرعي للناخبين كي يصوتوا للوائحه وحلفائه أياً كانت ارتكاباتهم، سارع المفتي الجعفري الممتاز الشيخ أحمد قبلان لاستخدام عمامته وموقعه الديني للترويج للوائح الثنائي الشيعي، حركة “أمل” و”حزب الله”.
مبالغة المفتي قبلان في استخدام الدين في الحملة الانتخابية وصلت إلى حدّ قوله إن “من أكبر وأخطر محرمات الله التفريق بين حركة “أمل” و”حزب الله””.
حدد قبلان المعيار: “من يخذل حركة “أمل” يخذل “حزب الله” ومن يخذل “حزب الله” يخذل حركة “أمل”، ومن يخذل “أمل” و”حزب الله” هو شريك (عن قصد أو غير قصد) في أكبر هجمة دولية إقليمية تريد رأس من يحمي لبنان”.
كلمة قبلان هذه ووجهت بتعليقات تسخر من تقديم الشيخ نفسه ناطقاً باسم الله واستخدام الدين في الدعاية الانتخابية للثنائي سائلين إياه عن مصدر هذه الفتوى.
من بلدة ميس الجبل، جنوب لبنان، حيث يهيمن الثنائي، جاء تأكيد قبلان على ضرورة الحفاظ على الوحدة بين حركة “أمل” و”حزب الله” والتصويت لهما، وحدة لا يشعر المسؤولون في الجهتين بمتانتها ما يجعلهم يشددون عليها دائماً في كل مناسبة.
مواقف قبلان ليست جديدة، فقد اعتاد الشيخ منذ مدة على إطلاق المواقف السياسية التي ترضي الثنائي، ومن ثم تعميمها على وسائل الإعلام. وبرزت مواقفه هذه أكثر بعد وفاة والده، الشيخ عبد الأمير قبلان، الذي كان يرأس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى. ويظهر النجل من خلال مواقفه كمن يحاول التسويق لنفسه كمرشح توافقي عله يرث منصب والده الذي بات محل صراع كبير بين “حزب الله” وحركة “أمل”.

ويبرز اليوم داخل المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى صراع نفوذ بين الثنائي الشيعي لم يشهده منذ تأسيسه. تداعيات الصراع وصلت إلى حدّ تمرد نائب رئيس المجلس الشيعي الشيخ علي الخطيب على قرارات رئيس حركة “أمل”، رئيس مجلس النواب نبيه بري، ما يعدّ سابقة. فلطالما كان المجلس تحت جناح الحركة منذ تأسيسه على يد مؤسسها أيضاً رجل الدين الشيعي موسى الصدر. واليوم باتت “أمل” في موقع الساعي للتمسك بسلطتها داخل المجلس في حين يعمل “حزب الله” على تحجيمها وتوسعة نفوذه في المجلس والسيطرة عليه.
صراع النفوذ المزمن بين الثنائي الشيعي، قرر الطرفان تأجيل حسمه إلى ما بعد الانتهاء من استحقاق الانتخابات النيابية في 15 أيار/ مايو المقبل، لما قد يسببه من ضرر على الطرفين خصوصاً في ظل تململ شيعي عام من أدائهما برز عبر خلافات متكررة بين مناصريهما.
على الرغم من محاولة التكتم على الخلاف، غير أنه برز في تأخر اختيار خلف لرئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ عبد الأمير قبلان والذي توفي في أيلول/سبتمبر من العام الماضي، نتيجة عدم التوافق، ومن ثم تأجيل انتخاب أعضاء الهيئتين التنفيذية والتشريعية المنتهية ولايتيهما في 31 كانون الأول/ديسمبر 2021، بعد تمديدها. وبانتظار الاتفاق على تسوية بين الحليفين الشيعيين تسمح بإجراء انتخابات داخل المجلس واختيار الرئيس الذي سيتم الاتفاق على اسمه قبل الانتخابات.

تمرد على بري
أثار أداء الخطيب ريبة حركة “أمل”، لاسيما عندما تمرد على قرار بري وحاول إبطال تعيين الوزير السابق حسن اللقيس رئيساً للجامعة الإسلامية في لبنان، والذي جرى تعيينه بطلب من بري. وبعد اتصالات على أعلى مستوى بين قيادتي الحزب والحركة ومتابعة القضية مباشرة من قبل أمين عام “حزب الله” حسن نصرالله وبري، عاد الخطيب عن قراره نتيجة تسوية سياسية، وجمدت الخلافات إلى ما بعد الانتخابات. وبالإضافة إلى تصرفه هذا تسربت معلومات، من أطراف داخل المجلس يزعجها الخطيب، تشير إلى اتخاذه منحى سياسياً يتعارض وأداء المجلس سابقاً كما ونهج “أمل” ويميل لصالح الحزب.
ويشكل الصراع على المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى أحد أشدّ الصراعات على النفوذ بين الطرفين منذ رعاية إيران وسوريا لمصالحة “الأخوة” في العام 1989. والتي جرت بعد حرب بين الحزبين المتنافسين على السيطرة على المناطق الشيعية سميت بـ”حرب الأخوة”، وكانت ترجمة للصراع السوري-الإيراني على مناطق النفوذ في حينها في الجنوب وضاحية بيروت الجنوبية، وأدت إلى سقوط آلاف القتلى من الطرفين.
وستشكل خسارة أمل لنفوذها داخل المجلس، في حال حصلت، نكسة معنوية كبيرة لها ولجمهورها لما يمثله المجلس ولارتباطه بمؤسسها موسى الصدر.
فبعد قدومه من إيران إلى لبنان وبدئه بلعب دور سياسي، تولى موسى الصدر تأسيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى. في العام 1967، ونتيجة تغير الظروف السياسية، أقرّ مجلس النواب اللبناني اقتراح إنشاء المجلس الشيعي وصارت الطائفة الشيعية مستقلة في شؤونها الدينية وقضائها ومحاكمها عن الطائفة السنية. في العام 1969 انتخبت الهيئة العامة للمجلس موسى الصدر أول رئيس له.
إلى الآن لا يخضع المجلس الإسلامي الشيعي والمحكمة الجعفرية التابعة له لولاية الفقيه، والتي يخضع لها وينادي بها “حزب الله”، وإنما يتخذ من رجل الدين الشيعي العراقي علي السيستاني مرجعاً له. ليس هذا بتفصيل يرضى “حزب الله” باستمراره، وهو الذي يسعى لتطبيق ولاية الفقيه ما أمكنه ذلك، وإخضاع جميع شيعة لبنان لمرجعية مرشد الجمهورية الإسلامية في إيران علي خامنئي.
في حديث إلى “درج” يؤكد الباحث والدكتور في الفلسفة وجيه قانصو، أن مسألة رئاسة المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى هي من النقاط الحرجة في العلاقة بين الطرفين، “لأن المجلس لا يمثل فقط واجهة دينية وإنما واجهة قانونية. فكل الأحوال الشخصية للطائفة الشيعية مرتبطة به، وهي تشكل جزءاً هاماً من الجهاز القضائي في لبنان. لا يريد أي من الطرفين أن يستفرد الآخر بسلطته على المجلس”، وفق قانصو.
وفي حين يستمر “حزب الله” في سعيه إلى استغلال الظرف كي يوسّع نفوذه في المجلس، يتوقع قانصو أن يتمكن الطرفان، “يوماً ما”، من التوافق على شخصية أو على جملة شروط وعلى نمط أداء معين.
إقرأوا أيضاً:
براغماتية حزب الله ودور بري
في انتظار الانتخابات النيابية، والمؤجل معها من ملفات، لا يبدو أن الحزب يتجه إلى فتح معركة لزيادة حصته من المقاعد الشيعية في البرلمان على حساب “أمل”. ولا تظهر، حتى الآن، نية لترشيح شخصية تحظى بمقومات تؤهلها لخلافة رئيس مجلس النواب البالغ 84 عاماً، نبيه بري، وهو الذي يستفيد “حزب الله” من دوره كمفاوض وصلة وصل مع أميركا، وغيرها، في العديد من الملفات. لاسيما ملف ترسيم الحدود في جنوب لبنان، والذي أدى إلى تفاوض مباشر بين لبنان وإسرائيل، برفض شكلي من “حزب الله”.
بالتأكيد يخطط الحزب لمرحلة ما بعد بري، الرجل الذي تحول إلى جوكر رابح بيديه. وقد تكون العقوبات التي طالت معاونه السياسي، النائب علي حسن خليل، رسالة لضبط هذا الدور بينما تبقي الولايات المتحدة الأميركية على علاقتها الجيدة ببري لتحصيل ما أمكن لصالح إسرائيل.
في الحديث عن البديل يطرح دوماً اسم المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم، خصوصاً بعد تحييد سلفه جميل السيد من دربه بضربة العقوبات الأميركية. فشخصية إبراهيم تشكل، كما بري، نقطة التقاء بين حزب الله والولايات المتحدة الأميركية. لم يستقل إبراهيم من منصبه للترشح للنيابة، في رسالة طمأنة واحترام، ربما، لبري، أو لاستمرار الطرفين في موقعيهما بما يناسب “حزب الله”.
يرفض قانصو القول بأن بري بات أسير تحالفه مع “حزب الله”، على الرغم من خروج أصوات حركية ترى أنه وضع الحركة في خدمة الحزب وأخضعها إليه. بل يرى أن لرئيس مجلس النواب هامش حركة، “ويلعب بري دوراً في إيصال وتلقي الرسائل بينما يعتمد الحزب أسلوباً براغماتياً ويهمه لدى التصعيد ضد طرف أن يُبقي قناة تواصل معه، لذا هو بحاجة إلى واجهة دبلوماسية وتفتح له الرئاسة الثانية أحد أهم القنوات. لأن التكوين العسكري العقائدي لحزب الله لا يمكنه من لعب دور دبلوماسي”.

أزمة ثقة
هذا الدور وهذا الهامش حاول بري ومساعدوه استغلالهما خلال حرب تموز 2006 للتخلص من هيمنة الحزب على “أمل”. فبينما كان بري يفاوض الأميركيين كان يفتح ومعاونوه لأنفسهم هامشاً وفرصة لاستعادة بعض النفوذ في حال ضعف “حزب الله”.
خلال الحرب عّبر بعض المقربين من بري للأميركيين عن مكنوناتهم تجاه الحزب، وهو ما تسبب لدى فضحه، في العام 2011، عبر وثائق ويكيليكس بمشكلة بين الطرفين، قبل أن توقف جريدة “الأخبار” اللبنانية النشر بطلب من “حزب الله” لما لذلك من تأثير سلبي على العلاقة بين الطرفين. إثر الفضيحة، اضطر نصرالله أن يتحدث عن الوثائق في خطابه في نيسان/أبريل 2011، لتبرئة بري: “قال لي بري حينها الحجج التي سأستخدمها لإقناع الأميركيين وغيرها هي طريقتي واتركوني أنا أتدبر ذلك”.
وكانت الوثائق كشفت عما دار بين بري والسفير الأميركي في بيروت في حينها، جيفري فيلتمان، ولعل أكثر ما أزعج “حزب الله” كان ربط بري نزع سلاح الحزب بتحرير مزارع شبعا حيث نقل عنه قوله “إذا لم تتحرر، سأعارض شخصياً نزع سلاح حزب الله. لكن إذا تحررت مزارع شبعا، فمَن سيكون بحاجة إلى حزب الله؟”، في حين يطمح الحزب لإبقاء سلاحه، بحسب أدبياته، إلى حين تحرير القدس، أو حتى ظهور المهدي المنتظر.
وفق الوثائق أيضاً، أراد بري أن يمنحه الأميركي تعهداً بأن لا تقوم إسرائيل بعملية عسكرية واسعة إذا أطلق “حزب الله” النار على جنودها داخل الأراضي اللبنانية، في الفترة الفاصلة بين وقف الأعمال القتالية وانتشار اليونيفيل. أما سبب إصرار بري فهو أنه “لا يثق بحزب الله” وفق وثيقة فيلتمان.
رغم أزمة الثقة، غلّب الطرفان المصلحة المشتركة على الخلافات، واقتصرت “الأضرار” على استبعاد وزير حركة “أمل” محمد جواد خليفة الذي كشف لفيلتمان الكثير من تفاصيل العلاقة والخلافات بين نصرالله وبري. لقد أخبر خليفة فيلتمان أنّ برّي خدع “حزب الله” عندما وافق في مجلس الوزراء على نشر الجيش اللبناني في الجنوب، وأنه كان على خلاف مع نصرالله، وأن بري غضب من «خطاب النصر» الذي ألقاه نصر الله في 14 آب 2006، كما وتحدث عن رغبة رئيس مجلس النواب في كبح جماح “حزب الله”.
قاعدتان متنافرتان
كما في الغرف المغلقة للقيادتين، كذلك لدى قاعدتي الطرفين الحزبية والشعبية نفور من الآخر. وإن أوحى لقب الثنائي بشيء من الوئام والرومنسية إلا أن “القلوب مليئة بالضغائن”، والحقد بين الطرفين واضح وإن حاول الحليفان ضبطه. يكفي طرح موضوع خلافي بسيط ليعبّر مناصرون ومحازبون من الطرفين بقسوة عما تكبته قلوبهم، وليحقّر كل طرف قيادات الآخر. وهو ما تكرر على مواقع التواصل الاجتماعي في أكثر من حادثة.
هي معارك لا يستخف بها الحزبان بل ويخشيان أن تخرج عن سيطرتهما. هذا ما استدعى تدخلاً على أعلى المستويات حيث عقدت اجتماعات لضبطها، ضمت المعاون السياسي للأمين العام لـ”حزب الله” حسين الخليل ورئيس وحدة الارتباط والتنسيق في الحزب وفيق صفا ومساعدا بري علي حسن خليل وأحمد البعلبكي.
ومن السجالات والاشتباكات الكثيرة على مواقع التواصل بين جمهوري الطرفين يبرز الخلاف الذي نشب في العام 2018 عندما منعت حركة أمل رسو باخرة كهرباء في مرفأ الزهراني في وقت يعاني فيه الجنوب من انقطاع طويل للكهرباء. أدت الحادثة إلى توتّر الأجواء بين الطرفين. واستدعت معارك مواقع التواصل تدخل نصرالله، حيث خصص فقرة في “خطاب النصر” في العام نفسه ليتحدث عن هذا الخلاف، وسأل “حصل خلاف على الرأي ليش العالم بدا تفلت ع بعضا بهالطريقة؟”، وتابع “هذا يخرب بيئتنا ومجتمعنا… أدعو لضبط الأعصاب”.
لكن الاشتباكات على مواقع التواصل لم تنته، وتجددت في مناسبات مختلفة ما استدعى اجتماعات جديدة وإعلان نصرالله في العام 2020 العمل على إطلاق منصة مشتركة تهدف لإصدار المواقف المشتركة ولضبط الخلافات على مواقع التواصل، لكن المنصة لم تظهر بعد.
اشتباكات متفرقة وضحايا
على الرغم من أن العلاقة بين الطرفين هي “علاقة تكامل وجودي” كما يصفها نصرالله، غير أن الاشتباكات تعود بين فترة وأخرى وشعارات “حرب الأخوة” تصدح بين الحين وآخر في بعض القرى. وهو ما حصل بعد اشتباك مسلح وقع في آب/أغسطس 2020 بين عناصر من “حزب الله” وآخرين من “أمل” في بلدة اللوبية على خلفية تعليق صورة. يومها قتل عنصر من حركة أمل يدعى حسين خليل على يد عنصر من “حزب الله”، وجرح 6 آخرين من الطرفين. في تشييع القتيل علت الهتافات المناهضة لنصرالله، ووصلت إلى حدّ وصفه بـ”عدو الله”.
الحادثة ليست يتيمة، فلطالما وقعت في القرى والأحياء الشيعية اشتباكات بين “حزب الله” وأمل. ففي أيلول/سبتمبر 2017 وقع إشكال بين الطرفين في بلدة البيسارية جنوب لبنان إثر قيام شبان من “أمل” بإزالة صورة لأحد قتلى الحزب في سوريا. أدى الإشكال إلى سقوط 26 جريحاً، بينما وضعته القيادتان في إطار الإشكال الفردي، وهي حجة يستخدمها الطرفان لنزع الطابع السياسي عن الإشكالات والتنصل من تحمل مسؤولياتها.
تكررت الإشكالات في مناطق تعتبر آخر معاقل الحركة في الضاحية الجنوبية، كمنطقة الشياح. في شباط/فبراير 2021 ونتيجة إجراءات أمنية اتخذها “حزب الله”، وقع اشتباك مسلح بين شبان من “أمل” وآخرين من “حزب الله” وأدت إلى إصابة شاب بجروح. استدعت هذه الحادثة عقد اجتماع لقيادتي الحزبين في مكتب أمن الضاحية في مديرية المخابرات في الجيش اللبناني.
تكثر الاشتباكات، التي لا مجال لذكرها، حتى أن بعضها يحصل لأسباب سخيفة جداً كتعليق صورة لبري أكبر من صورة نصرالله مثلاً، أو تعليق صورة لحركة “أمل” على عمود تحت سلطة الحزب، والعكس بالعكس. وفي كل مرة تهرع قيادتا الثنائي إلى تطويق هذه الإشكالات.
يرى قانصو أن الصدامات بين الطرفين تحت السيطرة، “فلا يناسب حزب الله الصراع الشيعي-الشيعي، بل يؤذيه بشدة ويسبب له ارباكاً هائلاً. وهو ما برهنته الساحة العراقية، حيث تضررت القوى الموالية لإيران كثيراً من الصراع الشيعي-الشيعي والذي تسبب بتآكل شعبيتها، لكنهم في لبنان انتبهوا لهذه المسألة”.
مكافحة الفساد وعد منسيّ
أمام جمهوره، استثمر الحزب سابقاً بفساد حركة “أمل”. برّر عبر أذرع إعلامية عدم تنفيذ أمينه العام حسن نصرالله وعده بمكافحة الفساد، والذي أطلقه قبيل الانتخابات النيابية في العام 2018 بعد تململ شريحة كبيرة من مناصريه وتشكيكها بأداء نواب الحزب، بضرورة وحدة الصف وتجنب مواجهة شيعية-شيعية. بينما استمر الحزب نفسه بفساده عبر شبكاته للتهريب وتبييض الأموال وغيرها من الأمور.
يعتقد قانصو أن أكثر طرف لا يريد فتح ملف الفساد في لبنان هو “حزب الله” لأن الأمر سيطاله هو أيضاً. وتدعّم أحداث عدة اعتقاد قانصو، أكثرها وضوحاً وقع في العام 2019 عندما عارض الحزب مطالب المنتفضين الذين تظاهروا في تشرين الأول/ أكتوبر وطالبوا بمحاسبة الفاسدين ووضع نفسه في مواجهتهم.
يرى قانصو في الكلام عن محاربة الفساد شعاراً انتخابياً خدم لفترة قبل أن يتناساه الحزب:”حزب الله لم يسع يوماً إلى محاربة الفساد بل عقد صفقات مع جهات متورطة بالفساد. في لعبة الصراع السياسي استخدم الشعار لمحاربة بعض الشخصيات”.
إقرأوا أيضاً:
تململ من “شيعة الدولار”
فيما كانت “أمل” تدفع رواتب منتسبيها من خزينة الدولة عبر التوظيف في المؤسسات العامة، كان الحزب يدفع رواتب عناصره بالدولار ومصدره بحسب اعتراف الحزب من إيران. بينما تشير أنشطة رجال الأعمال التابعين للحزب أن تبييض الأموال يشكل مصدراً هاماً لتمويله. مع انهيار العملة ارتاح مقاتلو نصرالله، ونعموا ببحبوحة مالية، ما جعل عناصر “أمل” يشعرون بفارق طبقي يميزهم عن جماعة الحزب. خشي الأمليون أن يعيشوا الحرمان مجدداً، بعد أن راح الانهيار يأكل من غنائمهم فيما يستفيد عناصر الحزب من الانهيار ومن فارق العملة.
لم يقتصر التململ على أنصار “أمل”، بل طال القاعدة الجماهيرية للحزب نفسه، والتي بدأت تشتكي من أوضاعها المعيشية وذكّرت الحزب بمقومات العزة والكرامة ولامته على عدم الاكتراث بمعاناة الناس والاكتفاء بتأمين مداخيل مقاتليه وموظفيه بالدولار. هذا التململ وصل إلى آذان نصرالله ما اضطره لدعوة من يقبض بالدولار لمساعدة غيره. وحرصاً على شعبيته ولامتصاص النقمة ضده سعى الحزب لتقديم مساعدات اجتماعية لآلاف الأسر الشيعية مرفقة بحملات إعلامية تضخيمية.
وفيما تزداد رشوة الحزب للقواعد الشعبية مع اقتراب موعد الانتخابات، ترتفع أصوات محازبي “أمل” ومناصريها لتسأل عن حصتها من المساعدات. إذ يرى هؤلاء بأنهم يستحقّون الدعم بعد ما قدمته الحركة للحزب.
في هذا الإطار انتشر فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي لأحد مرافقي النائب عن حركة “أمل” علي خريس، يتوجه فيه إلى بري، ويقول: “يا رئيس بري أهل الجنوب وأهل الحركة جاعوا. تريد أن تكون حليفاً لـ”حزب الله” أحضر لنا مساعدات من إيران. أما أن تدخل معهم في حلف يضعف حركة أمل وهم يقبضون بالدولار ونحن ننظر إليهم ونشحذ اللقمة…نقول لك ولغيرك كلا، لا نريد هذا التحالف….” هذا الخطاب الذي تجرأ حامل الجنسية الألمانية على قوله يتردد على ألسنة كثر من جماهير الحركة.
إقرأوا أيضاً:
صراع على الذاكرة والتاريخ
مشكلة أخرى تبرز بين الحزب والحركة وتتمثل في محاولة الحزب طمس دورها في مقاومة إسرائيل. لا يجمع الطرفان على رواية واحدة للتاريخ، ولكلّ منهما روايته لتشتعل الخلافات عند تناول أي حدث تاريخي يرتبط بمقاومة إسرائيل. وإن كانت قيادة الحركة ترضخ لسلطة الحزب عليها، فإن مناصريها وجمهورها يعبّرون في كثير من الأحيان عن غضبهم من نسف “تاريخ مقاومتهم”.
لم يكتف حزب الله باحتكار مفهوم المقاومة وتصفية مقاومين لإنهاء أي دور قتالي لغيره في جبهة الجنوب. بل، وفي إطار دعايته، يسعى إلى إظهار أنه وحده من بدأ مقاومة إسرائيل. هذا الأمر يستفز كثيراً جمهور “أمل”، الذي يعتبر ان حركته بدأت قتال الإسرائيليين قبل تأسيس “حزب الله”.
في العام 2011 أثار عرض مسلسل “الغالبون” على قناة “المنار” غضب جمهور حركة أمل حدّ الدعوة إلى مقاطعته. فالمسلسل الذي يروي قصة انطلاقة المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي للبنان، وفق معديه، ربط المقاومة بالحرس الثوري الإيراني وهو ما رأى فيه الأمليون تغييباً لدورهم ولمقاومتهم التي انطلقت في العام 1975 أي قبل 4 سنوات من سقوط شاه إيران. كما اتهم الحزب بمحاولة سرقة “شهيد أمل” أحمد قصير من خلال إحدى شخصيات المسلسل.
هذه الحساسية والاعتراضات لم تلق آذاناً صاغية لدى قيادة “حزب الله”. في العام 2016 عرضت قناة الميادين وثائقياً بعنوان “الاجتياح: غزو لبنان” أعده الإعلامي المقرب من الحزب رفيق نصرالله. تضمن مقابلة مع نائب الأمين العام لـ”حزب الله” نعيم قاسم. أثار الفيلم غضب جمهور “أمل” واتهموا قاسم بتجاهل دور الحركة ورئيسها نبيه بري في ما يعرف بانتفاضة 6 شباط/ فبراير 1984 والتي أسقطت اتفاقاً عقده الرئيس اللبناني أمين الجميل مع الاحتلال الإسرائيلي.
وتبادل جمهورا “أمل” و”حزب الله” الاتهامات والشتائم مستخدمين وسم “استهلاكية الميادين”.
تجنباً للصراع وخنقاً للطائفة
على الرغم من كل هذه الخلافات، يبدو أنّ المصلحة المشتركة تحتّم على الثنائي الشيعي التمسك جيداً بتحالفهما. فالعلاقة كما وصفها نصرالله هي علاقة “تكامل وجودي”. أما البديل عن التحالف فهو الاقتتال الذي يضعف الطرفين.
يعتبر قانصو أن الهدف من الاتفاق بين “حزب الله” وحركة “أمل” هو تجنّب الصراع الذي يدرك الطرفان كلفته الباهظة، في مقابل المنافع التي يؤمنها التفاهم. ووفق الباحث، يؤدي تحالف الثنائي الشيعي دوراً بالغ الأهمية وهو إقفال الطائفة على نفسها “بحيث يكاد يستحيل حالياً إيجاد منافسة أو حراك أو نوع جديد من التضامن داخلها. لقد أحكم الحزبان الخناق على الطائفة الشيعية، وهذا الاستحكام يضعف إمكانية صعود خطاب جديد”.
بحسب تقييم الباحث، نجحت لعبة تقاسم النفوذ بين الطرفين، “بالمعنى الاستراتيجي يعتبر حزب الله المستفيد الأكبر من هذا التحالف ومهندسه والأقدر على إدارة اللعبة. يتنازل عن تفاصيل مقابل وضع يده على الأكثر ضرورة. بينما يؤمن التحالف للحركة التي أصيبت بالهزالة وتحولت إلى شبكة مصالح أساسها الانتفاع من الدولة تقاسماً للمواقع داخلها. مناطق نفوذ حركة “أمل” هي رئاسة المجلس النيابي وكوتا من النواب ونفوذ لبري داخل الدولة مقابل تنازلات تقدمها، كأن يكون لـ”حزب الله” مساحة النشاط الأمني الواسع الذي يخالف سيادة الدولة في الاعتبارات القانونية والدستورية”.
إقرأوا أيضاً: