ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

أمّهات المرجة: وجوه تبحث عن المفقودين في ذاكرة دمشق

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

في الأيام التي تلت التحرير، تغيّرت المطالب، ولم يعد النداء “أفرجوا عن المعتقلين” كافياً، بل تحوّل إلى صرخةٍ تطالب بكشف الحقيقة. عقودٌ من القمع والدماء تركت وراءها جروحاً لا تندمل، ووطناً يبحث عن ذاكرته.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

وقفتُ أمام النصب التذكاري في ساحة المرجة، وسط دمشق، حيث تغطي جدرانه صور المفقودين والمختفين قسراً. تصطفّ الصور المعلّقة على الجدران كوشومٍ على ذاكرة المدينة. بين زحام الصور والوجوه المعلّقة على الورق، أخذت أبحث بعيني عن ملامح صديق قديم اختفى قبل ثلاثة عشر عاماً، يوم كان متوجهاً إلى كلية الإعلام ولم يعد. استمررت في التحديق، علّني أجد خيط أمل أو أثراً يروي شيئاً عنه، لكن لم أجد سوى العجز يثقل نظراتي وذاكرة المدينة.

هممت بالرحيل، بينما كنت أبتعد من الجدار المليء بالذكريات والآلام، اقتربت مني سيدة خمسينية تحمل صورة لشاب في العشرين من عمره وضعتها في إطار خشبي متهالك. نظرت إليَّ بعينين متعبتين وهمست: “والله أنك بتشبه ابني”.

وقفت أمامها صامتاً كتمثال. كانت السيدة واحدة من مئات الأمهات اللواتي تجمّعن في الساحة، تبحث عن إجابة عن مصير ابنها. دموعها لم تتوقف وهي تردد بصوت منكسر: “أخذوا أولادنا أحياءً، فأعيدوهم لنا أحياء. لن أعلق صورة ابني هنا، سأبقيها في قلبي”. كان في ملامحها ما يختصر سنواتٍ من القهر، في صوتها صدًى لكل أمٍّ سورية تقف على حافة الأمل واليأس.

حولنا، كانت الساحة تعجّ بمئات العائلات. جاؤوا إلى دمشق يبحثون عن مفقوديهم، بعدما فرَّ ابن حافظ وانتهى عصر عائلة الأسد. جدران النصب التذكاري كانت شاهدةً صامتة على الوجع. صورٌ ومعلومات للتواصل، ونداءات تشبه صرخات الغريق. لا شيء في تلك الساحة يُروى سوى قصص المفقودين الذين طواهم السجن أو القبر أو النسيان.

مآسي السجون السوريّة

تذكرت حينها حديثاً بُثّ قبل أسابيع لفضل عبد الغني، مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، وهو يبكي على الهواء: “كل المختفين قسرياً الذين لم يُعثر عليهم حتى الآن، قتلهم النظام السوري في السجون”. لم يقدم النظام تفاصيل لعائلاتهم عن أماكن الجثث، فقط الحقيقة المرة: الموت كان مصيرهم.

في 8 كانون الأول/ ديسمبر الماضي، خرجت قوات النظام من معاقلها مثل أشباحٍ خاوية. انتهت ستة عقود من حكم حزب البعث، وأكثر من نصف قرن من استبداد عائلة الأسد، وسقط النظام. لكن الحرية جاءت متأخرةً جداً لمن كانوا ينتظرونها في الزنازين.

في الأيام التي تلت التحرير، تغيّرت المطالب، ولم يعد النداء “أفرجوا عن المعتقلين” كافياً، بل تحوّل إلى صرخةٍ تطالب بكشف الحقيقة. عقودٌ من القمع والدماء تركت وراءها جروحاً لا تندمل، ووطناً يبحث عن ذاكرته.

أخبرتني السيدة أن ابنها كان في سجن صيدنايا. ذلك المكان الذي لا يزال رمزاً للرعب. أُنشئ عام 1987، وأصبح موقعاً للإعدامات الجماعية والتعذيب المنهجي. وفق الشهادات، كان المعتقلون يموتون هناك مراراً قبل أن يُزهق آخر أنفاسهم. وصفت لي زيارتها الوحيدة للسجن عام 2018، حين أكدت وجود ابنها هناك.

بعد 61 عاماً من حكم البعث و53 عاماً من سيطرة عائلة الأسد، انهار النظام أخيراً، ولكن ليس قبل أن يترك وراءه إرثاً من الألم والدماء. الوثائق التي كُشفت عقب تحرير البلاد فضحت ممارسات قمعية ممنهجة، إذ احتُجز 136,614 شخصاً منذ عام 2011، 96,321 منهم اختفوا قسراً. الأرقام كانت جافةً كأوراق الخريف، لكنها تحمل أرواحاً، قصصاً، وأسماء.

جرح لا يندمل

زرت خلال الأيام الماضية عشر منشآت اعتقال، سبع مقابر جماعية، والمحكمة العسكرية. رأيت بأم عيني الوثائق التي كشفت عن الجرائم. كل الأهوال التي تم الحديث عنها، كانت أقل مما وجدناه.

سجون مثل فرع فلسطين، المعروف بسمعته السوداء، وفرع المخابرات العسكرية 291، وسجن تدمر، كلها أماكن تفيض بالموت. في فرع فلسطين، تعلقت أرواح المعتقلين في زنازين ضيقة ومظلمة. هناك، صُعقوا بالكهرباء، وجُوّعوا حتى نطقوا بما لم يفعلوه. أما في تدمر، ذلك السجن المنزوي في الصحراء، فكان المعتقلون يُعدمون ميدانياً، وسط صرخاتٍ لا يسمعها سوى الرمال.

التفتت السيدة نحو شابٍ آخر كان يقف بالقرب مني. كررت جملتها المعتادة: “والله أنك بتشبه ابني”. لم يكن لديها سوى هذا الأمل الباهت لتتمسك به. 

زارت السيدة ابنها في سجن صيدنايا عام 2018 وتأكدت من وجوده هناك، لم تستطع العثور عليه بعد ذلك. “هل يمكنك أن تدلني كيف أجد ابني؟” سألتني السيدة للمرة الأخيرة بصوت مشحون بالرجاء قبل أن تتركني وتتجه الى شاب آخر. بقيت صامتاً فالكلمات خانتني، وسبقَتْني دموعي لتُعبر عن عجزٍ لم أستطع إخفاءه… فيما راحت مجموعة من الشباب تهتف بالقرب مني “زينوا المرجة… والمرجة لينا، شامنا فرجة… بشبابنا مزينا”.

ابراهيم الغريب - صحافي لبناني | 15.11.2025

على خطّ طرابلس – حمص: حدود سائبة ودولة غائبة و”كزدورة” بأقلّ من 200 دولار

الفساد يعمّق اقتصاد التهريبفي ظلّ الانهيارين الماليين في لبنان وسوريا، تحوّل التهريب إلى شريان اقتصادي رئيسي. مهرّبون، ضبّاط، وسماسرة يعيشون من هذه التجارة التي تدرّ ملايين الدولارات شهرياً. وبحسب مصادر أمنية لبنانية سابقة، فإن بعض المعابر "يُفتح ويُغلق بتنسيق سياسي محلّي مقابل رشى شهرية". النتيجة: حدود سائبة تموّلها الفوضى وتغطّيها المصالح.
06.01.2025
زمن القراءة: 3 minutes

في الأيام التي تلت التحرير، تغيّرت المطالب، ولم يعد النداء “أفرجوا عن المعتقلين” كافياً، بل تحوّل إلى صرخةٍ تطالب بكشف الحقيقة. عقودٌ من القمع والدماء تركت وراءها جروحاً لا تندمل، ووطناً يبحث عن ذاكرته.

وقفتُ أمام النصب التذكاري في ساحة المرجة، وسط دمشق، حيث تغطي جدرانه صور المفقودين والمختفين قسراً. تصطفّ الصور المعلّقة على الجدران كوشومٍ على ذاكرة المدينة. بين زحام الصور والوجوه المعلّقة على الورق، أخذت أبحث بعيني عن ملامح صديق قديم اختفى قبل ثلاثة عشر عاماً، يوم كان متوجهاً إلى كلية الإعلام ولم يعد. استمررت في التحديق، علّني أجد خيط أمل أو أثراً يروي شيئاً عنه، لكن لم أجد سوى العجز يثقل نظراتي وذاكرة المدينة.

هممت بالرحيل، بينما كنت أبتعد من الجدار المليء بالذكريات والآلام، اقتربت مني سيدة خمسينية تحمل صورة لشاب في العشرين من عمره وضعتها في إطار خشبي متهالك. نظرت إليَّ بعينين متعبتين وهمست: “والله أنك بتشبه ابني”.

وقفت أمامها صامتاً كتمثال. كانت السيدة واحدة من مئات الأمهات اللواتي تجمّعن في الساحة، تبحث عن إجابة عن مصير ابنها. دموعها لم تتوقف وهي تردد بصوت منكسر: “أخذوا أولادنا أحياءً، فأعيدوهم لنا أحياء. لن أعلق صورة ابني هنا، سأبقيها في قلبي”. كان في ملامحها ما يختصر سنواتٍ من القهر، في صوتها صدًى لكل أمٍّ سورية تقف على حافة الأمل واليأس.

حولنا، كانت الساحة تعجّ بمئات العائلات. جاؤوا إلى دمشق يبحثون عن مفقوديهم، بعدما فرَّ ابن حافظ وانتهى عصر عائلة الأسد. جدران النصب التذكاري كانت شاهدةً صامتة على الوجع. صورٌ ومعلومات للتواصل، ونداءات تشبه صرخات الغريق. لا شيء في تلك الساحة يُروى سوى قصص المفقودين الذين طواهم السجن أو القبر أو النسيان.

مآسي السجون السوريّة

تذكرت حينها حديثاً بُثّ قبل أسابيع لفضل عبد الغني، مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، وهو يبكي على الهواء: “كل المختفين قسرياً الذين لم يُعثر عليهم حتى الآن، قتلهم النظام السوري في السجون”. لم يقدم النظام تفاصيل لعائلاتهم عن أماكن الجثث، فقط الحقيقة المرة: الموت كان مصيرهم.

في 8 كانون الأول/ ديسمبر الماضي، خرجت قوات النظام من معاقلها مثل أشباحٍ خاوية. انتهت ستة عقود من حكم حزب البعث، وأكثر من نصف قرن من استبداد عائلة الأسد، وسقط النظام. لكن الحرية جاءت متأخرةً جداً لمن كانوا ينتظرونها في الزنازين.

في الأيام التي تلت التحرير، تغيّرت المطالب، ولم يعد النداء “أفرجوا عن المعتقلين” كافياً، بل تحوّل إلى صرخةٍ تطالب بكشف الحقيقة. عقودٌ من القمع والدماء تركت وراءها جروحاً لا تندمل، ووطناً يبحث عن ذاكرته.

أخبرتني السيدة أن ابنها كان في سجن صيدنايا. ذلك المكان الذي لا يزال رمزاً للرعب. أُنشئ عام 1987، وأصبح موقعاً للإعدامات الجماعية والتعذيب المنهجي. وفق الشهادات، كان المعتقلون يموتون هناك مراراً قبل أن يُزهق آخر أنفاسهم. وصفت لي زيارتها الوحيدة للسجن عام 2018، حين أكدت وجود ابنها هناك.

بعد 61 عاماً من حكم البعث و53 عاماً من سيطرة عائلة الأسد، انهار النظام أخيراً، ولكن ليس قبل أن يترك وراءه إرثاً من الألم والدماء. الوثائق التي كُشفت عقب تحرير البلاد فضحت ممارسات قمعية ممنهجة، إذ احتُجز 136,614 شخصاً منذ عام 2011، 96,321 منهم اختفوا قسراً. الأرقام كانت جافةً كأوراق الخريف، لكنها تحمل أرواحاً، قصصاً، وأسماء.

جرح لا يندمل

زرت خلال الأيام الماضية عشر منشآت اعتقال، سبع مقابر جماعية، والمحكمة العسكرية. رأيت بأم عيني الوثائق التي كشفت عن الجرائم. كل الأهوال التي تم الحديث عنها، كانت أقل مما وجدناه.

سجون مثل فرع فلسطين، المعروف بسمعته السوداء، وفرع المخابرات العسكرية 291، وسجن تدمر، كلها أماكن تفيض بالموت. في فرع فلسطين، تعلقت أرواح المعتقلين في زنازين ضيقة ومظلمة. هناك، صُعقوا بالكهرباء، وجُوّعوا حتى نطقوا بما لم يفعلوه. أما في تدمر، ذلك السجن المنزوي في الصحراء، فكان المعتقلون يُعدمون ميدانياً، وسط صرخاتٍ لا يسمعها سوى الرمال.

التفتت السيدة نحو شابٍ آخر كان يقف بالقرب مني. كررت جملتها المعتادة: “والله أنك بتشبه ابني”. لم يكن لديها سوى هذا الأمل الباهت لتتمسك به. 

زارت السيدة ابنها في سجن صيدنايا عام 2018 وتأكدت من وجوده هناك، لم تستطع العثور عليه بعد ذلك. “هل يمكنك أن تدلني كيف أجد ابني؟” سألتني السيدة للمرة الأخيرة بصوت مشحون بالرجاء قبل أن تتركني وتتجه الى شاب آخر. بقيت صامتاً فالكلمات خانتني، وسبقَتْني دموعي لتُعبر عن عجزٍ لم أستطع إخفاءه… فيما راحت مجموعة من الشباب تهتف بالقرب مني “زينوا المرجة… والمرجة لينا، شامنا فرجة… بشبابنا مزينا”.