إن عدنا الى القرون الوسطى، ووجدنا فلاحاً احترق محصوله، فذهب إثر ذلك الى الكنيسة وأشعل شمعة، هل بإمكاننا أن نصفه بأنه يعاني من الستريس؟ وبذهابه إلى الكنيسة، هل يحاول أن يتعالج نفسياً؟.تبدو الإجابة سخيفة ومؤلمة. لكن، لماذا لم يكن هنالك أشخاص مُرهقون قديماً مقارنة مع عصرنا المسمّى عصر التوتر، على رغم التقدم الهائل في مستوى حياة البشر؟
الستريس على المستوى البيولوجي هو الإجهاد الجسدي نتيجة الضغوط النفسية (ربما)، لكن التعبير عن هذه الضغوط وتفسيرها لم يكونا مثل اليوم، إذ كان يتم التعامل معها عبر رؤى دينية، أو إبداعية أحياناً، القضية إذاً لا تتعلق بتعريف الستريس، بقدر ما تتعلق بكيفية التعامل معه والإبلاغ عنه.
لم يكن باستطاعة الناس استخدام عبارة “أمضيت يوماً مُجهداً في العمل”، لتبرير عدم ذهابهم إلى حفلة أو سلوكهم المشحون ضد أفراد عائلاتهم. يُحدَّد الستريس ضمن السياق التاريخي والمعارف المتداولة، كونه متعلقاً بالقراءة الاجتماعية لما يحدث على المستويين الجسدي والنفسي. كأن تقول إن السلوكيات التي تجعلك أباً جيداً تعتمد على الدماغ وهرموناته، لكن وجود نشاط دماغي لا يفسر كونك أباً جيداً، فالأبوة غير موجودة داخل الدماغ، هي في العالم الاجتماعي، الأمر ذاته مع الستريس، إذ إن وجوده يختلف عن تفسيره والتعبير عنه وتوظيفه.
نظريّة لـتفسير “كلّ شيء”
شهدت بدايات القرن العشرين اتجاهاً يعتبر المحفزات العنصر الأهم في سعادة العامل أو الموظف، وكان مجمل الحديث يرتكز على الخمول ومحاولة منعه. لكن في عام 1935، لاحظ الطالب النمساوي هانز سيلي (19 عاماً) الذي كان يدرس في جامعة براغ، أمراً شديد الوضوح خلال صفه الدراسي المكوّن من مرضى مصابين بعلل مختلفة. إذ خطر على بال سيلي بغتة وجود شبه بين جميع المرضى بصرف النظر عن حالتهم الطبية. كانوا جميعاً يشكون صداعاً، وآلاماً في المفاصل وفقداناً للشهية، ولساناً مبيضاً. باختصار بدوا جميعاً مرضى.
استعاد سيلي هذه اللحظة في ما بعد، حين أصبح طبيباً نفسياً وواحداً من رواد دراسات الستريس، إذ يقول مستذكراً: “الآن بعد نصف قرن، لا أزال أذكر بوضوح الانطباع العميق الذي تركته تلك الأفكار علي آنذاك. منذ فجر تاريخ الطب، يسعى الأطباء إلى تركيز جهودهم على التعرف إلى أمراض الفرد، واكتشاف علاجات محددة لها من دون أي انتباه يُذكر لما هو أشد وضوحاً، وهو متلازمة أن تكون مريضاً فقط”.
فجّر الستريس نفسه كقنبلة في الطب والتحليل النفسي، وانتقلت أسس المرض النفسي من مبدأ صراع الذات مع الماضي ومواجهته (العصابية)، إلى مشكلات انكماش الرغبة والحماسة والسعادة.
تعرّض سيلي للسخرية حين عرض هذه الفكرة على معلمه، وجاء الرد عليه مشابهاً لما قاله،”الرجل إن كان سميناً فهو يبدو سميناً”، على رغم ذلك رفض التخلّي عن فكرته، إذ كان محركه فلسفياً بقدر ما هو طبي، فتاريخ النفعية لدى البشر كان أمله الرئيس وجود مقياس موحد لتفاؤلهم وسعادتهم، سواء عبر فكرة المنفعة أو الطاقة أو القيمة أو الانفعال.
ضرب سيلي على وتر “النظرية الواحدة” من خلال ملحوظته شديدة الابتذال، وهي أن المرضى يبدون مرضى، واستغرق الأمر منه عشر سنوات ليطوّر نظرية علمية اسمها (متلازمة التكيف العام)، والجديد فيها أنها غير محددة، ولا ترتبط بأي مسببات بعينها.
استكشف سيلي هذه المتلازمة من خلال إجراء تجارب على الحيوانات، فكان يغرقها في ماء بارد ويجرحها كي يرى كيف يحفز ذلك استجابات بيولوجية وطبيعية لديها، وهذه الاستجابات هي ما كان مهماً بالنسبة إليه. فالصحة ترتكز على مستوى مثالي من النشاط بعيد من الإفراط أو الندرة في التنبيه، إذ افترض أن لدى المرضى رد فعل جسدياً واحداً على مجموعة متنوعة من الضغوطات.
من الهندسة إلى الطب النفسي
كان مصطلح الستريس يُستخدم في الإشارة إلى (الفلزات) حتى أربعينات القرن العشرين، ولم يكن معروفاً خارج إطار الهندسة والفيزياء. فالقضيب المعدني يصبح مجهداً حين يعجز عن مجاراة الضغوط المفروضة عليه. وأدرك سيلي أن ما اعتبره المهندسون تلفاً في جسر مثلاً، كان هو المشكلة ذاتها التي تسمى (متلازمة التكيف العام).
أعطى سيلي المتلازمة اسماً في أعقاب الحرب العالمية، وهو “الستريس”. وبحلول الخمسينات، أصبحت حقلاً جديداً للبحث الطبي والبيولوجي، فالستريس مصطلح نشأ بعد الحرب العالميّة الثانية، عرفه سيلي ثلاث مرات عبر تاريخه، وفي كل مرة كان يشمل المصطلح فئات جديدة من الأشخاص. وربط سيلي بحثه العلمي في الستريس مع نظرية أخلاقية للمجتمع الصحي القائم على الأنانية وفلسفة متمركزة حول الذات، يهب من خلالها الفرد قصارى جهده للفوز بافتتان الآخرين، ما يُنتج نظاماً اجتماعياً متوازناً.
فجّر الستريس نفسه كقنبلة في الطب والتحليل النفسي، وانتقلت أسس المرض النفسي من مبدأ صراع الذات مع الماضي ومواجهته (العصابية)، إلى مشكلات انكماش الرغبة والحماسة والسعادة، وتحوّل الضغط النفسي من وسيلة للانتقاء الطبيعي والدافع إلى الابتكار والتكيف إلى مرض يجب معالجته.
اقتصاد السعادة
شكلت نظرية الستريس فرصة سانحة لعالم الإدارة، وشهد مكان العمل تغيرات هائلة، أهمها مهنة الموارد البشرية، وتبنت بعض أمكنة العمل الإداري سمات غرف الأطباء، ونشأت الصحة المهنية (الإجهاد يؤدي إلى تصلب الشرايين). وباتت هنالك حاجة إلى باحثين ومدربي تمارين رياضية ومعدي أنظمة غذائية.
ساهم الستريس في تغيير بيئة العمل الرأسمالية، التي تحولت من مسار خلق الحوافز والرغبة لدى الموظفين إلى ما يسمى معالجة الستريس. فالمنافسة التي تعتبر شريان الفكر الرأسمالي كانت تسبب الاكتئاب في بيئة العمل، وهي العامل الرئيسي لخلق الستريس، فالمنافسة تقتضي نجاح شخص واحد وفشل البقية. ولمواجهة المشروع الاشتراكي الذي يعالج المنافسة، كانت فكرة الستريس ومعالجته هي الأداة الناجحة.
الصحة النفسية ثروة
حالياً، تحوّل مفهوم التخوف من الملل الذي يسببه العمل، إلى التخوف من الملل الذي تسببه البطالة. وبدأت محاولة هدم الفروقات بين مفاهيم الصحة والسعادة والإنتاجية وإيجاد نظرية واحدية للجسد والعقل البشري، من خلال خلق نمط مثالي كتحدٍّ للستريس، لكنه، أي الستريس، أصبح صفة للقبول الاجتماعي بل ودلالة على طبقة اجتماعية، يمكن أن نقول إن الستريس دلالة على كونك إنساناً معاصراً، وهو تجربة تخولك أن تنضم الى المجتمع الصحي مستحيل التحقيق.
انعقد المؤتمر الاقتصادي في دافوس عام 2014، ووُجهت دعوات الى الرؤساء ومغنّي البوب والمنظمات الإنسانية وأصحاب المؤسسات التجارية، وكان من بين الحضور راهب بوذي نخبوي، اسمه ماثيو ريكارد، عالم البيولوجيا الفرنسي والمترجم للدالاي لاما، والذي يوصف بأنه أسعد رجل في العالم، نظراً الى أنه شارك في اختبار جامعة ويسكونسن لمعرفة مستويات السعادة داخل الدماغ، وحقق معدلاً كسر فيه الحد الأقصى للسعادة.
قبل انعقاد الجلسة الأولى للمؤتمر، قاد الراهب ضيوفه الى الحديقة، وعقد معهم جلسة تأمل تُسمى بالاستغراق العقلي، بدأها بالقول “أنت لست عبداً لأفكارك”، ووزع على الضيوف أجهزة لوحية تتصل بأجسادهم لتعطيهم معلومات عن مقدار سعادتهم.
كان هذا المؤتمر إشارة الى شكل السعادة والتخلص من الستريس. وبالفعل، ناقشت معظم جلسات المؤتمر علم الأعصاب والبوذية والصحة العقلية. وكانت المرة الأولى التي يتم فيها الحديث عن السعادة على مستوى الدول، وعن مصطلح “الصحة ثروة” الذي يمكن أن يرفع عجلة الاقتصاد عن طريق الاستثمار بالسعادة، وتحويل الرفاهية الى سلعة، عبر شركات تستطيع خلق أنماط للسعادة مدعومة بتقنيات تحسّن فاعلية الدماغ، وتعرقل الأفكار السيئة. سبقت الشركات الكبرى هذا الاعتراف الدولي بسنوات، إذ وظّفت شركة “غوغل” معلم تنمية روحية في مكاتبها للإشراف على الموظفين ومساعدتهم في تحقيق السعادة.
لقد صار خلق نظام واحد لسعادة البشر عبر التخلص من الستريس، ممكناً بشكل ملموس بسبب الاختراعات التقنية وظهور تطبيقات لقياس السعادة عبر مراقبة المستخدم وتتبعه وتنظيم حياته، وتحولت السعادة من فكرة فلسفية إلى قضية فيزيائية، واستُبدلت كلمة عقل بكلمة مزاج.
أصبحت الرسالة واضحة الآن، الأجهزة تستطيع معرفة سعادتك أكثر منك، وقد استخدمت الخوارزميات من قبل مواقع التواصل الاجتماعي لتحديد مقياس السعادة والستريس. بل وصل الأمر الى إصدار “فيسبوك” ورقة بحثية تقول إن الموقع يستطيع تغيير الأمزجة عبر التلاعب بجدولة الأخبار على الصفحة الرئيسية.
معالجة الستريس المعاصر تتم عبر دراسات تحسين المزاج وصناعة السعادة، إضافة الى أدوية الاكتئاب والقلق – اقتصاد أدوية الاكتئاب يشمل أكثر من أربعين في المئة من اقتصاد صناعة الأدوية – مع تغيير في تعريف الاكتئاب ليشمل أي شخص لا يسعى الى طلب السعادة، كان الحل تجارياً بخلق الستريس ومعالجته بدلاً من إيجاد حلول للمشاكل الاجتماعية. الموضوع أشبه برجل يحمل مئة كيلو غرام، وبدلاً من الحل البديهي في تخفيف الثقل أعطيناه مسكناً للألم.
خنزير سعيد أم بشري مستاء؟
إن ظهرت أصوات معارضة لفكرة الستريس والهوس الطبي بها حالياً، فسيبدو ذلك هرطقة من نوع ما، كما قال الطبيب النفسي توماس ساس: من يجرؤ على السخرية من الله في مجتمع ديني هو مهرطق. ومن يجرؤ على السخرية من الطب النفسي في مجتمع علاجي هو معتوه.
شهدت الحضارة البشرية تغيرات كثيرة، رأت في غالبيتها أن الأخلاق أهم من السعادة، باعتبار الأخيرة مقترنة باللذة (طبعاً إذا استثنينا الفلسفات اللذية)، وكان الستريس المولد للصراع النفسي والألم هو طريق الإبداع، ومع الماركسية جاءت فكرة توزيع المال بدلاً من توزيع السعادة المستحيل، فالأطروحة الأساسية للفكر البشري كانت “بشري مستاء خير من خنزير سعيد”، لكن عادت لنا السعادة والسلام عبر تطبيقات تكنولوجية بشكل أفلاطوني تدعو إلى خلق السعادة عبر خطة عمل وتنظيم وتعليم (كما تحدث أفلاطون)، هذه الخطة هي ضرورة القبول الاجتماعي، ومفادها أنك شخص مجهد لا تعرف شيئاً عن نفسك. بطريقة أقرب الى نظرية سيلي، بل أتجرأ وأقول إن تزاوج الرأسماليّة والعلم، هزم الإنسان نفسه، وربما أصبح الخنزير السعيد أفضل حالاً من البشري المستاء.
إقرأوا أيضاً: