ازداد معدل الجريمة في سوريا خلال السنوات الماضية، لا يكاد يمرّ يومٌ على السوريين إلّا ويسمعون عن جريمة جديدة، وحكاية مأساوية جديدة، حتى بات ذلك من الأحداث الروتينية في حياتهم. وأبرز ضحايا الجرائم، النساء اللواتي يقضين لأسباب مختلفة، أبرزها ذاك الشعار المقيت،”غسل العار أو الدفاع عن الشرف”. آخر تلك المآسي كانت جريمة قتل أمل (36 سنة)، وهي أم لفتى في السابعة عشرة، ومنفصلة عن زوجها، في مدينة السويداء في الجنوب السوري. اللافت في هذه الجريمة أن فاعليها هما والدة الضحية وخالها، اللذان حاولا إخفاء الجثة لاحقاً. عادةّ ما يرتكب جرائم من هذا النوع ذكور العائلة الغاضبون، الآباء أو الأشقاء أو حتى الأعمام… لكنّ أمل قتلتها أمّها!
وكان سكان الحي لاحظوا محاولة القاتلين إخفاء الجثة، فأبلغوا الجهات الأمنية التي ألقت القبض على أم الضحية وخالها لتقديمهما إلى ا،لقضاء فيما أظهرت المعلومات الأولية اعتراف الأم وشقيقها بقتل أمل بدافع “الشرف”.
جريمة “شرف” ليثبت العكس
على رغم صدور قرار بإلغاء الحكم المخفف لما يسمّى “جرائم الشرف” في سوريا في آذار/ مارس المنصرم، ما زالت جرائم قتل النساء تقع بشكل متواتر. ولا يخفى على أحد أن عدداً من القتلة يتذرّعون بأفكار اجتماعية وثقافية تبرر الفعل المشين، كـ”الشرف” و”العرض” و”غسل العار”، طمعاً في تخفيف الحكم. فهذه الذرائع مهما بدت همجية وغير مقنعة عموماً، إلا أنها تساهم بشكل أو آخر بحماية الجناة، وإن لم تحمهم قانونياً، فهي تقدم لهم امتيازات مجتمعية، تتضمن تقديراً لعملهم واعتباره فعلاً بطولياً. مع العلم أن دافع القتل الحقيقي قد يكون في مكان آخر، كالخلافات العائلية على الإرث أو الانتقام، لكن يكفي أن يردد القاتل الكلمة السحرية للنجاة إذ يقول “جريمة شرف”.
لقد نجا كثيرون من جرائمهم بذريعة “الشرف”، حيث يمكن أن تنتهي جرائم بمصالحة أو بغطاء اجتماعي إن لم يكن قانونياً. قد يبدو ذلك ساذجاً، لكن هذا ما حدث على مدار سنوات، إذ مُنحت فرص نجاةٍ لقتلة وسفاحين ارتكبوا أفظع الجرائم بحق زوجاتهم وبناتهم وأخواتهم.
غدت جرائم قتل النساء جزءاً من صيرورة حياتهن في سوريا، وقد تقع في أيّ لحظة حتى لو بعد 36 عاماً كما حصل مع أمل، وقد تُقتل أيّ امرأة في أيّ عمر بالذريعة ذاتها.
التهديد بالقتل لا يستثني أياً من نساء المجتمعات المحافظة السورية، وإن تزوجن وأنجبن أو صنعن حياةً وأفكاراً، سيلاحقهنّ التهديد ولن يحميهنّ أحد. لكن يمكن القول إن الفتيات الأصغر سناً هنّ الأكثر عرضة لهذا النوع من الجرائم، لأنهنّ أكثر الواقعات تحت الرقابة المجتمعية. قد يتعلق ذلك ببداية النشاط الجنسي واكتماله، فمن لم يختبرن الجنس أو ما زلن صغيرات يجب أن يبقين على مسافة منه بالتهديد والوعيد وضمن الشروط المجتمعية المنصوص عليها، عكس النساء الأكبر سنّاً، المتزوجات واللواتي اختبرن الجنس أو النساء غير المتزوجات. يعتقد المجتمع أنهن كلما كبرن بات الخطر الجنسي المحتمل أقل، وهو ما يعتبر أمراً غريباً. فلماذا امرأة غير متزوجة في الأربعين قد لا تقوم بعلاقة جنسية خارج الزواج؟ ربما يظن المجتمع أنها أدركت درس “الشرف” جيداً، أو لأنه يربط الجنس بصغر السن أو لأنّه ساذج ببساطة.
علّق البعض على محاولة إخفاء جثة أمل، بأنها لو كانت “جريمة شرف” لما قام القاتلان بإخفاء الجثة ولما خافا من فعلتهما. تلك التعليقات على كثرتها دليل على قوّة الذريعة في وجه فداحة الجريمة، وكأن جرائم قتل النساء تستدعي عرض جثثهن في الساحات العامة والطرق، تباهياً بهذا الإنجاز العظيم. وبذلك سيحصل القاتل بلا شك على تأييد مجتمعي على فعلته، ولن يشعر بأي ذنب، بل بنشوة الانتصار. أما في حال لم تكن هذه الجريمة تستهدف غسل عار سببته امرأة وفق مفاهيم المجتمع، عندها فقط يصبح إخفاء الجثة دليلاً على إدانة القاتل!
لماذا استخدام أداة وحشية؟
تُظهر علاقة الأم بابنتها طريقة تعامل الأم مع نفسها وكيف عاملها الآخرون على الأقل، فالابنة صورة مصغّرة عن أمها، ترى فيها ماضيها وأحلامها وتسعى من خلالها إلى تحقيق مستقبل أفضل لها، ووالدة أمل، تبوح عبر الجريمة التي ارتكبتها بحكايتها وحكاية كثيرات، بدءاً من طريقة القتل، ضربات على الرأس باستخدام “شاكوش”. القتل بالمطرقة قد يعني أن أمل لم تمت من الضربة الأولى، وكان بإمكان الأم إيقاف موت ابنتها وإنقاذها، لكنها لم تفعل حتى أتمّت أداة القتل الوحشية مهمّتها، وتأكد المجرمان من موت أمل.
نرى علاقات من هذا النوع اليوم في مجتمعاتنا والتي قد لا تنتهي بالضرورة بالقتل، إنما تستخدم فيها الأمهات جميع الوسائل لتضييق الخناق على الفتيات والنساء. تعاني فتيات من علاقات مشوهة مع أمهاتهن، اللواتي يتحكمن بمصائرهن ويحرصن على إبقائهن في المساحة الذكورية للمجتمع من دون منحهن فرصة للنضوج والتعلم وعيش تجاربهن الخاصة. نستذكر هنا الفتاة التي قام أهلها بسجنها لخمس سنوات في منطقة برزة في العاصمة دمشق، بسبب عدم قدرتها على الإنجاب وزواجها لمرتين وطلاقها، ألم يكن باستطاعة الأمّ إخبار الشرطة عن ابنتها المحبوسة؟ وإن خشيت من رد فعل زوجها كان يمكن أن تحرص الشرطة على إخفاء هويتها، لكنها لم تفعل، وبقيت ابنتها محبوسة في غرفة لخمس سنوات كاملة، حتى فتحت الشرطة عليها الباب يوماً، أليس هذا قتلاً أيضاً؟
وجود الرجل المؤيد والذي شجع أخته بطريقة ما على الجريمة وساعدها على محاولة إخفاء جثة أمل، يحيلنا إلى أن هذه الجريمة كأيّ جريمة قتل امرأة لا تكتمل من دون وجود رجل، فأحد عناصر التخلص من “العار” هو الرجل الذي ينفذ الأحكام ويستعيد ما أخذته المرأة بحسب معتقداته، لكن السؤال الذي يطرح نفسه، هل كانت الأم لتقتل ابنتها لولا وجود الخال؟
وقفة احتجاجية
ماتت أمل، كآلاف النساء قبلها، ماتت بوحشية وكادت جثتها تُخفى، ولا يعلم أحد إن كان العقاب سيطاول القاتلين فما زال قانون إلغاء الحكم المخفف لجرائم “الشرف”، يتضمن ثغرات قد تساعد القاتل على النجاة. المطلوب قبل أي شيء إلغاء أي مواد ترتبط بأي عذر مخفف، وقد تساعد المجرمين على النجاة بفعلتهم، واستبدال الدافع الشريف، كالشرف والخوف من الفضيحة، بالدافع الشائن لجعل القانون أكثر فاعلية، ومنع القتلة من التملص من العقاب، بخاصة أن جرائم كهذه باتت تتكرر في سوريا. وقد سبقت جريمة قتل أمل في المدينة نفسها، جريمة بحق أرملة أربعينية وأم لثلاثة أطفال، قتلها شقيقها، وجريمة أخرى وقعت في شهر أيار/ مايو 2019، سقطت نتيجتها سيدة ثلاثينية بعد إطلاق النار عليها، وامتنع الأقارب عن التصريح بأيّ معلومة معتبرين الأمر “شأناً عائلياً” لا يجب التدخل به!
من جهة أخرى، نظّم نشطاء من المجتمع المدني في مدينة السويداء وقفة احتجاجية صامتة بعنوان “دمك برقبتنا”، يوم 19 تشرين الثاني/ نوفمبر أمام القصر العدلي في مدينة السويداء. الوقفة كانت سلمية ومستقلة، تنديداً بجريمة قتل أمل وانتشر على وسائل التواصل الاجتماعي شعار “لا شرف في الجريمة”، وشعار “دمك برقبتنا”.
إحدى منظِمات للوقفة الدكتورة لجين حمزة تقول لـ”درج”: “إننا بوقفتنا نوجّه خطاباً حول جريمة قتل أمل، لكنها في الحقيقة احتجاج على كل جرائم قتل النساء التي تحصل في السويداء وفي كلّ مكان، فمنذ بداية العام قتلت 9 نساء في مدينة السويداء، سُجلت سبعة منها بدافع الشرف”، تتابع حمزة: “حقّ الحياة للمرأة غير محفوظ في مجتمعنا، الحقّ الذي أقره الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، حق منتهك ومستباح لدينا، فأيّ أحد يستطيع قتل ابنته أو أخته متذرعاً “جريمة الشرف”.
أما عن مطالب الوقفة الاحتجاجية فتوضح حمزة أن “المطلب الأول هو تعديل القانون، فعلى رغم إلغاء العذر المخفف لجرائم الشرف، بقي القانون 192، الذي ينصّ على تخفيف العقوبة في حال ارتكبت بدافع شريف وهناك الكثير من الأفعال تعتبر دوافع شريفة”. تتابع حمزة: “نحن نطالب بوقف قتل النساء، لا سيما بحسب سلوكهن أو شكل حياتهن، هذه حرية شخصية. مطلبنا إلغاء إدراج جرائم الشرف ضمن الدافع الشريف في القانون 192، وعلى عكس الكثير من الدول التي تعتبر قتل أحد الأقارب دافعاً مشيناً، يعتبر في سوريا دافعاً شريفاً”.
أمل هي امرأة أخرى تُقتل تحت ذريعة “الشرف” الذي شكل طوال سنوات شماعة لجرائم قتل كثيرة، ولطالما نجا القتلة، واليوم وعلى رغم صدور قرار في سوريا بإلغاء العذر المخفف لهذه جرائم إلّا أن الثغرات تمنح الجناة في كلّ مرة طريقة ما للنجاة بفعلتهم.
التحقيق تم بدعم من مؤسسة National Endowment for Democracy NED
إقرأوا أيضاً: