fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

أن نفرح ونغضب مع إيمان خليف

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

فازت إيمان، لا فقط بالميدالية الذهبية في أولمبياد باريس 2024، بل انتصرت أيضاً على الصور النمطية وما يُتوقع أن تكونه النساء وما يجبرن على أن يكنّ عليه، فانتصرت على تحزّبات سياسية تقبع خلف الألعاب الرياضية.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

مَن تفاجأ مما حصل مع الملاكمة الجزائرية إيمان خليف، لم يجرب يوماً أن يُنتقد لأنه فتاة ظهرت بضع شعرات على وجهها، سواء لأسباب وراثية أو هرمونية، ولم يختبر أن يُستهجن لأنه ضخم، أو لأنه يمتلك كتفين عريضتين، ولم يختبر أن يُنتقد لأنه لم يُزل شعر يديه مثلاً!

مَن يستغربون ما يحصل مع إيمان ويستنكرونه، هل يعرفون حقاً حجم الانتقادات والصور النمطية والقوالب التي توضع النساء والفتيات (والرجال حتى) داخلها؟ ألم يسمعوا بنكات تُطلق حول رجل صوته ناعم؟ أو يمتلك جسداً ضئيلاً؟ أو قرر إطالة شعره أو وضع حلق في أذنه؟

النساء ومواضع الوهن في العالم

فازت إيمان، لا فقط بالميدالية الذهبية في أولمبياد باريس 2024، بل انتصرت أيضاً على الصور النمطية وما يُتوقع أن تكونه النساء وما يجبرن على أن يكنّ عليه، فانتصرت على تحزّبات سياسية تقبع خلف الألعاب الرياضية.

تثير قصة إيمان الفرح والفخر، حتى لو أنها لم تحصل على الميدالية الذهبية، وفي الوقت ذاته تثير الغضب أيضاً، لكشفها كم كراهية الاختلاف، كراهية يبدو أنها ما زالت موجودة في “كلّ” بقاع العالم.

يبدو أنه من الخطأ الاعتقاد أن كراهية الآخر قد تختفي بشكل كامل عن أي جزء من هذا الكوكب المشتعل بالتوجهات اليمينيّة التي تصب معظمها في كره الآخر وتستهدف أجساد النساء وسيادتهنّ عليه.

قصّة إيمان أكثر تعقيداً من مجرد صور نمطية عن النساء، إذ ترتبط بمستويات عدة تتعلق بالعنصرية ورهاب العابرين والخلافات السياسية العالمية، بالإضافة إلى انتهاك حقوق الإنسان عبر الفحوصات الطبية المتعلقة بتحديد الجنس، التي تخضع لها النساء بشكل أكبر من الرجال في عالم الرياضة، ولا أفضل من النظر إلى ما تتعرض له النساء لكشف مواضع الوهن في العالم.

إيمان القادمة من قرية فقيرة في الجزائر، ناضلت بكل ما تعنيه الكلمة لتحقيق حلمها، والتغلب على الصعوبات اللوجستية، والثقافية المتعلقة بكونها امرأة تريد دخول لعبة يُعتقد أنها “تخصّ الرجال”.

منذ دخول النساء منافسة الألعاب الأولمبية في عام 1928، تعرضن للتشكيك والفحص وانتهاك الخصوصية الجسدية، فقيل إنه تمَّ أخذ العداءة اليابانية كينو هيتومي جانباً قبل المباراة و”فحصها” للتأكد من أنوثتها بعد فوزها بميدالية فضية في سباق 800 متر عام 1964.

تجدر الإشارة الى أن جزءاً من هذا التشكيك جاء بعد اكتشاف تنكّر رجال شاركوا في مسابقات النساء وربحوا بالفعل، لكن المشكلة تكمن في الصورة النمطية وفي الشكّ في جنس كل امرأة ذات خصائص جسدية متفوّقة تختلف عن المعتاد، فلا يجب أن تمتلك النساء قوة تشبه تلك التي يمتلكها الرجال.

