طرحت “صفقة القرن” موضوع الشتات الفلسطيني، لا سيما في الأردن ولبنان وسوريا وغيرها من مناطق التجمعات الفلسطينية. ما عرضته التسريبات حول مصائر هذا الشتات كان التوطين مقابل “فدية”، وبدا هذا العرض قليل المعرفة في تعقيدات هذا الملف، وقليل الحساسية حيال مأساة هؤلاء اللاجئين. وجاءت إجراءات الحكومة اللبنانية حيال عمالة الفلسطينيين لتثبت أن هذا الملف صار جزءاً من ملفات فساد الأنظمة السياسية، وورقة مفاوضة في أكثر من اتجاه.
“درج” طلب من كتاب وصحافيين فلسطينيين يقيمون في دول الشتات كتابة قصصهم الخاصة والعامة في دول اللجوء. نبدأ اليوم بحكاية السينمائي والكاتب الفلسطيني نصري حجاج.
ولدتُ في خيمة في بداية خمسينات القرن الماضي ونشأت فيها وتعلمت في مخيم عين الحلوة، إلى أن بدأت أعي ما الحياة. كنت أظن أن الناس جميعاً، يعيشون في مخيمات وأن الناس كلهم، فلسطينيون مثلي ومثل سكان المخيم.
أستطيع بعد هذا العمر الطويل، أن أقول ببساطة إن الحياة في مخيم لاجئين في لبنان خصوصاً، كانت حياة قاسية. وجدت نفسي لاجئاً ولم أكن أعي من هو أو ما هو اللاجئ، ولم أختر اللجوء، كما لم يختر والداي حياة اللجوء، لكنهم عرفوا منذ البداية أي حياة سيعيشون، وكنت أعتقد أنها تشبه حياة الناس كلهم.
يوماً بعد يوم، بدأت تتكشف لنا حدة المأساة التي يمكن لتجمع بشري أن يعيشها في مخيم لجوء. تنظر إلى جغرافيا المخيم فتجده محاطاً بمدينة صيدا السنية شمالاً وقريتي مغدوشة ودرب السيم المسيحيتين جنوباً، وقرية المية ومية المسيحية شرقاً وحارة صيدا الشيعية إلى الشمال الشرقي. والمخيم يقبع في تلك الحفرة التي تحيطها بساتين الحمضيات غرباً. ومثل كل المخيمات التي نشأت في لبنان كان بالقرب من كل مخيم ثكنة للجيش اللبناني وداخل كلّ مخيم، كان هناك مخفرٌ للدرك اللبناني ومكتب للمخابرات اللبنانية، ظلا يتحكمان بمصير اللاجئين إلى خريف عام 1969، إثر اتفاقية القاهرة التي وقعت في مصر بين منظمة التحرير الفلسطينية والدولة اللبنانية بإشراف الرئيس جمال عبد الناصر، والتي تم إلغاؤها من طرف واحد في بداية حكم الرئيس السابق أمين الجميل.
في الخمسينات، كان دركيّ لبنانيٌّ واحد قادراً على التحكم بأهل المخيم جميعاً وكان عناصر المكتب الثاني يعتقلون أي لاجئ لأي سبب يرونه.
أتذكر، أنه كان يمنع على اللاجئين البقاء ساهرين في بيوتهم الصغيرة إلى ما بعد التاسعة ليلاً فلطالما سمعنا طرقاً على شبابيك بيوتنا وصوتاً يأمرنا: طفّوا الضو وناموا!
كان الصوت لعنصر من عناصر المكتب الثاني.
أستطيع بعد هذا العمر الطويل، أن أقول ببساطة إن الحياة في مخيم لاجئين في لبنان خصوصاً، كانت حياة قاسية.
وكان يمنع على أكثر من شخصين السير معاً في طرقات المخيم، لأن ذلك في عرف السلطة اللبنانية القائمة في المخيم يُعتبر تظاهرة والتظاهر ممنوع! وكان يمنع اللاجئون من أي نشاط سياسي داخل المخيم أو خارجه، وكل من يضبط متلبساً بأي نشاط سياسي، كان مصيره السجن بغض النظر عن نوع النشاط الذي لم يكن عادة يشكل أي خطر على الأمن العام في لبنان. وكان على اللاجئين الذين يرغبون في زيارة أقارب لهم في مخيمات أخرى في الجنوب أو الشمال أو بيروت أو البقاع، التقدم بطلب لدى مراكز المكتب الثاني (المخابرات) في مخيماتهم مع إبراز هوياتهم وأسماء أقاربهم الذين يودون زيارتهم وعناوينهم وأعمالهم ودرجة القرابة، مع تحديد فترة الزيارة وأسبابها بالضبط! ثم يحصل هؤلاء على تراخيص الزيارة مختومة بختم الدولة وعندما يصلون إلى المخيم هدف الزيارة، عليهم قبل الذهاب إلى أقاربهم مراجعة فرع المكتب الثاني في ذلك المخيم وإبراز التصريح وتقديم المعلومات نفسها عن الأقارب.
أتذكر الدركي الذي كرهه اللاجئون في مخيمنا واسمه سركيس. كان يعاقب النساء اللواتي يرشقن ماء الغسيل في الأزقة أمام بيوتهن التي لم تكن غير أزقة ترابية في سنوات اللجوء الأولى، عندما لم تكن هناك مجارٍ ولا بنية تحتية. وكان العقاب دفع خمس ليرات لبنانية، كانت في ذلك الوقت تشكل ثروة، تفوق قدرة عائلات كثيرة.
وأتذكر حين خرج جارنا محمد الحمود من بيته إلى دكان قريب في الحارة وهو يرتدي بيجامته المقلمة، وصودف مرور سركيس ودركيّ آخر في دورية عادية، فناداه سركيس وصفعه على وجهه صفعة أشعرته بالذل، لأنه يخرج من بيته الى الدكان الذي لا يبعد أكثر من 20 متراً، وهو يرتدي بيجامته التي تستر كل جسده.
كان لكثر من لاجئي لبنان أقارب لجأوا الى سوريا عام 1948 كما حصل مع أبي الذي لجأ شقيقاه وأمه جدتي وأبناء عمومته إلى سوريا، وسكنوا في مخيم جرمانا. منذ عام النكبة، وإلى ما بعد هزيمة حرب حزيران 1967 لم يكن مسموحاً لفلسطينيي لبنان زيارة سوريا، كما كان يمنع فلسطينيو سوريا من زيارة لبنان.
بعد الهزيمة وربما لأسباب الأنظمة نفسها لتخفيف احتقان اللاجئين، سُمح بتبادل الزيارات بين الأقارب في البلدين، على أن نحصل على تصاريح زيارة من السلطتين اللبنانية والسورية، وهكذا اصطحبنا أبي جميعاً إلى سوريا لنلتقي جدتي وعمّيّ لأول مرة في حياتنا ولأول مرة لأبي بعد النكبة.
حين كنت في السابعة أيام الحرب اللبنانية الأولى عام 1958 كان الجيش اللبناني يتخذ من التلال المحيطة بالمخيم من جهة الشرق قواعد له، وكانت شاحنات الجيش تصل إلى نقطة قريبة من بيوتنا على نبع الماء الذي كنا نسميه “عين المسيحية”، لأن عائلة مسيحية كانت تمتلك الأرض وتسكن هناك. كنا نذهب نحن الصغار لنساعد الجيش في حمل عتاده أو أي شيء، وكنا نفرح بتلك المهمة.
وأتذكر أنه عندما قتل اللاجئون فلاح شبايطة وصالح الخطيب وأحمد الشايب الذين كانوا أعضاء في الحزب السوري القومي الاجتماعي، عندما أرسل لهم الجيش حافلة لتنقلهم إلى ديك المحدي حيث قيادة الحزب. مُنع أهالي القتلى من دفنهم في مقبرة صيدا للمسلمين السنة، حيث كان يدفن أهل المخيم أمواتهم. فدفنوا في حواكير بيوتهم داخل المخيم. كان بيت أحمد الشياب لا يبعد من بيتنا أكثر من بضعة أمتار، ولم أكن أعرف سرّ الدفن في هذا المكان، حيث كان أطفال أحمد الشايب يرون أول ما يرون عند الصباح قبر أبيهم القتيل. كانت هذه أول وأقسى تجربة لي مع الموت ومكان الدفن الذي لم نجرؤ نحن الصغار على المرور من الزاروب التي تطل عليه خوفاً من قرينة الميت.
لا أدري من الذي أطلق تلك التسمية، ولكنها كانت شائعة في طفولتنا يتداولها بعض السكان اللبنانيين المحيطين بالمخيم، فقد أطلقوا على عين الحلوة، جنينة الحيوانات!
كانت هذه التسمية تزرع في نفوسنا نحن الأطفال الخوف من المحيط، من الناس غير اللاجئين، ما عزز في نفوسنا عقدة الغيتو بكل ما تحمله تلك من تشابك. فنشأنا ونشأت معنا سيكولوجية الغيتو والخوف من الآخر وجاء أخيراً في اللحظة الراهنة وبعد تبدل مواقع النفوذ بين الطوائف اللبنانية، جدار العزل والأشرطة الشائكة وحواجز الجيش اللبناني حول عين الحلوة لنكتشف أننا لم نكن واهمين فقد أصبح الغيتو مطرحنا وبيتنا.