fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

أمّ أيمن: حارسة جثث أبنائها في الساحل السوري

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

 لا شيء في هذا العالم يُمكن أن يبرّر مشهد أمّ في السادسة والثمانين من عمرها، واقفة أمام جثث أبنائها، وحدها في وجه القسوة، تتكئ على نفسها، تُصارع الانكسار، وتُجادل قتلة سرقوا منها كل شيء إلا صمودها، لتقول لهم بما تبقى لها من قوة: “فشرت”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

أمّ أيمن، السيدة زرقة سباهية لم تكن مجرّد أمّ ثكلى، بل حارسة ألم عميق وذاكرة قسوة بالغة. أربعة أيام قضتها بجوار جثث أبنائها وحفيدها، الذين قتلهم مسلحون متشدّدون في قريتها، تحاول منع القتلة والكلاب الشاردة من انتهاك جثثهم، بعدما منعها المسلحون من دفنهم. جلست تحرس ما تبقى من وجودهم، كما لو أن بقاءها قربهم يردّ عنهم قسوة الموت الثاني.

القتلة وثّقوا جريمتهم بالفيديو، متباهين بشماتتهم بالسيدة التي تقف مكلومة قرب جثامين أبنائها.

 لا شيء في هذا العالم يُمكن أن يبرّر مشهد أمّ في السادسة والثمانين من عمرها، واقفة أمام جثث أبنائها، وحدها في وجه القسوة، تتكئ على نفسها، تُصارع الانكسار، وتُجادل قتلة سرقوا منها كل شيء إلا صمودها، لتقول لهم بما تبقى لها من قوة: “فشرت”.

وقعت الجريمة في السابع من آذار/ مارس، حين اقتحمت مجموعات أمنية، كان بعض عناصرها مكشوفي الوجوه وآخرون ملثمين، منزل العائلة في قرية قبو العواميد في ريف القرداحة، وفقاً لما روته ابنة السيدة زرقة للمرصد السوري لحقوق الإنسان. لم يكتفِ القتلة بإزهاق الأرواح، بل حرموا الأمّ من حقّ دفن أبنائها. تروي الابنة: “كانت تناوب على حراستهم ليلاً ونهاراً”.

ومنذ 6 آذار / مارس تُرتكَب مجازر بحق الطائفة العلوية، وكل من يحميها في الساحل السوري، على يد فصائل مسلحة تابعة الإدارة الجديدة، وبحسب ما قالت ابنة زرقة للمرصد السوري، قام المسلحون بتفجير أقفال المنزل بالقنابل، قبل أن ينهبوا محتوياته، ويجبروا الشبان الثلاثة على الخروج. 

وقالت الابنة: “سألهم المسلحون: “أنتم علوية أم سنية؟ لا تهمّهم الاجابة: بكل الأحوال سوف تُقتلون، قالوها ثم أطلقوا النار عليهم، رغم تأكيد الشبان أنهم مدنيون، ويُدرّس اثنان منهم اللغة الإنجليزية في الجامعة”.

في الفيديو الذي انتشر على نطاق واسع، يوجّه أحد المسلحين كلاماً ساخراً للأمّ: “هذول ولادك… نحن عطيناكم الأمن بس أنتم غدارين”، لتصرخ في وجهه: “فشرت”.

لا شيء يُمكن أن يبرر وقوف أمّ مكسورة أمام جثث أبنائها، بينما يضع غريب قدمه على رأس أحدهم، متباهياً بقوته العسكرية والطائفية. هذه ليست حرباً فقط، بل سقوط أخلاقي مدوٍّ، تتشابه فيه الأدوار، فيما تبقى الأمّهات السوريات وحدهن في ساحة الفقدان.

مشهد الأمّ المنكوبة أمام جثث أبنائها وحفيدها هو التجسيد الأقسى للحقد الطائفي – السياسي في سوريا. أمّ مكلومة يُطلب منها أن تسلُّم جثث أبنائها، في صورة تُعيدنا إلى أمهات فقدن أبناءهن خلال الثورة، حينما اتصل أمن الأسد بعائلاتهم، وطلبوا منهم أن يأتوا ليستلموا جثث أبنائهم بعدما نكلوا بهم.

أمّ أيمن، التي لم يكفِها فقدان منزلها في زلزال 6 شباط/ فبراير 2023، وجدت نفسها أمام فقدان أشدّ قسوة… فقدان أبنائها. تعيش في بيت متواضع، تعمل مع عائلتها في الزراعة، تُكافح كما تُكافح آلاف الأمّهات السوريات لإبقاء الحياة قائمة رغم كل شيء. أحد أبنائها الذين قُتلوا كان مترجماً وكاتباً، والآخر عسكرياً أجرى تسوية قبل ثلاثة أشهر.

ليست هذه القصة استثناء، بل صورة مصغّرة عن سوريا كلها. هذه العائلة تُشبه كثيراً من العائلات السورية في الجنوب والشمال، عائلات أنهكها الفقر، لكنها لم تستسلم، عائلات دفعت أبناءها نحو التعليم مهما كان الثمن، رغم العوز والقهر.

“هذول ولادك… نحن عطيناكم الأمن بس أنتم غدارين”، لتصرخ في وجهه: “فشرت”.

من يقتل السوريين اليوم ليس غريباً، رغم وجود المقاتلين الأجانب الذين يرتكبون انتهاكات جسيمة بلا شك، لكن يكفي متابعة فيديو الأم زرقة وسماع اللهجة لندرك أن القاتل سوري، قاتل ربما كان قبل أشهر فقط ضحية، ليجد نفسه اليوم في موقع لا يختلف عن مكان من كانوا يظلمونه.

والأكثر قسوة من الجريمة ذاتها، هو أننا بدل أن نحزن مع هذه الأمّ ونواسيها، ننشغل بالبحث في هويّات الضحايا، كأننا بحاجة إلى إثبات أنهم ليسوا من فلول النظام كي نُبرّر تعاطفنا معهم، لكن حتى لو كانوا كذلك، هل يُعاقَب الأبناء بالموت، وتُعاقَب الأمّهات بالتشفّي؟

هذه ليست مجرّد معركة أخلاقية خاسرة، بل سقوط في دوامة استرخاص للألم السوري، وللأمّهات السوريات اللواتي دفعن أثمان الثورة منذ أربعة عشر عاماً، وحتى اليوم. كأننا نُعيد إنتاج منطق الجلاد نفسه، ولكن بثوب مختلف، حيث يُقاس الحزن ويُفلتر التعاطف وفقاً للانتماءات، لا وفقاً للإنسانية.

لماذا يجب أن نبرهن أن أبناءها ليسوا فلولاً؟ لماذا نصرّ على تصنيف الموت قبل أن نسمح لأنفسنا بالحزن؟ كأننا نختار الأمهات اللواتي يستحققن التعاطف، ونتجاهل حزن الأخريات عمداً، كأن الفقدان نفسه يحتاج إلى شهادة حسن سلوك.

للحقيقة، يجب أن تكون هذه الجريمة لحظة يقظة، أن تحوّل أنظارنا جميعاً إلى المكان الصحيح، لنرى بوضوح نتائج العنف والتجييش الطائفي، ونُدرك إلى أين أوصلتنا هذه الدوّامة القاتلة. يجب أن تكون صرخة تجمعنا في موقف واحد ضد وحشية القتل، لكننا، مرة أخرى، على ما يبدو، أضعنا البوصلة.

وبدل ذلك، تحوّلت الأنظار نحو أسئلة من قبيل “إنهم من فلول النظام”، “لولا فلول الأسد لما حدث ذلك”، “هذه الصورة مزيّفة”، “نعم، قُتل علويون، لكن ليس بهذه الأعداد”، “دعهم يذوقون معاناتنا”… كلها حجج لا تدافع عن الحقيقة، بل تكشف عن خوفٍ عميق لدى أصحابها، من أن يكونوا قد تحوّلوا، دون أن يدركوا، إلى الوجه الآخر للأسد.

التبرير هو أسوأ ما يُمكن أن يحدث اليوم في سوريا، ليس فقط لأنه يعكس نهج الأسد وأتباعه في تبرير المجازر وإنكارها، بل لأنه يمثّل انحرافاً متعمداً عن الحقيقة، بهدف حماية وُجهات النظر والمعتقدات، حتى وإن كان ذلك على حساب العدالة والضحايا.

سهيل ريحان ابن زرقة وإحدى الجثث التي تكوّمت أمامها، كتب في 8 كانون الأول/ ديسمبر محتفلاً بسقوط الأسد: “وطن واحد شعب واحد، مع فجر يوم جديد، فلنوحّد جهودنا لخدمة الناس وسوريا الواحدة الموحّدة، فليكن هدفنا الأسمى بناء سوريا الجديدة في هذا العهد الجديد”.

لكن “سوريا الجديدة” قتلت سهيل، سهيل الذي وقف إلى جانب انتصار سوريا، الذي هتف لها وظنّ أنه جزء من ملامحها المقبلة. لم يُقتل لأنه قاتل ضدها، بل لأنه لم يُثبت بما يكفي أنه ليس علوياً مؤيداً للأسد، وكأن مجرّد انتمائه الطائفي بات تهمة تستوجب التصفية.

السيدة أم أيمن ليست مجرد أمّ مفجوعة، بل هي صورة لكل أمّ سورية، لكل امرأة حملت أبناءها في قلبها، قبل أن تحملهم على يديها. لهذا رأينا الكثير من المنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي تشبّهها بأمهاتنا، فهي ليست غريبة عنا، بل نسخة من وجوه الأمهات اللواتي كبرنا في دفء أذرعهن.

تُشبه أم أيمن كل أمهاتنا، بوشاح الرأس المربوط بإحكام، والثوب الطويل، والجاكيت الصوفي الذي ربما حاكته بنفسها في ليالي الشتاء الطويلة، تماماً كما تفعل أمهاتنا. لها الاتكاءة نفسها، الحزن المكابر نفسه، والحب نفسه الذي لا يتزحزح أمام الموت والخذلان.

تقول الصحافية والناشطة مزنة أصلان التي فقدت والدها على يد قوات نظام الأسد وتهجّرت من القصير هي وعائلتها: “متضامنة مع خالة أم أيمن الي ذكرتني بـ 2011 لما فاتت قوات النظام لبيتنا واعتقلت خيي عمره 16 سنة من قدام عيونا وقعدوا يلدوعوه بالسجاير قدام الماما”.

لم يعد الموقف السياسي أو الفعل هو ما يحدّد مصير الإنسان في هذه الحرب، بل اسمه، طائفته، جذوره، نظرة الآخر إليه. هكذا، تحوّلت البوصلة الأخلاقية لكثيرين إلى الطائفة، لا أكثر ولا أقل، وكأن العدالة لم تكن يوماً هدفاً، بل مجرّد سلاح آخر في يد المنتصر.

وسط هذه المذبحة، تُهمَّش أصوات الأمّهات، تُقصى نساء سوريا عن القرار، كأن الحرب شأن رجالي بحت، وكأن الأمّهات لسن صاحبات الحق الأول في تحديد مصائر أبنائهن. هل سألهن أحد إن كنّ يُردن الاستمرار في هذا الطريق الدموي؟ أكاد أجزم أنه لو كان القرار بيد الأمّهات، لما وصلنا إلى هذا الخراب، لما كان هناك كلّ هذه القبور المفتوحة، ولا كلّ هذه الدموع التي لا تجد من يمسحها.

وكما كتبت الشاعرة وداد نبي: “ليس للأمهات طائفة أو دين، انتموا إلى دموع أمّهاتكم، لننجو معاً”.

نجيب جورج عوض - باحث سوري | 21.03.2025

هيئة تحرير الشام، الطائفية، و”ميتريكس” سوريا الموازية

في سوريا الحالية الواقعية، لا يوجد خيار ولا كبسولتان ولا حتى مورفيوس: إما أن تنصاع لحقيقة هيمنة ميتريكس سوريا الافتراضية الموازية الذي أحضرته الهيئة معها من تجربة إدلب، أو عليك أن تتحول إلى ضحية وهدف مشروعين أمام خالقي الميتريكس وحراسه في سبيل ترسيخ وتحقيق هيمنة الميتريكس المذكور على الواقع.
13.03.2025
زمن القراءة: 6 minutes

 لا شيء في هذا العالم يُمكن أن يبرّر مشهد أمّ في السادسة والثمانين من عمرها، واقفة أمام جثث أبنائها، وحدها في وجه القسوة، تتكئ على نفسها، تُصارع الانكسار، وتُجادل قتلة سرقوا منها كل شيء إلا صمودها، لتقول لهم بما تبقى لها من قوة: “فشرت”.

أمّ أيمن، السيدة زرقة سباهية لم تكن مجرّد أمّ ثكلى، بل حارسة ألم عميق وذاكرة قسوة بالغة. أربعة أيام قضتها بجوار جثث أبنائها وحفيدها، الذين قتلهم مسلحون متشدّدون في قريتها، تحاول منع القتلة والكلاب الشاردة من انتهاك جثثهم، بعدما منعها المسلحون من دفنهم. جلست تحرس ما تبقى من وجودهم، كما لو أن بقاءها قربهم يردّ عنهم قسوة الموت الثاني.

القتلة وثّقوا جريمتهم بالفيديو، متباهين بشماتتهم بالسيدة التي تقف مكلومة قرب جثامين أبنائها.

 لا شيء في هذا العالم يُمكن أن يبرّر مشهد أمّ في السادسة والثمانين من عمرها، واقفة أمام جثث أبنائها، وحدها في وجه القسوة، تتكئ على نفسها، تُصارع الانكسار، وتُجادل قتلة سرقوا منها كل شيء إلا صمودها، لتقول لهم بما تبقى لها من قوة: “فشرت”.

وقعت الجريمة في السابع من آذار/ مارس، حين اقتحمت مجموعات أمنية، كان بعض عناصرها مكشوفي الوجوه وآخرون ملثمين، منزل العائلة في قرية قبو العواميد في ريف القرداحة، وفقاً لما روته ابنة السيدة زرقة للمرصد السوري لحقوق الإنسان. لم يكتفِ القتلة بإزهاق الأرواح، بل حرموا الأمّ من حقّ دفن أبنائها. تروي الابنة: “كانت تناوب على حراستهم ليلاً ونهاراً”.

ومنذ 6 آذار / مارس تُرتكَب مجازر بحق الطائفة العلوية، وكل من يحميها في الساحل السوري، على يد فصائل مسلحة تابعة الإدارة الجديدة، وبحسب ما قالت ابنة زرقة للمرصد السوري، قام المسلحون بتفجير أقفال المنزل بالقنابل، قبل أن ينهبوا محتوياته، ويجبروا الشبان الثلاثة على الخروج. 

وقالت الابنة: “سألهم المسلحون: “أنتم علوية أم سنية؟ لا تهمّهم الاجابة: بكل الأحوال سوف تُقتلون، قالوها ثم أطلقوا النار عليهم، رغم تأكيد الشبان أنهم مدنيون، ويُدرّس اثنان منهم اللغة الإنجليزية في الجامعة”.

في الفيديو الذي انتشر على نطاق واسع، يوجّه أحد المسلحين كلاماً ساخراً للأمّ: “هذول ولادك… نحن عطيناكم الأمن بس أنتم غدارين”، لتصرخ في وجهه: “فشرت”.

لا شيء يُمكن أن يبرر وقوف أمّ مكسورة أمام جثث أبنائها، بينما يضع غريب قدمه على رأس أحدهم، متباهياً بقوته العسكرية والطائفية. هذه ليست حرباً فقط، بل سقوط أخلاقي مدوٍّ، تتشابه فيه الأدوار، فيما تبقى الأمّهات السوريات وحدهن في ساحة الفقدان.

مشهد الأمّ المنكوبة أمام جثث أبنائها وحفيدها هو التجسيد الأقسى للحقد الطائفي – السياسي في سوريا. أمّ مكلومة يُطلب منها أن تسلُّم جثث أبنائها، في صورة تُعيدنا إلى أمهات فقدن أبناءهن خلال الثورة، حينما اتصل أمن الأسد بعائلاتهم، وطلبوا منهم أن يأتوا ليستلموا جثث أبنائهم بعدما نكلوا بهم.

أمّ أيمن، التي لم يكفِها فقدان منزلها في زلزال 6 شباط/ فبراير 2023، وجدت نفسها أمام فقدان أشدّ قسوة… فقدان أبنائها. تعيش في بيت متواضع، تعمل مع عائلتها في الزراعة، تُكافح كما تُكافح آلاف الأمّهات السوريات لإبقاء الحياة قائمة رغم كل شيء. أحد أبنائها الذين قُتلوا كان مترجماً وكاتباً، والآخر عسكرياً أجرى تسوية قبل ثلاثة أشهر.

ليست هذه القصة استثناء، بل صورة مصغّرة عن سوريا كلها. هذه العائلة تُشبه كثيراً من العائلات السورية في الجنوب والشمال، عائلات أنهكها الفقر، لكنها لم تستسلم، عائلات دفعت أبناءها نحو التعليم مهما كان الثمن، رغم العوز والقهر.

“هذول ولادك… نحن عطيناكم الأمن بس أنتم غدارين”، لتصرخ في وجهه: “فشرت”.

من يقتل السوريين اليوم ليس غريباً، رغم وجود المقاتلين الأجانب الذين يرتكبون انتهاكات جسيمة بلا شك، لكن يكفي متابعة فيديو الأم زرقة وسماع اللهجة لندرك أن القاتل سوري، قاتل ربما كان قبل أشهر فقط ضحية، ليجد نفسه اليوم في موقع لا يختلف عن مكان من كانوا يظلمونه.

والأكثر قسوة من الجريمة ذاتها، هو أننا بدل أن نحزن مع هذه الأمّ ونواسيها، ننشغل بالبحث في هويّات الضحايا، كأننا بحاجة إلى إثبات أنهم ليسوا من فلول النظام كي نُبرّر تعاطفنا معهم، لكن حتى لو كانوا كذلك، هل يُعاقَب الأبناء بالموت، وتُعاقَب الأمّهات بالتشفّي؟

هذه ليست مجرّد معركة أخلاقية خاسرة، بل سقوط في دوامة استرخاص للألم السوري، وللأمّهات السوريات اللواتي دفعن أثمان الثورة منذ أربعة عشر عاماً، وحتى اليوم. كأننا نُعيد إنتاج منطق الجلاد نفسه، ولكن بثوب مختلف، حيث يُقاس الحزن ويُفلتر التعاطف وفقاً للانتماءات، لا وفقاً للإنسانية.

لماذا يجب أن نبرهن أن أبناءها ليسوا فلولاً؟ لماذا نصرّ على تصنيف الموت قبل أن نسمح لأنفسنا بالحزن؟ كأننا نختار الأمهات اللواتي يستحققن التعاطف، ونتجاهل حزن الأخريات عمداً، كأن الفقدان نفسه يحتاج إلى شهادة حسن سلوك.

للحقيقة، يجب أن تكون هذه الجريمة لحظة يقظة، أن تحوّل أنظارنا جميعاً إلى المكان الصحيح، لنرى بوضوح نتائج العنف والتجييش الطائفي، ونُدرك إلى أين أوصلتنا هذه الدوّامة القاتلة. يجب أن تكون صرخة تجمعنا في موقف واحد ضد وحشية القتل، لكننا، مرة أخرى، على ما يبدو، أضعنا البوصلة.

وبدل ذلك، تحوّلت الأنظار نحو أسئلة من قبيل “إنهم من فلول النظام”، “لولا فلول الأسد لما حدث ذلك”، “هذه الصورة مزيّفة”، “نعم، قُتل علويون، لكن ليس بهذه الأعداد”، “دعهم يذوقون معاناتنا”… كلها حجج لا تدافع عن الحقيقة، بل تكشف عن خوفٍ عميق لدى أصحابها، من أن يكونوا قد تحوّلوا، دون أن يدركوا، إلى الوجه الآخر للأسد.

التبرير هو أسوأ ما يُمكن أن يحدث اليوم في سوريا، ليس فقط لأنه يعكس نهج الأسد وأتباعه في تبرير المجازر وإنكارها، بل لأنه يمثّل انحرافاً متعمداً عن الحقيقة، بهدف حماية وُجهات النظر والمعتقدات، حتى وإن كان ذلك على حساب العدالة والضحايا.

سهيل ريحان ابن زرقة وإحدى الجثث التي تكوّمت أمامها، كتب في 8 كانون الأول/ ديسمبر محتفلاً بسقوط الأسد: “وطن واحد شعب واحد، مع فجر يوم جديد، فلنوحّد جهودنا لخدمة الناس وسوريا الواحدة الموحّدة، فليكن هدفنا الأسمى بناء سوريا الجديدة في هذا العهد الجديد”.

لكن “سوريا الجديدة” قتلت سهيل، سهيل الذي وقف إلى جانب انتصار سوريا، الذي هتف لها وظنّ أنه جزء من ملامحها المقبلة. لم يُقتل لأنه قاتل ضدها، بل لأنه لم يُثبت بما يكفي أنه ليس علوياً مؤيداً للأسد، وكأن مجرّد انتمائه الطائفي بات تهمة تستوجب التصفية.

السيدة أم أيمن ليست مجرد أمّ مفجوعة، بل هي صورة لكل أمّ سورية، لكل امرأة حملت أبناءها في قلبها، قبل أن تحملهم على يديها. لهذا رأينا الكثير من المنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي تشبّهها بأمهاتنا، فهي ليست غريبة عنا، بل نسخة من وجوه الأمهات اللواتي كبرنا في دفء أذرعهن.

تُشبه أم أيمن كل أمهاتنا، بوشاح الرأس المربوط بإحكام، والثوب الطويل، والجاكيت الصوفي الذي ربما حاكته بنفسها في ليالي الشتاء الطويلة، تماماً كما تفعل أمهاتنا. لها الاتكاءة نفسها، الحزن المكابر نفسه، والحب نفسه الذي لا يتزحزح أمام الموت والخذلان.

تقول الصحافية والناشطة مزنة أصلان التي فقدت والدها على يد قوات نظام الأسد وتهجّرت من القصير هي وعائلتها: “متضامنة مع خالة أم أيمن الي ذكرتني بـ 2011 لما فاتت قوات النظام لبيتنا واعتقلت خيي عمره 16 سنة من قدام عيونا وقعدوا يلدوعوه بالسجاير قدام الماما”.

لم يعد الموقف السياسي أو الفعل هو ما يحدّد مصير الإنسان في هذه الحرب، بل اسمه، طائفته، جذوره، نظرة الآخر إليه. هكذا، تحوّلت البوصلة الأخلاقية لكثيرين إلى الطائفة، لا أكثر ولا أقل، وكأن العدالة لم تكن يوماً هدفاً، بل مجرّد سلاح آخر في يد المنتصر.

وسط هذه المذبحة، تُهمَّش أصوات الأمّهات، تُقصى نساء سوريا عن القرار، كأن الحرب شأن رجالي بحت، وكأن الأمّهات لسن صاحبات الحق الأول في تحديد مصائر أبنائهن. هل سألهن أحد إن كنّ يُردن الاستمرار في هذا الطريق الدموي؟ أكاد أجزم أنه لو كان القرار بيد الأمّهات، لما وصلنا إلى هذا الخراب، لما كان هناك كلّ هذه القبور المفتوحة، ولا كلّ هذه الدموع التي لا تجد من يمسحها.

وكما كتبت الشاعرة وداد نبي: “ليس للأمهات طائفة أو دين، انتموا إلى دموع أمّهاتكم، لننجو معاً”.

13.03.2025
زمن القراءة: 6 minutes
|

اشترك بنشرتنا البريدية