منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 وأنا عالقة في حفرة يحاوطني فيها الطين والدمع ، لا حجر فيها ليحميني، وكلما هممت للخروج غرقت أكثر بالطين حتى كاد يبتلعني.
سقطتُ في هذه الحفرة بعد صدمة “طوفان الأقصى”، وعند أول مجزرة بكيت وانطويت واختبأت، وصرت أتلقى أخبار المجازر واحدة تلو الأخرى، أقرأ أسماء القتلى من عائلتي على الشاشات، وأسمع صرخاتهم تحت الأنقاض عبر ريلات الإنستغرام.
بكيت في المقام الأول نفسي، التي سوّلت فرحةً بتحرير ما، ثم بكيت الجثث والدم والأطفال والحرائق، أعود فجأة للأمل، ثم أنتكس عند المجزرة.
صار أملي مرتبطاً بلا ذنب بالدم والجثث والمجازر.
كلما حاولت الخروج من الحفرة أغرق فيها أكثر، فأعود لاجئة تحلم بحق العودة تارة، وأخرى تلعن الأرض والوطنية والأوطان، حتى أنني فكرت ذات ليل أن أشعل شعلة لحركة تطالب بوطن قومي للفلسطينيين، وصرت أشخبر على الخرائط حتى أختار أرضاً، أتمتم :”خدوا التراب والمقدسات والوطن وهوية اللجوء وخلوا هالولاد تعيش”. شعرت حينها بخيانتي ، وعرفت حينها أني أخون عندما أفرح بانتصار، وأني أخون حين أبكي وأضعف!
بدأت الحفرة تكبر وأسقط بها أكثر ، أسقط حينما أتخيل أن الشرطة الألمانية ستكسر بابي وتجرّني من شعري لترميني بغرفة غاز ، فأقفل بابي بأربعة أقفال وأنام متكوّرة خائفة محاطة برائحة الحريق، برائحة الجلد الذائب.
أبتسم لجارتي مخاطبة إياها بلغة السلام وأعود لأهلي أنادي بالتحرير والكفاح، وبدنا ياها من المية للمية، صرت لئيمة علينا، لطيفة معهم، أصرخ بوجه امرأة عربية في السوبر ماركت لأنها تحمل علبة كوكا كولا، وأتحدث كقطة منزلية مع ألمانية تحمل المنتج نفسه!
أنفجر أياماً وأهدأ أياماً، أكره وأحقد ثم أبكي على سجادة الصلاة، أعاتب الله وأقترب الى الكفر، ثم أتمتم: في حكمة ما منعرفها.
توقفت عن الكتابة لأني انقسمت الى أقسام لا أعرفها، أفرح ثم أنهزم وأعاتب فأكره، فأظنني خنت… ماذا علي أن أفعل؟
هل أنكر وجود دولة الاحتلال وأؤمن إيماناً راسخاً بأنها زائلة، وأقاوم فأقتل ثم أقاوم وأقتل وأهد البلاد فأصير وطنياً؟ أم أتنازل وأتخلى وأتعايش وأقبل أن نبقى تحت حكم دولة احتلال قائمة على الفصل العنصري مقابل فقط حياة الفلسطينيين، والتي بالضرورة مسلوبة الحقوق لكنها بالجسد فأكون مطبعة؟
ماذا أريد؟كيف أريد التعايش والسلام وأريد الكفاح والمقاومة والتحرير كلاجئة فلسطينية لا تريد أكثر من وطن يكفيها لعنة اللجوء؟ أأنادي بالمقاومة وأنا أجلس في الأمان فيموت الفلسطينيون في أرضهم ويهد الاحتلال الأراضي المحتلة على رأس أخوتي، فتتحرر وأعود أنا لبيت جدي على دمائهم، يموتون هم بالكفاح وأعيش أنا التحرير؟
هل أريد التعايش على أمل لا يرى، بأن عجلة الموت والتنكيل ستتوقف وأن الصهيونية ستعطي الفلسطينيين حقوقهم وأكون بعتُ حقي وأرضي؟
من أنـــــا؟!
هل أنا مع إيران وحزب الله وبالتالي أخذل نصفي السوري وأنسى براميل الأسد وحزب الله؟ أمــا أنا ضدهم وأتمنى هلاكهم وبالتالي أخذل “المقاومة”؟.
هل أنا ألمانية مندمجة تنادي بالسلام والتعايش وتعيش في مجتمع ينادي بحق إسرائيل بالدفاع عن نفسها لا بل يزوّدها بالمال والسلاح؟ أم أنــا لاجئة في ألمانيا تحاوطها الشرطة من أربع جهات حين تحمل علمها في الشوارع فتشعر أن الشرطة تحاوطها لتحمي الشارع منها، على أنها حيوان هائج في الشوارع؟
من أنــا؟ ولماذا توقفت عن الكتابة؟
لأني لم أعد أستطيع الكتابة وأنا ملطخة بالطين والتساؤلات، و لأن كل الكلام صار سخيفاً جافاً، ولأني لا أعرف من أنا ولأني لم أعد قادرة على أن أكون 100 بالمئة مع موقف واحد بيوم واحد، أنا مشتتة، ممزقة ، محاطة بالطين، لا أعرف ما يحق لي فعله وأنا البعيدة عن الإبادة.
لا أعرف بماذا أنادي، لا أشعر بالأمان، لا في بيتي ولا في الشارع ، ولا على فيسبوك ولا على إنستغرام، لم تعد الكتابة مصدر أمان لي، لم يعد صوتي الداخلي واضحاً، أريد كل التناقضات، أن نقاوم، أن نتحرر، ألا نموت…
أن نعيش أحراراً وبأمان!.
إقرأوا أيضاً: