fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

أنفاق “قسد”: عمل بالسخرة وضحايا بدون تعويضات!

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تكررت في الفيديوهات التي توثق مشاهد المناطق التي انسحبت منها “قوات سوريا الديموقراطية” صور لأنفاق تحت الأرض، سبق الحديث عنها، كونها تسببت بحوادث لسكان الحسكة، إذ سقط طفل بعمر 7 سنوات في إحدى حفر تهوية الأنفاق  قبل أشهر من سقوط النظام، وانهيار شارع سكني في مدينة القامشلي عام 2023.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

هذه الأنفاق التي يحيط بها الغموض، تشير التقارير إلى أن الإدارة الذاتية بدأت بحفرها منذ سنوات في أماكن سيطرتها، وبعضها حسب مصادر محلية التقيناها، الهدف منها بناء مستشفيات تحت الأرض، كالمبنى المعمول به في مدينة المالكية. إضافة إلى حفر أنفاق واسعة تسمح بسير مركبات كبيرة في داخلها، كتلك الموجودة في مدينة الحسكة، كما تم   الحفر أيضاً في مناطق أثرية مثل عين ديوار وغيرها، وإنشاء مخابئ سرية لتخزين الأسلحة في معظم المناطق.

 تُستخدَم بعض الأنفاق لبيع النفط لتركيا، كما حصل في أنفاق الدرباسية، حيث كانت صهاريج النفط تُفرغ حمولتها في أنابيب تم تمديدها داخل الأنفاق وصولاً إلى تركيا، قبل اكتشاف الأمر، ناهيك بدور هذه الأنفاق في المعركة مع ميليشيات المعارضة السورية المدعومة من تركيا، التي علّق على جدواها مسؤول أميركي لصحيفة “فورين بوليسي” في عام 2019 قائلاً: “المقاتلون الكرد مشهورون بتطوير أساليب إبداعية لمحاربة الجيوش المتطورة… الأتراك فوجئوا بفعالية (هذه الأنفاق)”.

المصادر التي التقينا بها تؤكد ما ورد في التقارير الصحافية، أن الأنفاق كلها ترتبط ببعضها بعضاً، عبر خارطة تشبه شبكة العنكبوت، وتتألف من نفق رئيسي يتم حفره ثم إحكام إغلاق غلافه الخارجي، بعد الانتهاء من أعمال الترميم، ثم يتم تزويدها بأجهزة الأوكسجين، أو الإكثار من الحفر الكبيرة التي تتيح دخول عمال الحفر وخروجهم، وإخراج الأتربة من الأنفاق.

لكن هذه التقنيات و”الأساليب الإبداعية” في الأساليب القتالية لدى الكرد، قائمة على أساس عمالة تصل إلى حد “السخرة”، ومن دون ضمانات صحية أو مهنية لمن يحفرون الأنفاق، ومنهم ماجد (اسم مستعار) الذين نزح من الهرموشية في دير الزور نحو الحسكة، بعد سيطرة تنظيم “داعش” على مدينته. عمل ماجد الأربعيني بائعاً للخضار، ثم سائق “سرفيس ميكروباص” على طريق القحطانية- ديرك، ثم عرض عليه أحد أصدقائه العمل في حفر الأنفاق، التي كانت تشرف عليها “قوات سورية الديمقراطية” في محافظة الحسكة.

ظروف العمل في حفر الأنفاق لا تراعي شروط السلامة، ولا تقدّم تعويضات لمن يتعرضون للإصابات، يخبرنا ماجد: “سقط النفق علينا في ريف الحسكة، كُنا أكثر من 10 عمال، كانت كمية الإسمنت وقضبان الحديد قليلة، لكنها كانت كافية لتتسبب بإصابات لنا جميعاً، بالنسبة لي دخل طرف قضيب حديدي في خاصرتي، ما زلت أعاني من الأوجاع المختلفة، أسعفوني إلى أحد المستشفيات العسكرية، وبعد يومين قالوا لي يجب أن تتلقى العلاج في المنزل، فعدد الأسرّة قليل، والعناصر العسكرية أهم، لا يزال القيح ينزّ بكثافة من جرحي، والواضح أنني لن أتمكن من العودة إلى العمل مجدداً”.

 يقول ماجد بعد أن فقد عمله الوحيد: “ما زلت أتذكر ضحكة المسؤول الذي زارني في المستشفى، حين حدثته عن تعويض الإصابة، حيث رفض بالمطلق الحديث عن أي تعويض أو راتب”.

بحسب مصادر مختلفة تتابع ورش العمل، تبين أن تبدلات حصلت خلال العامين الأخيرين في حفر الأنفاق، فبعد أن كانت مديرية الإسكان العسكري التابعة ل”قوات سوريا الديمقراطية” تشرف عليها، تم إبعادها من الإشراف المباشر، ووفقاً للمصادر تم حصر خرائط الأنفاق بقيادات من كرد تركيا، وتم إسنادها مباشرة إلى متعهدي حفر.

 يُشترَط أن يكون متعهدو الحفر حصراً من كرد تركيا ومن العسكريين الموثوق بهم، وأكثرهم لم يعد قادراً على الانخراط في المعارك بسبب التقدم في العمر أو الإصابات المختلفة. وأكدت المصادر وجود مخارج لتلك الأنفاق بالقرب من الحدود التركية، ومعبر سيمالكا الحدودي، وجبل شنكال في كردستان العراق.

لا عقود ولا تعويض وفاة

تقدَّر مساحة القحطانية بــ872 كيلومتراً مربعاً، وتتبع لها قرابة 98 قرية، ويقدَّر عدد فتحات الأنفاق في ناحية القحطانية وريفها بنحو 450 فتحة، منها 12 فتحة نفق قرب الحدود التركية، ويقدَّر طول شبكة الأنفاق فيها بنحو 420 كيلومتراً. أبرزها في قرية خزنة المختلطة بين العرب والكرد، حيث تعتبَر إحدى الأنفاق الرئيسية والمركزية، خاصة وأن قسماً من أهالي القرية متعاونون جداً مع “قوات سوريا الديمقراطية”، ومنها تتوزع الأنفاق الفرعية صوب النفق المركزي الآخر في القحطانية. 

ولم يكن ماجد الوحيد الذي عانى من انعدام الاهتمام والرعاية الصحية، لكنه ربما كان الأوفر حظاً، فهو بقي على قيد الحياة، على العكس من قصة أحمد النازح من بلدة العريشة، الذي  استقر به المطاف في ناحية القحطانية، وفقد حياته أثناء الحفر. 

زارت معدّة التحقيق منزل أحمد الذي يقع على أطراف الناحية، وتقول شقيقته شيماء لـ”درج”: “ضاق بنا الحال، لا عمل ولا معيل سوى أحمد، الذي لم يجد أمامه أفضل من العمل في حفر الأنفاق، وليته لم يفعل”، تبكي شيماء بحرقة وتتلمس صورة شقيقها وتضيف: “أحياناً كانت تمضي أسابيع ولا نلتقي به، وكنا نسمع صوته فقط عبر الهاتف، الذي يُمنع أن يحتوي على كاميرا أو أن يكون حديثاً، بل من النوع الذي يُستخدم للاتصال عبر شبكة الخليوي فحسب”، وتضيف: “تأخر علينا كثيراً، مضى على غيابه قرابة 20 يوماً، قبل أن نعرف أنه فقد حياته في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر قبل عامين، جراء انهيار النفق بسبب ضعف الأساسات والأعمدة”.

 تختم شيماء حديثها “طالبنا بتعويض وفاة، أو استمرار الراتب، لكن المسؤولين عن الأنفاق رفضوا وقالوا لنا لا توجد أي تعويضات رحمه الله وفقط. ونعاني حالياً من انقطاع المورد المالي الوحيد لنا، رفض الزواج كي يصرف علينا، وتوفي وهو أعزب، وفقدنا معيلنا، أي حياة هذه”.

 صفوان من قرى ريف القحطانية، الذي كان مع أحمد لحظة انهيار النفق، قال لنا: “نجوت بأعجوبة لا أعرف كيف، لكني أحمل إصابة تسببت لي بإعاقة دائمة في ذراعي، وفقدان نسبة 4/10 من نظري، اكتفوا بشراء بعض الأدوية لي، والمستشفى كان مجاناً، لم يمنحونا أي شيء آخر، ولم نوقّع على أي عقد عمل، ولا حقوق لنا أبداً”.

أرقام متضاربة

وفقاً للمصادر فإن حوالي 3500 عامل يعملون في حفر الأنفاق، وتبلغ نسبة المتضررين وذوي الإصابات المباشرة جراء انهيار النفق فوقهم، أو غير المباشرة بسبب أمراض الرئة والتنفس والعين والجلد قرابة 12%، لا ينالون أية حقوق مالية أو تعويضات، وليس لهم سوى استلام الراتب مقابل العمل فقط.

 الجهة المشرفة على “العمل” مجهولة وغامضة، ولا أحد يعرف من أين يصدر القرار، نعرف فقط المتعهدين، أما ما دونهم فلا، وحالياً تم توقيف الحفر بسبب الظروف السياسية والأمنية، بخاصة بعد استيلاء الميليشيات المسلحة التابعة للمعارضة السورية على منبج، وكشف عدم أهمية تلك الأنفاق في الحماية كما كانوا يقولون.

أجور زهيدة وغياب المزايا وتمييز في نوعية الأعمال

منذ عامين تقريباً، تم الاعتماد على متعهدي حفر من كرد تركيا، الذين بدورهم يُسخّرون أعداداً كبيرة من النازحين والفقراء والمحتاجين في عمليات الحفر، ووفقاً لعدد من الشهادات يتم منح من 10-13 دولاراً لكل كيلومتر واحد، يتم توزيعها على كامل أعضاء فريق الحفر، وأحياناً يتم منح كل واحد منهم ربطة خبر مجانية، وإن لم يكن يومياً. 

يقول عدوان من ريف القحطانية: “أحياناً نحصل على بعض الخضار بالمجان، سابقاً وفي بدايات حفر الأنفاق كان العدد قليل، وكنا نحصل على وجبات غداء مجانية، لكن في العامين الأخيرين تقريباً، توقف كل شيء، صرنا ننام في العراء أو في الخيم أو البيوت المهجورة أو غير المكتملة البناء، نعمل قرابة 12 ساعة، ثم تأتي الورشة/ الوردية الأخرى لتكمل العمل، ونتبادل المهام وهكذا، نطبخ حيث نعمل، ولا نحصل على أيام عطل قبل إتمام 15 يوم عمل متواصلة”.

 يضيف عدوان: “بعد سلسلة الاعتراضات والمشاكل الصحية، حصلنا على بطاقات معاينة مجانية لكنها لا تشمل كافة التخصصات أو الأطباء، مع حسم نسبة قليلة من أسعار الأدوية، من دون أن تشمل كافة أفراد العائلة”.

 يختم عدوان حديثه: “يوجد بيننا أطفال قصر أعمارهم أقل من 18 عاماً، يعملون في أعمال تفوق أحجامهم وأوزانهم، وللأسف فإن عمال الحفر جميعهم من المكون العربي فقط، في حين أن المتعهدين من كرد تركيا الذين يقبضون على كل الكيلومتر الواحد 1000 دولار، أما مسؤولو تثبيت الأعمدة فهم من الكرد السوريين، ويقبضون على كل كيلومتر 14 دولاراً، في حين من يقوم بالتثبيت وزرع الحديد والإسمنت وفك مساند التثبيت، التي تكون عادة من الخشب القاسي، هم من العرب وتعتبَر من ضمن خدمة الحفر، أي من دون بدل إضافي”.

لا حصانة قانونية للضحايا!

في حديثي مع الجرحى أو ذوي الضحايا، أكدوا جميعاً أن “محاكم الإدارة الذاتية لا تهتم بالقضية، وأساساً لا يجرؤ أحد على فتح هذا الموضوع مع أي طرف، بسبب عامل الخوف والقصاص، وبرغم لجوء شقيقة أحمد إلى القضاء في القامشلي، على أمل الحصول على تعويض مادي، عادت وهي تبكي، فالقاضي قال لها، لا نعرف مما تتحدثين عنه ولا عقود معك، ولا شروط جزائية، هو وغيره عملوا من دون ضمانات ولا عقود ولا شروط، ليس لكم أي شيء هنا”. 

وفي حديثه مع درج قال المحامي (و.د) من أهالي المالكية شرق الحسكة: “لا يوجد نص قانوني يجرّم حفر الأنفاق، بسبب عدم معرفة الغالبية العظمى من مسؤولي الصف الأول في الإدارة الذاتية، لماذا يتم حفر الأنفاق؟ ولمن تتبع؟ ومن يقوم بها؟ وبسبب مجهولية الموضوع وعدم تحرك الجهاز الأمني لتوقيف الحفر، تولّد لدى القضاة طابع وسلوك خوف يمنعهم من تلقّي أي دعوة أو الحديث بها، هذه القضايا لا تصل إلى المحكمة أساساً، لأنه لا يوجد محامٍ يملك الجرأة في الدفاع عن حقوق الضحايا”.

لا مكان للبارزانيين في العمل

التقت معدّة التقرير مع العامل كميل الذي ينتمي إلى عائلة سياسية موالية ل”تيار البارزانيين” والمنتسبين لأحد الأحزاب المقربة منهم، فقال: “كنت أُشرف على الحفر، وأتقاضى 1000 دولار شهرياً، كان عملي الإشراف على الورديات، وتوفير ما يلزم من معدات وإسمنت وحديد، لم أكن أدخل إلى داخل الأنفاق أبداً، فقط أزور الفتحات الرئيسية، وأستمع إلى المطالب، إلى أن جاء في أحد الأيام أحد المسؤولين الذي كان يتحدث بلهجة كردية غريبة عنا، وطردني من العمل”.

وأضاف: “قال لي أنت عميل وخائن، وستصوّر الأنفاق وتبيع الصور للخونة، لا مكان لك بيننا، إذهب من هنا فوراً”، وختم كميل حديثه: ” أمره عجيب، الكرد المعارضون له خونة، برغم أنني لا أمارس العمل الحزبي والسياسي أبداً، لكنني طُردت من العمل بجريرة أهلي، أنا شاهد على مآسي هؤلاء العمال، ظروفهم المعيشية والمهنية بالغة السوء، أحياناً لا يتمكنون من تناول أكثر من وجبتين في اليوم، وقسم كبير منها على نفقته الخاصة”.

رائد بو حمدان | 31.01.2025

17 تشرين: المساحة الحاضنة التي نسجها اللبنانيون لحماية بلدهم

تبني 17 تشرين (بمن فيها من نواب وقوى وناشطين/ات وإعلاميين/ات وغيره) لوصول جوزيف عون الى الرئاسة، وصناعة خيار نواف سلام، ليس فعل قطف أو تسلّق، بل هو خدمة للبنان ومصلحة لكل اللبنانيين، ومصدر طمأنينة للعيش المشترك بمنع غلبة فريق لبناني على آخر.
29.01.2025
زمن القراءة: 7 minutes

تكررت في الفيديوهات التي توثق مشاهد المناطق التي انسحبت منها “قوات سوريا الديموقراطية” صور لأنفاق تحت الأرض، سبق الحديث عنها، كونها تسببت بحوادث لسكان الحسكة، إذ سقط طفل بعمر 7 سنوات في إحدى حفر تهوية الأنفاق  قبل أشهر من سقوط النظام، وانهيار شارع سكني في مدينة القامشلي عام 2023.

هذه الأنفاق التي يحيط بها الغموض، تشير التقارير إلى أن الإدارة الذاتية بدأت بحفرها منذ سنوات في أماكن سيطرتها، وبعضها حسب مصادر محلية التقيناها، الهدف منها بناء مستشفيات تحت الأرض، كالمبنى المعمول به في مدينة المالكية. إضافة إلى حفر أنفاق واسعة تسمح بسير مركبات كبيرة في داخلها، كتلك الموجودة في مدينة الحسكة، كما تم   الحفر أيضاً في مناطق أثرية مثل عين ديوار وغيرها، وإنشاء مخابئ سرية لتخزين الأسلحة في معظم المناطق.

 تُستخدَم بعض الأنفاق لبيع النفط لتركيا، كما حصل في أنفاق الدرباسية، حيث كانت صهاريج النفط تُفرغ حمولتها في أنابيب تم تمديدها داخل الأنفاق وصولاً إلى تركيا، قبل اكتشاف الأمر، ناهيك بدور هذه الأنفاق في المعركة مع ميليشيات المعارضة السورية المدعومة من تركيا، التي علّق على جدواها مسؤول أميركي لصحيفة “فورين بوليسي” في عام 2019 قائلاً: “المقاتلون الكرد مشهورون بتطوير أساليب إبداعية لمحاربة الجيوش المتطورة… الأتراك فوجئوا بفعالية (هذه الأنفاق)”.

المصادر التي التقينا بها تؤكد ما ورد في التقارير الصحافية، أن الأنفاق كلها ترتبط ببعضها بعضاً، عبر خارطة تشبه شبكة العنكبوت، وتتألف من نفق رئيسي يتم حفره ثم إحكام إغلاق غلافه الخارجي، بعد الانتهاء من أعمال الترميم، ثم يتم تزويدها بأجهزة الأوكسجين، أو الإكثار من الحفر الكبيرة التي تتيح دخول عمال الحفر وخروجهم، وإخراج الأتربة من الأنفاق.

لكن هذه التقنيات و”الأساليب الإبداعية” في الأساليب القتالية لدى الكرد، قائمة على أساس عمالة تصل إلى حد “السخرة”، ومن دون ضمانات صحية أو مهنية لمن يحفرون الأنفاق، ومنهم ماجد (اسم مستعار) الذين نزح من الهرموشية في دير الزور نحو الحسكة، بعد سيطرة تنظيم “داعش” على مدينته. عمل ماجد الأربعيني بائعاً للخضار، ثم سائق “سرفيس ميكروباص” على طريق القحطانية- ديرك، ثم عرض عليه أحد أصدقائه العمل في حفر الأنفاق، التي كانت تشرف عليها “قوات سورية الديمقراطية” في محافظة الحسكة.

ظروف العمل في حفر الأنفاق لا تراعي شروط السلامة، ولا تقدّم تعويضات لمن يتعرضون للإصابات، يخبرنا ماجد: “سقط النفق علينا في ريف الحسكة، كُنا أكثر من 10 عمال، كانت كمية الإسمنت وقضبان الحديد قليلة، لكنها كانت كافية لتتسبب بإصابات لنا جميعاً، بالنسبة لي دخل طرف قضيب حديدي في خاصرتي، ما زلت أعاني من الأوجاع المختلفة، أسعفوني إلى أحد المستشفيات العسكرية، وبعد يومين قالوا لي يجب أن تتلقى العلاج في المنزل، فعدد الأسرّة قليل، والعناصر العسكرية أهم، لا يزال القيح ينزّ بكثافة من جرحي، والواضح أنني لن أتمكن من العودة إلى العمل مجدداً”.

 يقول ماجد بعد أن فقد عمله الوحيد: “ما زلت أتذكر ضحكة المسؤول الذي زارني في المستشفى، حين حدثته عن تعويض الإصابة، حيث رفض بالمطلق الحديث عن أي تعويض أو راتب”.

بحسب مصادر مختلفة تتابع ورش العمل، تبين أن تبدلات حصلت خلال العامين الأخيرين في حفر الأنفاق، فبعد أن كانت مديرية الإسكان العسكري التابعة ل”قوات سوريا الديمقراطية” تشرف عليها، تم إبعادها من الإشراف المباشر، ووفقاً للمصادر تم حصر خرائط الأنفاق بقيادات من كرد تركيا، وتم إسنادها مباشرة إلى متعهدي حفر.

 يُشترَط أن يكون متعهدو الحفر حصراً من كرد تركيا ومن العسكريين الموثوق بهم، وأكثرهم لم يعد قادراً على الانخراط في المعارك بسبب التقدم في العمر أو الإصابات المختلفة. وأكدت المصادر وجود مخارج لتلك الأنفاق بالقرب من الحدود التركية، ومعبر سيمالكا الحدودي، وجبل شنكال في كردستان العراق.

لا عقود ولا تعويض وفاة

تقدَّر مساحة القحطانية بــ872 كيلومتراً مربعاً، وتتبع لها قرابة 98 قرية، ويقدَّر عدد فتحات الأنفاق في ناحية القحطانية وريفها بنحو 450 فتحة، منها 12 فتحة نفق قرب الحدود التركية، ويقدَّر طول شبكة الأنفاق فيها بنحو 420 كيلومتراً. أبرزها في قرية خزنة المختلطة بين العرب والكرد، حيث تعتبَر إحدى الأنفاق الرئيسية والمركزية، خاصة وأن قسماً من أهالي القرية متعاونون جداً مع “قوات سوريا الديمقراطية”، ومنها تتوزع الأنفاق الفرعية صوب النفق المركزي الآخر في القحطانية. 

ولم يكن ماجد الوحيد الذي عانى من انعدام الاهتمام والرعاية الصحية، لكنه ربما كان الأوفر حظاً، فهو بقي على قيد الحياة، على العكس من قصة أحمد النازح من بلدة العريشة، الذي  استقر به المطاف في ناحية القحطانية، وفقد حياته أثناء الحفر. 

زارت معدّة التحقيق منزل أحمد الذي يقع على أطراف الناحية، وتقول شقيقته شيماء لـ”درج”: “ضاق بنا الحال، لا عمل ولا معيل سوى أحمد، الذي لم يجد أمامه أفضل من العمل في حفر الأنفاق، وليته لم يفعل”، تبكي شيماء بحرقة وتتلمس صورة شقيقها وتضيف: “أحياناً كانت تمضي أسابيع ولا نلتقي به، وكنا نسمع صوته فقط عبر الهاتف، الذي يُمنع أن يحتوي على كاميرا أو أن يكون حديثاً، بل من النوع الذي يُستخدم للاتصال عبر شبكة الخليوي فحسب”، وتضيف: “تأخر علينا كثيراً، مضى على غيابه قرابة 20 يوماً، قبل أن نعرف أنه فقد حياته في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر قبل عامين، جراء انهيار النفق بسبب ضعف الأساسات والأعمدة”.

 تختم شيماء حديثها “طالبنا بتعويض وفاة، أو استمرار الراتب، لكن المسؤولين عن الأنفاق رفضوا وقالوا لنا لا توجد أي تعويضات رحمه الله وفقط. ونعاني حالياً من انقطاع المورد المالي الوحيد لنا، رفض الزواج كي يصرف علينا، وتوفي وهو أعزب، وفقدنا معيلنا، أي حياة هذه”.

 صفوان من قرى ريف القحطانية، الذي كان مع أحمد لحظة انهيار النفق، قال لنا: “نجوت بأعجوبة لا أعرف كيف، لكني أحمل إصابة تسببت لي بإعاقة دائمة في ذراعي، وفقدان نسبة 4/10 من نظري، اكتفوا بشراء بعض الأدوية لي، والمستشفى كان مجاناً، لم يمنحونا أي شيء آخر، ولم نوقّع على أي عقد عمل، ولا حقوق لنا أبداً”.

أرقام متضاربة

وفقاً للمصادر فإن حوالي 3500 عامل يعملون في حفر الأنفاق، وتبلغ نسبة المتضررين وذوي الإصابات المباشرة جراء انهيار النفق فوقهم، أو غير المباشرة بسبب أمراض الرئة والتنفس والعين والجلد قرابة 12%، لا ينالون أية حقوق مالية أو تعويضات، وليس لهم سوى استلام الراتب مقابل العمل فقط.

 الجهة المشرفة على “العمل” مجهولة وغامضة، ولا أحد يعرف من أين يصدر القرار، نعرف فقط المتعهدين، أما ما دونهم فلا، وحالياً تم توقيف الحفر بسبب الظروف السياسية والأمنية، بخاصة بعد استيلاء الميليشيات المسلحة التابعة للمعارضة السورية على منبج، وكشف عدم أهمية تلك الأنفاق في الحماية كما كانوا يقولون.

أجور زهيدة وغياب المزايا وتمييز في نوعية الأعمال

منذ عامين تقريباً، تم الاعتماد على متعهدي حفر من كرد تركيا، الذين بدورهم يُسخّرون أعداداً كبيرة من النازحين والفقراء والمحتاجين في عمليات الحفر، ووفقاً لعدد من الشهادات يتم منح من 10-13 دولاراً لكل كيلومتر واحد، يتم توزيعها على كامل أعضاء فريق الحفر، وأحياناً يتم منح كل واحد منهم ربطة خبر مجانية، وإن لم يكن يومياً. 

يقول عدوان من ريف القحطانية: “أحياناً نحصل على بعض الخضار بالمجان، سابقاً وفي بدايات حفر الأنفاق كان العدد قليل، وكنا نحصل على وجبات غداء مجانية، لكن في العامين الأخيرين تقريباً، توقف كل شيء، صرنا ننام في العراء أو في الخيم أو البيوت المهجورة أو غير المكتملة البناء، نعمل قرابة 12 ساعة، ثم تأتي الورشة/ الوردية الأخرى لتكمل العمل، ونتبادل المهام وهكذا، نطبخ حيث نعمل، ولا نحصل على أيام عطل قبل إتمام 15 يوم عمل متواصلة”.

 يضيف عدوان: “بعد سلسلة الاعتراضات والمشاكل الصحية، حصلنا على بطاقات معاينة مجانية لكنها لا تشمل كافة التخصصات أو الأطباء، مع حسم نسبة قليلة من أسعار الأدوية، من دون أن تشمل كافة أفراد العائلة”.

 يختم عدوان حديثه: “يوجد بيننا أطفال قصر أعمارهم أقل من 18 عاماً، يعملون في أعمال تفوق أحجامهم وأوزانهم، وللأسف فإن عمال الحفر جميعهم من المكون العربي فقط، في حين أن المتعهدين من كرد تركيا الذين يقبضون على كل الكيلومتر الواحد 1000 دولار، أما مسؤولو تثبيت الأعمدة فهم من الكرد السوريين، ويقبضون على كل كيلومتر 14 دولاراً، في حين من يقوم بالتثبيت وزرع الحديد والإسمنت وفك مساند التثبيت، التي تكون عادة من الخشب القاسي، هم من العرب وتعتبَر من ضمن خدمة الحفر، أي من دون بدل إضافي”.

لا حصانة قانونية للضحايا!

في حديثي مع الجرحى أو ذوي الضحايا، أكدوا جميعاً أن “محاكم الإدارة الذاتية لا تهتم بالقضية، وأساساً لا يجرؤ أحد على فتح هذا الموضوع مع أي طرف، بسبب عامل الخوف والقصاص، وبرغم لجوء شقيقة أحمد إلى القضاء في القامشلي، على أمل الحصول على تعويض مادي، عادت وهي تبكي، فالقاضي قال لها، لا نعرف مما تتحدثين عنه ولا عقود معك، ولا شروط جزائية، هو وغيره عملوا من دون ضمانات ولا عقود ولا شروط، ليس لكم أي شيء هنا”. 

وفي حديثه مع درج قال المحامي (و.د) من أهالي المالكية شرق الحسكة: “لا يوجد نص قانوني يجرّم حفر الأنفاق، بسبب عدم معرفة الغالبية العظمى من مسؤولي الصف الأول في الإدارة الذاتية، لماذا يتم حفر الأنفاق؟ ولمن تتبع؟ ومن يقوم بها؟ وبسبب مجهولية الموضوع وعدم تحرك الجهاز الأمني لتوقيف الحفر، تولّد لدى القضاة طابع وسلوك خوف يمنعهم من تلقّي أي دعوة أو الحديث بها، هذه القضايا لا تصل إلى المحكمة أساساً، لأنه لا يوجد محامٍ يملك الجرأة في الدفاع عن حقوق الضحايا”.

لا مكان للبارزانيين في العمل

التقت معدّة التقرير مع العامل كميل الذي ينتمي إلى عائلة سياسية موالية ل”تيار البارزانيين” والمنتسبين لأحد الأحزاب المقربة منهم، فقال: “كنت أُشرف على الحفر، وأتقاضى 1000 دولار شهرياً، كان عملي الإشراف على الورديات، وتوفير ما يلزم من معدات وإسمنت وحديد، لم أكن أدخل إلى داخل الأنفاق أبداً، فقط أزور الفتحات الرئيسية، وأستمع إلى المطالب، إلى أن جاء في أحد الأيام أحد المسؤولين الذي كان يتحدث بلهجة كردية غريبة عنا، وطردني من العمل”.

وأضاف: “قال لي أنت عميل وخائن، وستصوّر الأنفاق وتبيع الصور للخونة، لا مكان لك بيننا، إذهب من هنا فوراً”، وختم كميل حديثه: ” أمره عجيب، الكرد المعارضون له خونة، برغم أنني لا أمارس العمل الحزبي والسياسي أبداً، لكنني طُردت من العمل بجريرة أهلي، أنا شاهد على مآسي هؤلاء العمال، ظروفهم المعيشية والمهنية بالغة السوء، أحياناً لا يتمكنون من تناول أكثر من وجبتين في اليوم، وقسم كبير منها على نفقته الخاصة”.

29.01.2025
زمن القراءة: 7 minutes
|
آخر القصص
“دمقرطة” صناعة الأبطال
ديانا عيتاوي - مدوّنة في التواصل والتصميم | 31.01.2025
المواجهة مع منطق “البعث” في لبنان يجب أن تستمر 
كريم صفي الدين وعزت زهر الدين | 30.01.2025

اشترك بنشرتنا البريدية