“على قدم ونصف” عبارة ساقها أمين عام “حزب الله” كتهكم نفسي على وقوف الإسرائيليين في انتظار رد الحزب على اغتيال مسؤوله العسكري فؤاد شكر.
العبارة تُستدرج في كل مرة إلى مسامع الإسرائيليين ومسامعنا ربطاً بوقائع أمنية بين لبنان وإسرائيل، وإذا كانت لحظة خروجها من فم نصرالله هي بلا شك لحظة لتخويف الإسرائيليين، أشعلت أيضاً حماسة جمعية في بيئة الحزب، لكنها تنطوي على نزعتين نفسيتين، واحدة معلنة، وهي خوف الإسرائيليين، وأخرى مقنعة لا تبدد الحماسة المفتعلة مشاعر الخوف فيها، وهذا حال معظم الجنوبيين.
“نحن أيضاً نقف على قدم ونصف يا سيد”، كما يتضح من وقائع النزوح لمن استطاع إليه سبيلاً، ومن كثافة الخوف في الفئة التي لم تسعفها أحوالها الاقتصادية والاجتماعيّة إلى النزوح، وهؤلاء يشكل معظمهم صورة الخوف الرديفة لصورة الإسرائيليين.
رتق الخوف حالياً يتضح بموجة نزوح هي الأكثف منذ بداية الحرب، إذ لم تعد تشمل قرى الجنوب ومدنه، بل امتدت إلى ضاحية بيروت الجنوبية، وتقوم به الفئة القادرة على “شراء” كلفته الإقتصادية، أما الوجه الآخر، فنراه لدى الفئة المنتظِرة في بيوتها أملاً بألا تتسع الحرب.
مع مباشرة النزوح، وككل مرة، ترتفع صرخة النازحين ضد الاستغلال الذي يمارسه “تجار العقارات” في المناطق المفترض أنها آمنة، وتحديداً في الشوف وجبل لبنان وصيدا وضواحيها.
هي صرخة لا تبددها على الأرجح مواقف السياسيين لأنصارهم بالتعاطي مع النازحين من موقع “أهلي”، وموقف الزعيم الدرزي وليد جنبلاط يتبدى هنا، وهو الأكثر تعبيراً عن القطع بين السياسة والاقتصاد كعرض وطلب من جهة، والربط بينها وبين مسار النزوح من جهة ثانية.
أفضت مواقف جنبلاط من الحرب الراهنة إلى جعل مناطق نفوذه أكثر قابلية لاستقبال النازحين، الأمر الذي يتعاطى معه آخرون بحذر في مناطق أخرى، لا سيما مناطق المتن الشمالي.
النزوح محكوم بالسياسة؟ نعم. هذا ما وشى به كلام نازحين كثر قبل مباشرة نزوحهم.
“إنهم يكرهوننا!” عبارة تحضر في عقل شريحة كبيرة من النازحين، وهم يحاولون تجنب المناطق المسيحية حيث الوجود الكثيف لـ”القوات اللبنانية” و”حزب الكتائب”، ومن دون أن تبدد مواقف جنبلاط أيضاً الكثير من الهمس عن بيئته، وإدراجها في صنوف الكارهين.
” نهم يكرهوننا”، هكذا بلا إضافات، وبلا أسئلة جوهرية عن الكره كسياق متبادل. “إنهم يكرهوننا”، من دون بحث عن الوقائع المؤسسة للكراهية. ومرة أخرى، تقع بيئة الحزب، وعن قصد على الأرجح، في إعفاء الأخير من أسبابها، تماماً كتغييبه الراهن في الأسئلة عن تنكّب مشقة النزوح أو انتظاره.
لا شك في أن الإطلالات الإعلامية لشارل جبور ومي شدياق والنائب كميل شمعون، كما مواقف سامي الجميل، ضد الحزب وضد الحرب، تفضي إلى رؤية جامعة ومبسترة أحياناً، كون بيئة الحزب مكروهة، لكنها تجتنب وتسبق الحزب في العبور على مواقف الحزب وأمينه العام من خطاب تخويني يومي، يفتقر مضمونه إلى وقائع حقيقية عن “صهاينة الداخل”!!
تمارس بيئة الحزب، ومن باب النزوح الراهن ، اختبار وتقييم لميثاقية العيش المشترك بين الطوائف اللبنانية، وهذا حقها لو لم يكن دخول هذا الباب متأتياً من الحرب التي يذهب إليها “حزب الله” هذه المرة أيضاً من خارج الإجماع اللبناني.
عموماً، هل من قرار سيادي ومؤثر في حياة اللبنانيين أكثر من قرار الحرب؟ قطعاً لا. هذا القرار أخذه “حزب الله” يوم 8 تشرين الثاني / أكتوبر 2023 بمعزل عن الدولة اللبنانية، ومن دون الوقوف حتى على رأي أحد أطراف الثلاثية “الذهبية”، أي الجيش، فيما الشعب كثالثها يخضع في راهنه لمشقتي النزوح والانتظار.
ولنتخيل هنا قراراً سيادياً كهذا، ومعه “حزب الله” يقف على رأي السلطة والجيش قبل أن يتنكب قرار حرب شديدة الالتباس.
على الأرجح سيقف الطير على رؤوس الجميع، هذا قبل أن يتقاطعوا سياسياً مع الحزب، وقد وقعت الحرب. فالأخيرة لن يتنكب ويلاتها، نزوحاً وبؤساً، أشخاص كنجيب ميقاتي وعبدالله بو حبيب، ولا شيعي كنبيه بري الذي لا يحتاج المرء إلى فطنة لإدراك أن أقصى ما يملكه من تأثير في وقائعها الاجتماعية، يتبدى في تمنيات وليد جنبلاط لأهل الجبل، أو في قرار وزيره عباس الحلبي في فتح معاهد تربوية ستكون على الأرجح ضالة الفئة الفقيرة والمثقلة بانتظار الحرب.
“نحن أيضاً نقف على قدم ونصف يا سيد”، لسان حال جنوبيين كثر يريدون أن يسيروا على “أقدامهم” إلى أشغالهم وأرزاقهم التي عطلتها الحرب.