 من جهة أخرى، لا يُطلب عادة من الرجال إظهار حد معين لقوتهم، على عكس النساء اللواتي حين يظهرن حداً أعلى من المتوقع أو يقتربن من المقدرات البدنية الذكورية، يتم التشكيك فيهن!

حتى يومنا هذا، ما زال التشكيك في النساء على حاله، حتى بعد مرور أكثر من مئة عام على إطلاق الألعاب الأولمبيّة، وربما يحال التشكيك هذا إلى الرجال أنفسهم!

 شهدت المسابقات الأولمبيّة حالات “غشّ” كما حصل مع هيرمان راتجين، الذي ربط أعضاءه التناسلية بطريقة معينة ونافس كامرأة في دورة ألعاب برلين عام 1936، ليكشف الحقيقة صحافي في خمسينات القرن الماضي، روى له هيرمان قصته بشكل شخصي، وحُوِّلت القصة لاحقاً إلى فيلم طويل، حاز جوائز عدة.

أن تقفي عارية لتثبيت أنوثتك

الجدل حول إيمان يخبرنا التالي: “إذا لم تظهري الصفات الأنثوية المعتمدة مجتمعياً وثقافياً وأظهرت قوة بدنية عالية سيشكك فيك”، لكن “إن امتلكت صفات أنثوية متوافقة مع المعتقدات الثقافية والاجتماعية وقوة بدنية عالية، لن يتم التشكيك فيك!”.

في عام 1966، وقبل بدء بطولة المضمار والميدان الأوروبية في بودابست، طُلب من 234 رياضية أن يقفن عاريات أمام ثلاث طبيبات أمراض نسائية لإثبات أنهن إناث. للأسف، وافق  الاتحاد الدولي لألعاب القوى للهواة على هذا الاختبار المهين.

 مجرد تخيّل فكرة الوقوف عارية وإظهار ميزات جسدك الأنثوية لإثبات أنوثتك، هو في حدّ ذاته انتهاك صارخ لحقوق الإنسان وإهانة لكرامة عشرات النساء. والسؤال: ألا توجد طريقة للتأكد من جنس اللاعبة من دون إهانة كرامتها والتعدي على خصوصيتها؟.

فحوصات تحديد الأهلية الجنسية تغيرت مع مرور السنوات، وشهدت تطورات علمية متعددة، وكشفت الكثير من حالات الغش (رجال يتنكرون كنساء)، لكنها بقيت اختبارات غير دقيقة ومهينة للنساء. وبحسب منظمات حقوق الإنسان، تعتبر فحوصات كثيرة انتهاكاً لخصوصيتهن، ما دفع بعض اللاعبات الى الانتحار إثر الجدل الذي دار حول “جنسهنّ”.

في السنوات الأولى للأولمبياد، تمت تجربة المراقبة البصرية والفحص النسائي على أساس تجريبي لمدة عامين في بعض المسابقات، ولكن تم التخلّي عن هذه العمليات المهينة لصالح الاختبارات الجينية.

 لاحقاً، أصبح تحليل الكروماتين الجنسي والحمض النووي للكروموسومات الذكورية المعروفة بـ Y مطلوباً في جميع الرياضات قبل المسابقات الرياضية. 

منذ ذلك الحين، تبيّن أن التحقق من النوع الاجتماعي يعتبر تمييزاً كبيراً، ويسبب صدمة عاطفية ووصماً اجتماعياً لكثيرات من الإناث اللاتي يعانين من مشاكل ثنائية الجنس أو “متلازمة عدم الحساسية للأندروجين”، فيتم استبعادهن من المنافسة.

كل هذه التغيرات والفحوص المُهينة ألحقت أضراراً نفسية جسيمة باللاعبات، على سبيل المثال أدت إجراءات التحقق من الجنس إلى إلحاق ضرر كبير بعدد من الرياضيات المولودات بتشوهات وراثية نادرة نسبياً، إلى حد وصل ببعضهن الى محاولة الانتحار.

 أُلغي تحليل الكروماتين الجنسي بعد استخدامه عام 1968  من الاستخدام التشخيصي الشائع من علماء الوراثة، إذ أدى عدم وجود مختبرات لإجراء الاختبار بشكل روتيني إلى تفاقم مشكلة الأخطاء في التفسير من العمال الذين يفتقرون إلى الخبرة، ما أدى إلى نتائج إيجابية كاذبة وسلبية كاذبة.

ما بين رجل محتال واختبار الأهليّة الجنسيّة

لا شكّ في أن عمليات الاحتيال خطيرة لكنها تعكس كذلك الضغط الذي قد تتعرض له النساء. فمن جهة، قد يدخل رجل محتال وينافس النساء، ومن جهة أخرى هؤلاء النساء يجب أن يثبتن أنهن لسن رجالاً، وعلى النساء مواجهة كلَي الأمرين.

علمياً، المنافسة الأطول وذات الكتلة الجسدية الأكبر ستكون لديها نسبة أعلى من العضلات، كما سيكون حجم رئتيها وقلبها أكبر، ما يعني أن لديها فرصة أكبر للفوز. إذاً، فمن المحتمل أن تمتلك امرأة رياضية بنية بدنية أكثر قدرة على التنافس من النساء اللاتي يتمرن بصورة احترافيّة، ما يعني أن  اختبار الجنس يضع حداً أعلى لأداء المرأة الرياضي.

مثلاً، اللاعبة كاستر سيمينيا وبحسب التفكير الذكوري، اعتُبر أن جسدها ذكوري لأنها حققت نجاحاً ساحقاً لا يمكن أن يحققه  سوى رجل بحسب المشكّكين. فيما الاتهام السابق لا يلاحق الرجال، بمعنى أنه حين يكسر الرجل رقماً قياسياً لا يتم التشكيك فيه أو لا يفاجأ أحد بذلك، بل على العكس يتم تكريمه.

عام 2009، تعرضت العداءة الجنوب أفريقية كاستر سيمينيا لحادثة امتدت أصداؤها حتى اليوم. فخلال بطولة العالم لألعاب القوى في برلين، فازت سيمينيا بسباق 800 متر للسيدات، 

وبعد فوزها، تم التشكيك في جنسها وطُلب خضوعها لفحوصات تحديد الجنس، جاء هذا القرار في أعقاب الشكوك حول جنسها بناءً على أدائها وأبعادها الجسدية.

 استمرت عملية التحقيق والاختبارات لفترة طويلة، ما أدى إلى تأخير إعلان نتائج السباق النهائي، وأثار التحقيق جدلاً واسعاً حول حقوق الإنسان والتمييز.

 عام 2010، سُمِح لسيمينيا بالعودة إلى المنافسات بعدما حصلت على تصريح من IAAF، لكن السؤال: لما على أي امرأة أن تخوض مثل هذه التجربة المُهينة وتوضع تحت عدسة الاتهام والتشكيك فقط لأنها ذات قوة بدنية عالية، ألا توجد وسيلة تحديد جنس تحترم كرامة اللاعبات ولا تنتهك خصوصيتهن؟

عن السياسة التي تعيد تشكيل الرياضة

في كتاب “الأولمبيون الآخرون: الفاشية والغرابة وصناعة الرياضات الحديثة” (The Other Olympians: Fascism, Queerness, and the Making of Modern Sports)، يطرح الأكاديمي الأميركي جين غالوب صورة عن العلاقة المعقدة بين الرياضة والفاشية والتوجهات الجنسية غير التقليدية، والتي تحدثنا عنها آنفاً، مناقشاً كيف تداخلت هذه العوامل في تشكيل الرياضات الحديثة، فاستخدمت الأنظمة الفاشية الرياضة كأداة لتحقيق أهدافها السياسية والترويج لأيديولوجياتها.

يتطرق الكتاب أيضاً إلى كيفية تعامل المجتمعات مع الرياضيين الذين يمتلكون هويات جنسية غير تقليدية، وكيف ساهم ذلك في تشكيل البيئة الرياضية الحديثة.

يجمع الكتاب بين التحليل التاريخي والاجتماعي، ويعتقد غالوب أن البيئة الرياضية الحديثة هي مساحة مشبعة بالتعقيدات الاجتماعية والسياسية التي تجاوزت حدود المنافسة البدنية البحتة، والتي نعتقد أنها جوهر هذه المسابقة.

ويركز على فكرة أن الرياضة الحديثة ليست مجرد نشاط ترفيهي أو بدني، بل هي ساحة تتصادم وتتشابك فيها قضايا الهوية، السلطة، والجنس، إذ يتم استغلال الرياضة لأغراض سياسية.

في دورة الألعاب الأولمبية لعام 1936، استغلت ألمانيا بقيادة هتلر هذه الألعاب كمنصة لإظهار “تفوّق” العرق الآري وترويج أيديولوجيتها العنصرية والفاشية للعالم.

 لكن خطة هتلر لم تنجح، إذ فاز الرياضي الأميركي – الأفريقي جيسي أوينز بأربع ميداليات ذهبية، إلا أن الأمر لم ينتهِ هنا، إذ حاول الإعلام الألماني في حينها التقليل من هذا الانتصار، فتجنّب تسليط الضوء على إنجازات أوينز، كما حاول النظام تصوير إنجازه كدليل على ضعف السياسة الأميركية في مجال الرياضة.

روّج النازيون آنذاك لفكرة أن الولايات المتحدة اعتمدت على “غير البيض” لتحقيق الانتصارات، وللأسف حتى في أميركا لم يتم تكريم أوينز بصورة تليق بفوزه، إذ كان الفصل العنصري لا يزال سائداً، وتم التقليل من قيمة إنجازه فقط لأنه من أصحاب البشرة السوداء.

كذلك فعلت روسيا، التي استغلت دورة الألعاب الأولمبية الشتوية 2014 في سوتشي وكأس العالم لكرة القدم 2018 بهدف تحسين صورتها على الساحة الدولية، وإظهارها كدولة حديثة وقوية. على سبيل المثال، رافقت دورة الألعاب الأولمبية في حينها حملة دعائية كبيرة سلطت الضوء على روسيا كدولة متقدمة ومتطورة، محاولة طمس انتهاكات حقوق الإنسان أو قضايا الفساد.

نهايةً، انتصار إيمان سترافقه على الدوام تساؤلات واتهامات كما حصل وسيحصل مع لاعبات أخريات، لكن مثل إيمان يجعلنا نفكّر أكثر بخطواتنا المقبلة وبالمكان الذي سنوجّه لكمتنا إليه.

نجيب جورج عوض - باحث سوري | 21.03.2025

هيئة تحرير الشام، الطائفية، و”ميتريكس” سوريا الموازية

في سوريا الحالية الواقعية، لا يوجد خيار ولا كبسولتان ولا حتى مورفيوس: إما أن تنصاع لحقيقة هيمنة ميتريكس سوريا الافتراضية الموازية الذي أحضرته الهيئة معها من تجربة إدلب، أو عليك أن تتحول إلى ضحية وهدف مشروعين أمام خالقي الميتريكس وحراسه في سبيل ترسيخ وتحقيق هيمنة الميتريكس المذكور على الواقع.
10.08.2024
زمن القراءة: 7 minutes

فازت إيمان، لا فقط بالميدالية الذهبية في أولمبياد باريس 2024، بل انتصرت أيضاً على الصور النمطية وما يُتوقع أن تكونه النساء وما يجبرن على أن يكنّ عليه، فانتصرت على تحزّبات سياسية تقبع خلف الألعاب الرياضية.

مَن تفاجأ مما حصل مع الملاكمة الجزائرية إيمان خليف، لم يجرب يوماً أن يُنتقد لأنه فتاة ظهرت بضع شعرات على وجهها، سواء لأسباب وراثية أو هرمونية، ولم يختبر أن يُستهجن لأنه ضخم، أو لأنه يمتلك كتفين عريضتين، ولم يختبر أن يُنتقد لأنه لم يُزل شعر يديه مثلاً!

مَن يستغربون ما يحصل مع إيمان ويستنكرونه، هل يعرفون حقاً حجم الانتقادات والصور النمطية والقوالب التي توضع النساء والفتيات (والرجال حتى) داخلها؟ ألم يسمعوا بنكات تُطلق حول رجل صوته ناعم؟ أو يمتلك جسداً ضئيلاً؟ أو قرر إطالة شعره أو وضع حلق في أذنه؟

النساء ومواضع الوهن في العالم

فازت إيمان، لا فقط بالميدالية الذهبية في أولمبياد باريس 2024، بل انتصرت أيضاً على الصور النمطية وما يُتوقع أن تكونه النساء وما يجبرن على أن يكنّ عليه، فانتصرت على تحزّبات سياسية تقبع خلف الألعاب الرياضية.

تثير قصة إيمان الفرح والفخر، حتى لو أنها لم تحصل على الميدالية الذهبية، وفي الوقت ذاته تثير الغضب أيضاً، لكشفها كم كراهية الاختلاف، كراهية يبدو أنها ما زالت موجودة في “كلّ” بقاع العالم.

يبدو أنه من الخطأ الاعتقاد أن كراهية الآخر قد تختفي بشكل كامل عن أي جزء من هذا الكوكب المشتعل بالتوجهات اليمينيّة التي تصب معظمها في كره الآخر وتستهدف أجساد النساء وسيادتهنّ عليه.

قصّة إيمان أكثر تعقيداً من مجرد صور نمطية عن النساء، إذ ترتبط بمستويات عدة تتعلق بالعنصرية ورهاب العابرين والخلافات السياسية العالمية، بالإضافة إلى انتهاك حقوق الإنسان عبر الفحوصات الطبية المتعلقة بتحديد الجنس، التي تخضع لها النساء بشكل أكبر من الرجال في عالم الرياضة، ولا أفضل من النظر إلى ما تتعرض له النساء لكشف مواضع الوهن في العالم.

إيمان القادمة من قرية فقيرة في الجزائر، ناضلت بكل ما تعنيه الكلمة لتحقيق حلمها، والتغلب على الصعوبات اللوجستية، والثقافية المتعلقة بكونها امرأة تريد دخول لعبة يُعتقد أنها “تخصّ الرجال”.

منذ دخول النساء منافسة الألعاب الأولمبية في عام 1928، تعرضن للتشكيك والفحص وانتهاك الخصوصية الجسدية، فقيل إنه تمَّ أخذ العداءة اليابانية كينو هيتومي جانباً قبل المباراة و”فحصها” للتأكد من أنوثتها بعد فوزها بميدالية فضية في سباق 800 متر عام 1964.

تجدر الإشارة الى أن جزءاً من هذا التشكيك جاء بعد اكتشاف تنكّر رجال شاركوا في مسابقات النساء وربحوا بالفعل، لكن المشكلة تكمن في الصورة النمطية وفي الشكّ في جنس كل امرأة ذات خصائص جسدية متفوّقة تختلف عن المعتاد، فلا يجب أن تمتلك النساء قوة تشبه تلك التي يمتلكها الرجال.

 من جهة أخرى، لا يُطلب عادة من الرجال إظهار حد معين لقوتهم، على عكس النساء اللواتي حين يظهرن حداً أعلى من المتوقع أو يقتربن من المقدرات البدنية الذكورية، يتم التشكيك فيهن!

حتى يومنا هذا، ما زال التشكيك في النساء على حاله، حتى بعد مرور أكثر من مئة عام على إطلاق الألعاب الأولمبيّة، وربما يحال التشكيك هذا إلى الرجال أنفسهم!

 شهدت المسابقات الأولمبيّة حالات “غشّ” كما حصل مع هيرمان راتجين، الذي ربط أعضاءه التناسلية بطريقة معينة ونافس كامرأة في دورة ألعاب برلين عام 1936، ليكشف الحقيقة صحافي في خمسينات القرن الماضي، روى له هيرمان قصته بشكل شخصي، وحُوِّلت القصة لاحقاً إلى فيلم طويل، حاز جوائز عدة.

أن تقفي عارية لتثبيت أنوثتك

الجدل حول إيمان يخبرنا التالي: “إذا لم تظهري الصفات الأنثوية المعتمدة مجتمعياً وثقافياً وأظهرت قوة بدنية عالية سيشكك فيك”، لكن “إن امتلكت صفات أنثوية متوافقة مع المعتقدات الثقافية والاجتماعية وقوة بدنية عالية، لن يتم التشكيك فيك!”.

في عام 1966، وقبل بدء بطولة المضمار والميدان الأوروبية في بودابست، طُلب من 234 رياضية أن يقفن عاريات أمام ثلاث طبيبات أمراض نسائية لإثبات أنهن إناث. للأسف، وافق  الاتحاد الدولي لألعاب القوى للهواة على هذا الاختبار المهين.

 مجرد تخيّل فكرة الوقوف عارية وإظهار ميزات جسدك الأنثوية لإثبات أنوثتك، هو في حدّ ذاته انتهاك صارخ لحقوق الإنسان وإهانة لكرامة عشرات النساء. والسؤال: ألا توجد طريقة للتأكد من جنس اللاعبة من دون إهانة كرامتها والتعدي على خصوصيتها؟.

فحوصات تحديد الأهلية الجنسية تغيرت مع مرور السنوات، وشهدت تطورات علمية متعددة، وكشفت الكثير من حالات الغش (رجال يتنكرون كنساء)، لكنها بقيت اختبارات غير دقيقة ومهينة للنساء. وبحسب منظمات حقوق الإنسان، تعتبر فحوصات كثيرة انتهاكاً لخصوصيتهن، ما دفع بعض اللاعبات الى الانتحار إثر الجدل الذي دار حول “جنسهنّ”.

في السنوات الأولى للأولمبياد، تمت تجربة المراقبة البصرية والفحص النسائي على أساس تجريبي لمدة عامين في بعض المسابقات، ولكن تم التخلّي عن هذه العمليات المهينة لصالح الاختبارات الجينية.

 لاحقاً، أصبح تحليل الكروماتين الجنسي والحمض النووي للكروموسومات الذكورية المعروفة بـ Y مطلوباً في جميع الرياضات قبل المسابقات الرياضية. 

منذ ذلك الحين، تبيّن أن التحقق من النوع الاجتماعي يعتبر تمييزاً كبيراً، ويسبب صدمة عاطفية ووصماً اجتماعياً لكثيرات من الإناث اللاتي يعانين من مشاكل ثنائية الجنس أو “متلازمة عدم الحساسية للأندروجين”، فيتم استبعادهن من المنافسة.

كل هذه التغيرات والفحوص المُهينة ألحقت أضراراً نفسية جسيمة باللاعبات، على سبيل المثال أدت إجراءات التحقق من الجنس إلى إلحاق ضرر كبير بعدد من الرياضيات المولودات بتشوهات وراثية نادرة نسبياً، إلى حد وصل ببعضهن الى محاولة الانتحار.

 أُلغي تحليل الكروماتين الجنسي بعد استخدامه عام 1968  من الاستخدام التشخيصي الشائع من علماء الوراثة، إذ أدى عدم وجود مختبرات لإجراء الاختبار بشكل روتيني إلى تفاقم مشكلة الأخطاء في التفسير من العمال الذين يفتقرون إلى الخبرة، ما أدى إلى نتائج إيجابية كاذبة وسلبية كاذبة.

