حين تكونين بنتاً صغيرة يحملون إليك دمية هي طفل بلاستيكي نائم بوداعة داخل عربته، أحياناً يطلقون عليه اسماً، يتوقعون منك أن تحبيه وأن تصحبيه معك أينما تحركتِ في أرجاء المنزل، وحتى لو رغبت باصطحابه خارج المنزل، لن يتذمروا أو يقولوا لك “لا”، مثلما يقولون حين ترغبين باصطحاب لعبة أخرى، لكن حين ترمينه جانباً لأجل سيارة بجهاز تحكم أو مسدس مائي أو أيٍّ كان، سيذهلون ويسألونكِ “هكذا ترمين ابنكِ؟”.
شيئاً فشيئاً أصبحت هذه البداهة العفوية لإسباغ ما لا يقتصر على مفهوم الأمومة، للإناث في الطفولة المبكرة، إنما للتطبيع مع حقيبة التضحية الأمومية الكاملة بما يفترض أن تحتويه من استعداد فطري للتسليم بما هو مقدس، واعتكاف عن الرغبات الذاتية لتحقيق هدف الجماعة الأول في التكاثر المعتمد كلياً على تشريع نساء العالم أرحامهن للهدف السامي، والأهم من ذلك، أي التأهب لإنكار الذات والذوبان التام في الآخر، الآخر الذي هو جزء منك لكنه ينمو خارجك، ولن يستطيع دون انتحارك لأجله أن يستمر.
بالطبع، لإقناع النساء بكل ذلك، لا بد من وضع القصة ضمن سياق أسطوري، وربما من المعروف حتى للمطلعين قليلاً أن هناك أدلة تاريخية كثيرة تشير إلى أن الألوهية كانت صفة أنثوية، حتى انتزعها الرجال قبل نحو ألفي عام من الميلاد، وبموازاة ذلك، تم تهشيم مكانة المرأة وتذليلها بتطور ذكوري أشبه ما يكون بالانتقام من المكانة التي حظيت بها المرأة سابقاً، فبالتدريج سلبت منها حقوق الملكية والعمل ونسب الأبناء والخروج إلى العلن، ليستبدل كل هذا بواجب وحيد هو إنجاب الأبناء.

في كتابها “يوم كان الرب أنثى”، تقول الكاتبة مارلين ستون: “كلما فكرت في سلطة الأسطورة تعاظمت صعوبة ألا نتساءل عن التأثيرات الكثيرة التي تركتها تلك الأساطير المصاحبة للأديان التي تعبد الآلهة الذكور على ما يعنيه بالنسبة إلي أن أولد امرأة، إنها تعني أنني حواء أخرى”، فالتركة الوحيدة التي بقيت من عصور عبادة الأنثى “الربة المزارعة المحاربة واهبة الحياة” هي قداسة فعل الولادة باعتباره الفعل الوحيد الذي لا يستطيع الرجل القيام به، وبهذا يتاح للأنثى التي تراجعت ألوهياً وقدسياً إلى الوراء كثيراً، أن تستعمل بطاقة القداسة وتستحم بهالة النور في حالة واحدة فقط، هي حين تصبح أماً، حين تثبت للجميع أنها منحت جسدها وروحها ووقتها و”نصف عقلها” الذي يصر كثر من الرجال في مجتمعنا على أنه يزحف خارجها أثناء الولادة، بمعنى أنها تفقده لهيامها برضيعها الصغير واستحواذه على حواسها، حين تقدم على هذا كله، تحصل على “كتالوغ” مقتضب لصلاحيتها في حياتها القادمة، وبالمقابل كثير من الشعر والأغاني، والدموع في الأفلام، والمبررات والتساهلات العاطفية من قبل المحيطين، لكن الإشكالية اليوم هي، ماذا لو لم نرغب أن نكون قديسات؟ هل تسحب منا الخصائص البيولوجية للإنجاب؟
إقرأوا أيضاً:
على ما يبدو أنه من المستحيل اليوم الاكتفاء بالمرأة بحد ذاتها كفرد كامل حر الإرادة مكتفي الاحتياجات قادر على الاعتناء بنفسه وإشباع رغباته العاطفية، وأكثر من ذلك، الاكتفاء بالدور البيولوجي الإنجابي والعلاقة الصحية مع الأطفال والشريك، يبدو للمجتمع أن التنشئة العقلانية للأبناء وإبقاء الأم نفسها على مسافة واعية منهم للمحافظة على استقلاليتها وتمكنها من الاستمرار إنسانياً ومهنياً وفكرياً ليس امراً تجيده النساء أو تبرع فيه، من غير المقبول أن تبقى المرأة الأم قادرة على الموازنة بين عملها وأطفالها، فالمجتمع يتوقع منها الانهيار وفقدان التوازن وفي النهاية الاستكانة إلى الواجب الأمومي وحده، يتوقع منها أن ترزح تحت عبء العاطفة معظم الأحيان فتفقد الحس السليم. أما اللواتي لا يمتلكن هذه “الغريزة” فإن الكأس المقدسة تسقط من أيديهن، ويرتحلن إلى الصفوف الخلفية، أو يتحولن إلى أعداء، كما يحصل اليوم مع الناشطات النسويات في كل مكان في العالم.
تُتَّهم الموجة الثالثة للحركة النسوية التي أخذت منحى تحررياً إلى جانب مناصرة النساء حقوقياً، بأنها سبب رئيسي في تفتت الأسر وتأخر سن الزواج وعزوف النساء عن الإنجاب، لأنه من الغريب والمستهجن بالنسبة إلى مجتمعات القرن العشرين أن تطالب النساء بمنحهن فرصاً متساوية في العمل والتطور المهني والاجتماعي، أن يقدمن طعناً بالأدوار الجندرية التي خصصها لهن المجتمع، أن تطالبن بإزاحة العراقيل التي توضع أمام تقدمهن الشخصي وتنمية مقدراتهن واختبار إمكاناتهن القصوى بحجة أنه يجب ادخار هذه القوى لأداء مهمة الأمومة والتفرغ لها، بخاصة أن معظم المجتمعات تعتبر أنها تمنح النساء مكانة رفيعة ومكرمة تتمثل في إبعادهن من ضوضاء تحقيق الذات والاستعاضة عن ذلك بإنجاب ذوات أخرى تمتص كامل طاقة الأم وإمكاناتها.
هناك مفارقة تغيب عن الأذهان المعارضة لحاجة المرأة إلى تحقيق ذاتها ورغباتها أولاً قبل اتخاذ قرار الأمومة والإنجاب، وهي أن المجتمعات اليوم تغص بالعلاقات السامة بين الأبناء والأمهات. أينما نظرنا نجد أمهات شابات نادمات متعثرات بعقد نقصهن كل يوم، وتلام الحركة النسوية على نظرات الحسرة التي تتجه نحو السيدات اللواتي أكملن تعليمهن وانخرطن في سوق العمل والحقوق والسياسة! مع أن النضال النسوي الأساسي ركز على أن الأمومة لم تمنع كثيرات من النجاح في مهمات تثبت كل يوم أن حجب الفرص الممنهج عن النساء وإقناعهن بضيق آفاقهن العقلية وتطور العقل الذكوري على النسوي، هو محض خدعة تم تكرارها حتى صدقناها نحن أنفسنا.

إن هذه التركة الذكورية لا تمر مرور الكرام في ما يخص الآثار السيكولوجية للعلاقات الأسرية، فكثيراً ما تكون الاحتياجات غير المحققة نفسياً لدى الأمهات بركاناً ينفجر في وجه الأبناء، كثيراً جداً ما تكون الأمومة ديناً ينتظر رده من الأبناء بأسرع ما يمكن، وقد تتحول هذه المطالبة إلى اهتياج ملح يطالب باسترداد ما سلب منه من وقت وعاطفة ومستحقات. لهذا يغدو التقديس وحده هو الحل التعويضي للأمهات، فتغدو العلاقة في حالاتها القصوى استعباداً، تطور الأمهات الغاضبات شخصيات انتقادية للأبناء لا تكف عن التطلب وتوجيه الملاحظات، إنهن ينتظرن تجلي المعجزات التي قدمنها للبشرية. وعلى نقيض ذلك، كثيراً ما نجد أمهات يغرقن في متواليات لا نهائية من الذنب، لأن الأمومة فعل مستمر، وبالتالي مهما فعلن، لا يستطعن تقديم ما هو كافٍ لهذه المهمة السماوية التي يجب أن تكن جديرات بها، فتنعكس هذه العذابات الخفية على شكل خوف وهلع واضطراب دائم يحيط بالأبناء أثناء رحلة حياتهم.
تنبثق عن كل هذا محددات كثيرة تتعلق بفعل الأمومة، جميعها توغل عميقاً في التشريح الأنثروبولوجي للنساء الأمهات، ولا تكتفي بكونها المرأة المتفرغة المضحية التي تمنح وقتها وعاطفتها الكاملة من دون مقابل، بل إنها شخصياً يجب أن تتمتع بصفات ملائكية تؤهلها لهذه العملية، بهذا يتمادى المجتمع فينزع أحقية الأمومة عن النساء في مهن معينة، بخاصة ما يقع ضمن مناطق المحرمات والإشكاليات الأخلاقية. أيضاً تشكل أي نقطة سوداء في تاريخ الفتاة تهديداً لمستقبلها كأم محتملة، وتشكل وصمة العار التي قد تلحق بالأبناء بسبب أمهاتهم، أحد أكبر التهديدات النفسية والمجتمعية التي يصعب التعافي منها، إننا حتى نواجه صعوبة كبيرة في تقبل أن تكون لأمهاتنا رغبات مستقلة، كم مرة نسمع من أمهاتنا أنهن عدن إلى طهو أطباق معينة بطريقة خاصة بعدما غادرنا المنازل؟ نحن لا نتقبل أن يكون لأمهاتنا ذوق مختلف في الطعام، فكيف نتقبل غداً رغباتهن الجنسية الخاصة؟ كم تكون الصدمة كبيرة على الأبناء حين تقرر الأم الزواج مرة ثانية إذا انفصلت عن الأب؟ نعم لقد تكيفت المجتمعات واسترخت داخل مفهوم أن تكون المرأة هي الملاك الذي يمنح كل شيء، بل وأصبح البعض يعتبر حقيقة علمية موثقة، أن النساء يمتلكن قدراً من المازوشية يجعلهن يرغبن بالمعاناة وتحمل الآلام لأجل الظفر بمرتبة الأمومة، وطبعاً مقابل ذلك، تعاني النساء اللواتي لا يتمكن من الإنجاب من النبذ والتهميش والدونية.
ولأجل هذا أيضاً تهيئ الأمهات بناتهن ليكنّ أمهات قبل كل شيء، لكن مرة ثانية، ماذا لو أردنا شيئاً مغايراً؟
ماذا لو تخلينا عن مرتبة الألوهية لأجل حياة عادية؟
هل ستغلقون أرحامنا؟
إقرأوا أيضاً: