fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

أن تقرأ ميشيل فوكو في 2023… “الخطاب الفلسفي” في عالم ما بعد الحقيقة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

هناك نوع من النوستالجيا  يعتلي من يقرأ مخطوط “الخطاب الفلسفي” للفرنسي ميشيل فوكو الصادر هذا العام، مفاهيمه عن “الحقيقة” و”الأنا” و”المكان” تصطدم مع واقعنا الحالي المحكوم بالهويات الجندرية وما بعد الحقيقة، والحساسيات المفرطة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

ما زال الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو (1926-1984) يُثير الجدل حتى بعد موته بأقل من 40 عاماً، أصداء علاقاته الجنسية تتردد في بعض القصص القصيرة، اتهامات “تحرشه بالأطفال في مقبرة تحت ضوء القمر في تونس” أشعلت العالم الثقافيّ عام 2021، حين ذُكرت في فقرة ضمن كتاب “معجمي للخراء” لـغي سورمان.

شخصية فوكو الإشكاليّة، بفانلته ذات القبة العالية، وصلعته اللمّاعة، جزء من الثقافة الشعبيّة، ومع كل كتاب جديد، يعود الى الواجهة، إذ صدر عام 2018، الجزء الرابع من ثلاثيته الشهيرة “تاريخ الجنسانيّة”، المعنون بـ”اعترافات اللحم” الذي أثار حفيظة بعض المحافظين كونه يناقش “الطهرانيّة المسيحيّة”، وأدوات الكنيسة في “تقنين الجسد”.

صدر أيضاً عام 2021 كتاب منسيّ، كان مخطوطه متروكاً في كاليفورنيا، بعنوان “فوكو في كاليفورنيا: قصة حقيقية عن الفيلسوف الفرنسي الشهير حين أخذ الأسيد في وادي الموت”، الذي يحكي مغامرة فوكو في مستعمرات “الهيبيين عراة الصدور” في السبعينات، وتعاطيه حجر الفلاسفة /LSD  حتى البكاء، قائلاً أمام صخور وادي الموت: “أنا أعرف الحقيقة”. 

آخر مسودات فوكو  التي ظهرت إلى العلن هي كتاب “الخطاب الفلسفي”، الذي صدر هذا العام عن دار “غاليمارد”، المخطوط الذي ألفه فوكو عام 1966، والذي حصلت “دار الساقي” اللبنانيّة أخيراً على حقوق نشره، يصل إلى 250 صفحة. يناقش الكتاب مقاربة صاحب “المراقبة والمعاقبة”، لتاريخ الفلسفة، والخطاب الفلسفيّ بعد فريدريك نيتشه، أي بعد موت الإله والتبشير بالإنسان الخارق، أو بداية فلسفة الحداثة.

يطرح فوكو في الكتاب، السؤال التقليدي في تاريخ الفلسفة، “ما هي…؟”، السؤال الذي طرحه جورجيو أغيمبين عام 2006  في كتابه “ما هو الجهاز المفاهيمي؟”، أو “ما هي البراغماتيّة” لويليم جيمس، الأسئلة التي يأخذ فيها الكاتب موضع المراقب، ليعيد تعريف تاريخ موضوعه وأسلوب تحرّكه في الزمان وبين القطاعات الفكريّة.

كتب فوكو المخطوطة في لحظة تاريخية لافتة، بعد صدور كتابه “الكلمات والأشياء”، واستقلال الجزائر، وقبل ثورة الـ68 الطالبية في فرنسا، وتحطم مركزية الجامعات الفرنسيّة. حقبة الستينات وما حوته من أفكار ومقدمات لما بعد الحداثة، لم تكن واضحة أمام صاحب “السياسات الحيويّة”، اقتصاد السوائل لم يكن منزلياً، أي لم تتحول غرف النوم إلى مساحات لـ”العمل” على أونلي فانز، ولم يكن هناك رؤساء يغرّدون، أو مليونيريّة يسقطون سعر عملة رقميّة بـ”تغريدة”، والأهم، لم تكن هناك مراقبة شاملة لـ”كل شيء”، ولا شاشات وتطبيقات تحصد بياناتنا لتقدّم لنا “محتوى”.

“أنا” أقرأ “هنا” و”في الحاضر”

 نقاش فوكو في المخطوط، يلفت الانتباه، لا لبلاغته، والنوستالجيا الموجودة فيه (نوستالجيا القارئ نفسه، لا فوكو)، بل لكونه لا يحوي الفواتح (السكسي) المعهودة في كتبه، كما في مقدمة “تاريخ الجناسنيّة” (سفينة المجانين المنفيّة في البحر) أو “الكلمات والأشياء” (حكاية بورخيس عن الموسوعة الصينيّة)، بل إشارات عابرة إلى أعمال أدبية، كجاك الدموي و دون كيخوتة.

إذاً ،كيف نقرأ المخطوط الآن !

 علينا أن نتمهّل! هناك صنّاع محتوى كسروا مقاربته عن “أنا- الآن- في الحاضر”، أما مقارباته عن “الحقيقة”، فكيف يمكن فهمها في عالم ما بعد الحقيقة؟، لنتمهّل ولنفكر بفرضيته “أنا، هنا، وفي الحاضر-Je,ici, a present” بينما تدفق الـReels يهدد كيفية قراءة هذا المقال.

الـ”أنا” مفرداً بصيغة الجمع

يناقش فوكو في الكتاب مفهوم “الأنا” سواء تلك العلميةّ المحايدة، أو الفلسفيّة التي تنتج حُججها لحظة النطق، وتدّعي الحقيقة، تلك الأنا الديكارتيّة، التي شكك فيها صاحب “خطاب في المنهج” حين كان في  منفاه السويسريّ، مقدماً لنا الفاتحة الفلسفية الشهيرة: “كوجيتو إيرغو سوم- أنا أفكر إذاً أنا موجود”، العبارة قالها بينما كان يتأمل نار المدفأة وقد أحسّ بالبرد.

 لكن، اليوم، هذه الـ”أنا”، شديدة التفكك، لا حقيقة متفق عليها وراءها، بل “حقائق شخصيّة”، تظهر في كل القطاعات، هناك “الأنا” التي تشك في حقيقة وباء عالميّ، هناك “أنا” قررت أن تتحول إلى “كلب”، وهناك “أنوات” شكّلها الذكاء الاصطناعيّ. هناك جماعات تمارس تجارب علميّة (مبتذلة) لتثبت كرويّة الأرض.

“الأنا “الفلسفية التي يناقشها فوكو، الذي أخفى هويته الجندريّة بشكل كامل عن العلن، ولم يكشفها إلا في باريس، أصبحت الآن شديدة العلنيّة، تنتج “حقائقها” التي ما زالت تشعل وسائل التواصل الاجتماعيّ، حقائق تُغني اليمين المحافظ الذي يستفز كل هذه “الأنوات” بسؤال “ما هي المرأة؟”، الفيلم الذي أنتجه مات والش عام 2022،  وتحول إلى سؤال فلسفي،”ما هي المرأة؟” في ظلّ “علوم ثقافيّة” لا تعترف بالبيولوجيا، حسب المحافظين.

“هنا” في الواقع وعلى الشاشة

مفهوم الـ”هنا” الذي يناقشه فوكو حين نقرأه الآن، وتنويعاته ضمن الخطاب الفلسفي والعلمي، يحوي نوعاً من النوستالجيا،  إذ لم يشهد فوكو الحوادث “العلميّة” الكبرى، فالـ”هنا” الخاصة بالتجربة العلميّة ضمن المختبر أو حتى المستشفى حين ينطق الطبيب لحظة التشخيص في مكان معزول، تغيرت عام 1988، مع كارثة تشيرنوبل، الـ”هنا” في الخطاب العلميّ أصبحت “العالم” ، الخطأ العلمي والمصادفة أصبحت ذات نتائج تهدد “الجميع”.

الأمر ذاته مع وباء كورونا، ومع الذكاء الاصطناعي، التجربة العلميّة التي طرحت للتجريب، كانت نتائجها في كل مكان. بصورة أخرى، الـ”هنا” التي ينطق فيها الخطاب الفلسفيّ، عرضة لأخطار تهدد استمرارها (ألعاب لغويّة، شك في هوية الأنا، ذكاء اصطناعيّ)، ومهما حاول الخطاب الفلسفيّ الدفاع عن “حقيقته”، الـ”هنا” التي ينطق ضمنها، شديدة السياسيّة، ولا حياد إلا في النوم.

ناهيك بـ”العالم الافتراضي”، أين الـ”هنا” من ذاك الفضاء؟ حالياً، تجزأت “الأنا” إلى واقعية وافتراضيّة، وكلاهما تتحملان تبعات قانونيّة و”واقعية”، سواء كنا نتحدث عن “التحرش” الجماعي في العالم الافتراضي، أو الشخصيات الوهميّة التي تهدد الحقيقة، وأحياناً تغير مسار الحروب، كما التسجيل المزيف لفلودومير زيلينسكي، أين تضبط حدود “الهنا” و”الأنا” فيها؟

شدة المفارقات السابقة، تكشف أن قراءة الكتاب حالياً ترفيهيّة نوعا ما، حنين إلى تلك السنوات حيث لم يكن الفلاسفة أبطال الـReels، كجيجيك وبيترسون وجوديث باتلر، الذين تُختزل أفكارهم بمقاطع لا تطول عن 30 ثانية، يخبرنا فيه جيجيك “مهارته” في شتم الأمهات.

“في الحاضر” تحت المراقبة

الزمن الذي كُتب فيه المخطوط، لم يكن يحوي “مراقبة كليّة رأسماليّة”، الحاضر الذي يتجلى فيه الخطاب الفلسفيّ في “ذاك الزمن”، أشد صلابة مما هو عليه الآن، لم تكن هناك سياسات هويّة في الجامعات، ولم تكن شوارع باريس، بقرب الكوليج دو فرانس، محاطة بالكاميرات، التي تجادل فرنسا حالياً حول توظيف تقنيات التعرف على الوجه فيها.

الحاضر الآن، أشد ميوعة وجدليّة مما كان عليه، هناك درونات في السماء، أقمار صناعيّة تستطيع رصد الحمامة في عشّها، كما أن الخطاب الفلسفيّ  في راهنيته، لم يعد أسير الكتب أو قاعات المحاضرات، ولا حتى الممرات والمكتبات والهوامش كما زمن اليونان، هناك بود كاست، وكتاب صوتي، ومنشورت على “فايسبوك”، والأهم، هناك “شعبنة” الفلسفة للدهماء.

الحاضر بزمانيته، أصبح محكوماً بأرشيفات رقميّة، ومراقبة شاملة، وتدفق هائل من الإعلانات والأفكار، الى حدّ ضياع معناه نوعاً ما، حتى الخطاب الأدبي، المتخيّل، لم ينجُ من طغيان أخلاق “الأنا” على الحاضر والماضي، ألا تُعاد قراءة التاريخ الآن وفق أيديولوجيا يساريّة تعيد تكوين الماضي بما يتناسب مع الحاضر؟ ألم يقع فوكو نفسه ضحيّة هذا؟

 يرى فوكو أن الفلسفة تتبنى خطاباً لإنتاج الحقيقة، بعكس الآدب، لكن مع الغرق في المعاني اللغويّة، والأفعال الأدائيّة، وإعادة إنتاج أدب “نظيف” مهذب، واعٍ لحقوق الأقليات، من يجرؤ أن يقول: أنا، الآن، في الحاضر، أقول الحقيقة؟.

جيفري كرم - أستاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية الأميركية | 12.04.2025

النسيان كسياسة: عن الحرب التي لم تنتهِ في لبنان

لم تكن الحرب الأهلية اللبنانيّة مجرّد صراع أهلي تمّ تجاوزه، بل أساس للنظام الذي تلاها، وبدل أن تكون لحظة تأسيس لذاكرة وطنية، أصبحت لحظة إنتاج لسياسة النسيان. كلّ ما يُذكّر بالحرب من محاكمات إلى مناهج دراسية، إلى أرشيفات، اعتُبر تهديداً يجب إسقاطه.
20.08.2023
زمن القراءة: 5 minutes

هناك نوع من النوستالجيا  يعتلي من يقرأ مخطوط “الخطاب الفلسفي” للفرنسي ميشيل فوكو الصادر هذا العام، مفاهيمه عن “الحقيقة” و”الأنا” و”المكان” تصطدم مع واقعنا الحالي المحكوم بالهويات الجندرية وما بعد الحقيقة، والحساسيات المفرطة.

ما زال الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو (1926-1984) يُثير الجدل حتى بعد موته بأقل من 40 عاماً، أصداء علاقاته الجنسية تتردد في بعض القصص القصيرة، اتهامات “تحرشه بالأطفال في مقبرة تحت ضوء القمر في تونس” أشعلت العالم الثقافيّ عام 2021، حين ذُكرت في فقرة ضمن كتاب “معجمي للخراء” لـغي سورمان.

شخصية فوكو الإشكاليّة، بفانلته ذات القبة العالية، وصلعته اللمّاعة، جزء من الثقافة الشعبيّة، ومع كل كتاب جديد، يعود الى الواجهة، إذ صدر عام 2018، الجزء الرابع من ثلاثيته الشهيرة “تاريخ الجنسانيّة”، المعنون بـ”اعترافات اللحم” الذي أثار حفيظة بعض المحافظين كونه يناقش “الطهرانيّة المسيحيّة”، وأدوات الكنيسة في “تقنين الجسد”.

صدر أيضاً عام 2021 كتاب منسيّ، كان مخطوطه متروكاً في كاليفورنيا، بعنوان “فوكو في كاليفورنيا: قصة حقيقية عن الفيلسوف الفرنسي الشهير حين أخذ الأسيد في وادي الموت”، الذي يحكي مغامرة فوكو في مستعمرات “الهيبيين عراة الصدور” في السبعينات، وتعاطيه حجر الفلاسفة /LSD  حتى البكاء، قائلاً أمام صخور وادي الموت: “أنا أعرف الحقيقة”. 

آخر مسودات فوكو  التي ظهرت إلى العلن هي كتاب “الخطاب الفلسفي”، الذي صدر هذا العام عن دار “غاليمارد”، المخطوط الذي ألفه فوكو عام 1966، والذي حصلت “دار الساقي” اللبنانيّة أخيراً على حقوق نشره، يصل إلى 250 صفحة. يناقش الكتاب مقاربة صاحب “المراقبة والمعاقبة”، لتاريخ الفلسفة، والخطاب الفلسفيّ بعد فريدريك نيتشه، أي بعد موت الإله والتبشير بالإنسان الخارق، أو بداية فلسفة الحداثة.

يطرح فوكو في الكتاب، السؤال التقليدي في تاريخ الفلسفة، “ما هي…؟”، السؤال الذي طرحه جورجيو أغيمبين عام 2006  في كتابه “ما هو الجهاز المفاهيمي؟”، أو “ما هي البراغماتيّة” لويليم جيمس، الأسئلة التي يأخذ فيها الكاتب موضع المراقب، ليعيد تعريف تاريخ موضوعه وأسلوب تحرّكه في الزمان وبين القطاعات الفكريّة.

كتب فوكو المخطوطة في لحظة تاريخية لافتة، بعد صدور كتابه “الكلمات والأشياء”، واستقلال الجزائر، وقبل ثورة الـ68 الطالبية في فرنسا، وتحطم مركزية الجامعات الفرنسيّة. حقبة الستينات وما حوته من أفكار ومقدمات لما بعد الحداثة، لم تكن واضحة أمام صاحب “السياسات الحيويّة”، اقتصاد السوائل لم يكن منزلياً، أي لم تتحول غرف النوم إلى مساحات لـ”العمل” على أونلي فانز، ولم يكن هناك رؤساء يغرّدون، أو مليونيريّة يسقطون سعر عملة رقميّة بـ”تغريدة”، والأهم، لم تكن هناك مراقبة شاملة لـ”كل شيء”، ولا شاشات وتطبيقات تحصد بياناتنا لتقدّم لنا “محتوى”.

“أنا” أقرأ “هنا” و”في الحاضر”

 نقاش فوكو في المخطوط، يلفت الانتباه، لا لبلاغته، والنوستالجيا الموجودة فيه (نوستالجيا القارئ نفسه، لا فوكو)، بل لكونه لا يحوي الفواتح (السكسي) المعهودة في كتبه، كما في مقدمة “تاريخ الجناسنيّة” (سفينة المجانين المنفيّة في البحر) أو “الكلمات والأشياء” (حكاية بورخيس عن الموسوعة الصينيّة)، بل إشارات عابرة إلى أعمال أدبية، كجاك الدموي و دون كيخوتة.

إذاً ،كيف نقرأ المخطوط الآن !

 علينا أن نتمهّل! هناك صنّاع محتوى كسروا مقاربته عن “أنا- الآن- في الحاضر”، أما مقارباته عن “الحقيقة”، فكيف يمكن فهمها في عالم ما بعد الحقيقة؟، لنتمهّل ولنفكر بفرضيته “أنا، هنا، وفي الحاضر-Je,ici, a present” بينما تدفق الـReels يهدد كيفية قراءة هذا المقال.

الـ”أنا” مفرداً بصيغة الجمع

يناقش فوكو في الكتاب مفهوم “الأنا” سواء تلك العلميةّ المحايدة، أو الفلسفيّة التي تنتج حُججها لحظة النطق، وتدّعي الحقيقة، تلك الأنا الديكارتيّة، التي شكك فيها صاحب “خطاب في المنهج” حين كان في  منفاه السويسريّ، مقدماً لنا الفاتحة الفلسفية الشهيرة: “كوجيتو إيرغو سوم- أنا أفكر إذاً أنا موجود”، العبارة قالها بينما كان يتأمل نار المدفأة وقد أحسّ بالبرد.

 لكن، اليوم، هذه الـ”أنا”، شديدة التفكك، لا حقيقة متفق عليها وراءها، بل “حقائق شخصيّة”، تظهر في كل القطاعات، هناك “الأنا” التي تشك في حقيقة وباء عالميّ، هناك “أنا” قررت أن تتحول إلى “كلب”، وهناك “أنوات” شكّلها الذكاء الاصطناعيّ. هناك جماعات تمارس تجارب علميّة (مبتذلة) لتثبت كرويّة الأرض.

“الأنا “الفلسفية التي يناقشها فوكو، الذي أخفى هويته الجندريّة بشكل كامل عن العلن، ولم يكشفها إلا في باريس، أصبحت الآن شديدة العلنيّة، تنتج “حقائقها” التي ما زالت تشعل وسائل التواصل الاجتماعيّ، حقائق تُغني اليمين المحافظ الذي يستفز كل هذه “الأنوات” بسؤال “ما هي المرأة؟”، الفيلم الذي أنتجه مات والش عام 2022،  وتحول إلى سؤال فلسفي،”ما هي المرأة؟” في ظلّ “علوم ثقافيّة” لا تعترف بالبيولوجيا، حسب المحافظين.

“هنا” في الواقع وعلى الشاشة

مفهوم الـ”هنا” الذي يناقشه فوكو حين نقرأه الآن، وتنويعاته ضمن الخطاب الفلسفي والعلمي، يحوي نوعاً من النوستالجيا،  إذ لم يشهد فوكو الحوادث “العلميّة” الكبرى، فالـ”هنا” الخاصة بالتجربة العلميّة ضمن المختبر أو حتى المستشفى حين ينطق الطبيب لحظة التشخيص في مكان معزول، تغيرت عام 1988، مع كارثة تشيرنوبل، الـ”هنا” في الخطاب العلميّ أصبحت “العالم” ، الخطأ العلمي والمصادفة أصبحت ذات نتائج تهدد “الجميع”.

الأمر ذاته مع وباء كورونا، ومع الذكاء الاصطناعي، التجربة العلميّة التي طرحت للتجريب، كانت نتائجها في كل مكان. بصورة أخرى، الـ”هنا” التي ينطق فيها الخطاب الفلسفيّ، عرضة لأخطار تهدد استمرارها (ألعاب لغويّة، شك في هوية الأنا، ذكاء اصطناعيّ)، ومهما حاول الخطاب الفلسفيّ الدفاع عن “حقيقته”، الـ”هنا” التي ينطق ضمنها، شديدة السياسيّة، ولا حياد إلا في النوم.

ناهيك بـ”العالم الافتراضي”، أين الـ”هنا” من ذاك الفضاء؟ حالياً، تجزأت “الأنا” إلى واقعية وافتراضيّة، وكلاهما تتحملان تبعات قانونيّة و”واقعية”، سواء كنا نتحدث عن “التحرش” الجماعي في العالم الافتراضي، أو الشخصيات الوهميّة التي تهدد الحقيقة، وأحياناً تغير مسار الحروب، كما التسجيل المزيف لفلودومير زيلينسكي، أين تضبط حدود “الهنا” و”الأنا” فيها؟

شدة المفارقات السابقة، تكشف أن قراءة الكتاب حالياً ترفيهيّة نوعا ما، حنين إلى تلك السنوات حيث لم يكن الفلاسفة أبطال الـReels، كجيجيك وبيترسون وجوديث باتلر، الذين تُختزل أفكارهم بمقاطع لا تطول عن 30 ثانية، يخبرنا فيه جيجيك “مهارته” في شتم الأمهات.

“في الحاضر” تحت المراقبة

الزمن الذي كُتب فيه المخطوط، لم يكن يحوي “مراقبة كليّة رأسماليّة”، الحاضر الذي يتجلى فيه الخطاب الفلسفيّ في “ذاك الزمن”، أشد صلابة مما هو عليه الآن، لم تكن هناك سياسات هويّة في الجامعات، ولم تكن شوارع باريس، بقرب الكوليج دو فرانس، محاطة بالكاميرات، التي تجادل فرنسا حالياً حول توظيف تقنيات التعرف على الوجه فيها.

الحاضر الآن، أشد ميوعة وجدليّة مما كان عليه، هناك درونات في السماء، أقمار صناعيّة تستطيع رصد الحمامة في عشّها، كما أن الخطاب الفلسفيّ  في راهنيته، لم يعد أسير الكتب أو قاعات المحاضرات، ولا حتى الممرات والمكتبات والهوامش كما زمن اليونان، هناك بود كاست، وكتاب صوتي، ومنشورت على “فايسبوك”، والأهم، هناك “شعبنة” الفلسفة للدهماء.

الحاضر بزمانيته، أصبح محكوماً بأرشيفات رقميّة، ومراقبة شاملة، وتدفق هائل من الإعلانات والأفكار، الى حدّ ضياع معناه نوعاً ما، حتى الخطاب الأدبي، المتخيّل، لم ينجُ من طغيان أخلاق “الأنا” على الحاضر والماضي، ألا تُعاد قراءة التاريخ الآن وفق أيديولوجيا يساريّة تعيد تكوين الماضي بما يتناسب مع الحاضر؟ ألم يقع فوكو نفسه ضحيّة هذا؟

 يرى فوكو أن الفلسفة تتبنى خطاباً لإنتاج الحقيقة، بعكس الآدب، لكن مع الغرق في المعاني اللغويّة، والأفعال الأدائيّة، وإعادة إنتاج أدب “نظيف” مهذب، واعٍ لحقوق الأقليات، من يجرؤ أن يقول: أنا، الآن، في الحاضر، أقول الحقيقة؟.

20.08.2023
زمن القراءة: 5 minutes
|
آخر القصص
المُعتقَل في الدراما التلفزيونية السورية… حساسية الجرح المفتوح
علاء الدين العالم - كاتب ومسرحي فلسطيني سوري | 12.04.2025
النسيان كسياسة: عن الحرب التي لم تنتهِ في لبنان
جيفري كرم - أستاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية الأميركية | 12.04.2025
من سهول دونباس في أوكرانيا إلى بادية الشام… وثائق حصرية ومصادر مفتوحة تكشف تكثيف روسيا حرب المسيّرات في سماء سوريا 
محمد بسيكي (سراج) عبد القادر ضويحي، كريستسان مامو، أليكسينا كالونكي (osint for ukraine) | 11.04.2025

اشترك بنشرتنا البريدية