في خطوة لافتة في الولايات المتحدة الأميركية، لكن قد لا تكون ذا فعالية، عُيّنت نائبة الرئيس الأميركي كامالا هاريس رئيسةً لمكتب مكافحة عنف الأسلحة النارية في البلاد، التي تعاني من انتشار هائل للأسلحة الفردية بين مواطنيها، وارتفاع نسبة الجرائم المرتكبة بهذه الأسلحة التي يشرّع القانون حملها ويزكّيها الدستور الأميركي الذي ينص في تعديله الثاني على أن “الميليشيا المنظمة تنظيماً جيداً تعدّ ضرورية لضمان أمن الدولة الحرّة، فلا يجوز تقويض حق الشعب في حمل السلاح والاحتفاظ به”.
المكتب حديث التأسيس، وقد أُعلن عن إنشائه في بيان أصدرته هاريس، قالت فيه إن “الحرية الحقيقية غير ممكنة ما لم يتمتع الناس بالأمان”. وأضافت: “لا نملك أرواحاً نضحّي بها في بلد يمزّقه عنف الأسلحة النارية”.
يفتقر هذا المكتب عملياً، الى أي سلطة تنفيذية قادرة على الحدّ من انتشار الأسلحة وتقييد استخدامها، وهذه السلطة منوطة في الولايات المتحدة، بما أنها تتعلق بالدستور، بالكونغرس الذي يسيطر عليه الجمهوريون المناهضون لفرض أي قواعد على الأسلحة النارية التي يعتبرونها جزءاً من الهوية الأميركية وحقّاً يكفله الدستور.
خلال فترة تفشّي فيروس كورونا، تجمّع مئات من أنصار الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب أمام مبنى “الكابيتول” في ولاية ميشيغن، مدجّجين بأشكال وألوان من الأسلحة الفردية. هذا الاستعراض جاء للمطالبة بإيقاف إجراءات الإقفال والتباعد الاجتماعي التي فرضتها الحكومة الأميركية لمنع تفشّي الوباء. مثّل ذلك تعبيراً صريحاً عن قدرة السلاح على الحضور في قضايا داخلية، عبر استقواء مجموعات، تتبع في غالبيتها للحزب الجمهوري، بالتعديل الثاني لفرض إيقاعها ورأيها. ويخشى كثيرون في هذا السياق، من انفلات الأمر إلى حرب أهلية، وهي هاجس لا يغيب عن الأميركيين بسبب الانتشار الهائل للأسلحة، الذي يؤدي سنوياً إلى مقتل المئات. ففي العام 2015 وحده، سُجلت 372 حالة إطلاق نار راح ضحيتها 475 قتيلاً.
وبحسب كتاب كارولاين لايت Stand Your Ground: A History of America’s Love Affair with Lethal Self-Defense، فإن الأميركيين يشكّلون خمسة في المئة من سكان العالم، لكنهم يستحوذون على أربعين إلى خمسين في المئة من الأسلحة في العالم. كما تشير دراسات أُجريت خلال فترة إصدار الكتاب( 2017)، إلى أنّ عدد الأسلحة في أميركا يتجاوز عدد سكان أميركا. وتقول لايت إن “هناك أسلحة أكثر من الأميركيين على الأراضي الأميركية!”.
تتوغل لايت في جذور ثقافة تمجيد السلاح في المجتمع الأميركي، وتتحدث عن مناطق يقوم سكانها بكتابة عبارة – we don’t call 911، ومعناها أن صاحب البيت، في حال حدوث أي أمر في محيط بيته، لا يقوم بالاتصال بالنجدة أو الشرطة، بل يتصرف بنفسه، على قاعدة DO IT YOURSELF، أي “إفعلها بنفسك”، وهي ترجمة لمفهوم الأمن الذاتي، وبالتالي فإن أي خرق لحرمة البيوت ،حتى لو كان الأمر عن طريق الخطأ، يجابَه بإطلاق النار.
حدث هذا الأمر مع مراهق أميركي أسود قبل أشهر، إذ قرع عن طريق الخطأ باب رجل أميركي ثمانيني أبيض، فلم يكن من صاحب البيت إلا أن أطلق النار عليه مباشرة، ولحسن الحظ نجا الشاب بعد نقله إلى المستشفى. في بعض الولايات، يتم تحذير الوافدين الجدد من عدم “تدوير” (تغيير مسارها) سياراتهم في مداخل البيوت، لأن بعض سكّانها المسلحين قد يلجأون من دون سابق إنذار إلى إطلاق النار!
تشير لايت الى أن أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001 كان لها وقع كبير على إذكاء المنطق العسكري لدى الكثير من الأميركيين. أعاد ذلك الهجوم الإرهابي الرهيب منطق أمن الوطن الى الواجهة، “كما لو أن التهديد يعود قروناً الى الوراء حينما كانت النساء تبقين ناراً مشتعلة في البيوت فيما يحارب الرجال البيض الحيوانات البرية والسكان الأصليين وأي تهديد للأمة الشابة” على ما تقول لايت في كتابها.
في ولاية فرجينيا، وبعد تكرار حوادث إطلاق النار في المدارس، تعمل مجموعة من المقاطعات على تدعيم أمن المدارس بآلات لكشف المعادن والأسلحة. وفي إحدى المدارس، دخل طفل يبلغ ست سنوات بمسدس والدته وأطلق النار على معلّمته!
وفي حزيران/ يونيو 2015، قتل رجل أبيض أعلن أنه ينتمي الى “الكونفدرالية” (التي تُعنى بها الولايات في أقصى الجنوب التي اجتمعت في العام 1861 على تأييد العبودية. ولا يزال لها اتباع حتى اليوم، وعلمها كان لا يزال يُرفع على أبنية في الولايات المتحدة)، تسعة أشخاص في كنيسة تعود الى الأميركيين من أصل أفريقي. وبعد عشرة أيام من وقوع المجزرة، أزالت الناشطة والسينمائية الأميركية بريتاني نيوسوم، علم الفدرالية عن مبنى حكومي رسمي مقابل لمبنى الكابيتول في ساوث كارولاينا. وأصرّت أن هذا العلم “يمثّل الخوف” وأنه “رمز للترهيب”. بعد اعتقالها ومن ثم إطلاق سراحها، أزيل العلم رسمياً. وبحسب لايت في كتابها، فإن هذا العلم يرمز الى “فوقية البيض في أميركا واستعلائهم”، وأن “إزالته تبقى رمزية”، في حين تبقى “المحظورات المستعصية” أو كما تسميها “التابوهات والصمت التاريخي اللذين يزودان هذا العلم وأصحابه بالقوة”، حاضرة بشكل طاغ. وتضيف لايت: “رغم أننا كأميركيين ندفع الضرائب لتمويل الأمن القومي ومحاربة الإرهاب في الخارج وتشديد الحماية على الحدود وتسليح الشرطة بأحدث المعدات العسكرية، لا نزال ننشد آخر تكنولوجيا الحماية المنزلية وأسلحة الدفاع الشخصية”.
هذه المحظورات وهذه الحاجة إلى التسلّح الفردي، رغم القوة العظمى التي تمتلكها أميركا على صعيد جيشها وترسانتها العسكرية، هي التي تجعل من تعيين هاريس رئيسة لمكتب مكافحة عنف الأسلحة النارية، غير ذي جدوى، وتزيد من صعوبة المسّ بالتعديل الدستوري الثاني في الكونغرس، ليعيش الأميركيون في ظل أقوى دولة عسكرية قلقاً دائماً على أمنهم الذاتي.