ما بين رجل محتال واختبار الأهليّة الجنسيّة

لا شكّ في أن عمليات الاحتيال خطيرة لكنها تعكس كذلك الضغط الذي قد تتعرض له النساء. فمن جهة، قد يدخل رجل محتال وينافس النساء، ومن جهة أخرى هؤلاء النساء يجب أن يثبتن أنهن لسن رجالاً، وعلى النساء مواجهة كلَي الأمرين.

علمياً، المنافسة الأطول وذات الكتلة الجسدية الأكبر ستكون لديها نسبة أعلى من العضلات، كما سيكون حجم رئتيها وقلبها أكبر، ما يعني أن لديها فرصة أكبر للفوز. إذاً، فمن المحتمل أن تمتلك امرأة رياضية بنية بدنية أكثر قدرة على التنافس من النساء اللاتي يتمرن بصورة احترافيّة، ما يعني أن  اختبار الجنس يضع حداً أعلى لأداء المرأة الرياضي.

مثلاً، اللاعبة كاستر سيمينيا وبحسب التفكير الذكوري، اعتُبر أن جسدها ذكوري لأنها حققت نجاحاً ساحقاً لا يمكن أن يحققه  سوى رجل بحسب المشكّكين. فيما الاتهام السابق لا يلاحق الرجال، بمعنى أنه حين يكسر الرجل رقماً قياسياً لا يتم التشكيك فيه أو لا يفاجأ أحد بذلك، بل على العكس يتم تكريمه.

عام 2009، تعرضت العداءة الجنوب أفريقية كاستر سيمينيا لحادثة امتدت أصداؤها حتى اليوم. فخلال بطولة العالم لألعاب القوى في برلين، فازت سيمينيا بسباق 800 متر للسيدات، 

وبعد فوزها، تم التشكيك في جنسها وطُلب خضوعها لفحوصات تحديد الجنس، جاء هذا القرار في أعقاب الشكوك حول جنسها بناءً على أدائها وأبعادها الجسدية.

 استمرت عملية التحقيق والاختبارات لفترة طويلة، ما أدى إلى تأخير إعلان نتائج السباق النهائي، وأثار التحقيق جدلاً واسعاً حول حقوق الإنسان والتمييز.

 عام 2010، سُمِح لسيمينيا بالعودة إلى المنافسات بعدما حصلت على تصريح من IAAF، لكن السؤال: لما على أي امرأة أن تخوض مثل هذه التجربة المُهينة وتوضع تحت عدسة الاتهام والتشكيك فقط لأنها ذات قوة بدنية عالية، ألا توجد وسيلة تحديد جنس تحترم كرامة اللاعبات ولا تنتهك خصوصيتهن؟

عن السياسة التي تعيد تشكيل الرياضة

في كتاب “الأولمبيون الآخرون: الفاشية والغرابة وصناعة الرياضات الحديثة” (The Other Olympians: Fascism, Queerness, and the Making of Modern Sports)، يطرح الأكاديمي الأميركي جين غالوب صورة عن العلاقة المعقدة بين الرياضة والفاشية والتوجهات الجنسية غير التقليدية، والتي تحدثنا عنها آنفاً، مناقشاً كيف تداخلت هذه العوامل في تشكيل الرياضات الحديثة، فاستخدمت الأنظمة الفاشية الرياضة كأداة لتحقيق أهدافها السياسية والترويج لأيديولوجياتها.

يتطرق الكتاب أيضاً إلى كيفية تعامل المجتمعات مع الرياضيين الذين يمتلكون هويات جنسية غير تقليدية، وكيف ساهم ذلك في تشكيل البيئة الرياضية الحديثة.

يجمع الكتاب بين التحليل التاريخي والاجتماعي، ويعتقد غالوب أن البيئة الرياضية الحديثة هي مساحة مشبعة بالتعقيدات الاجتماعية والسياسية التي تجاوزت حدود المنافسة البدنية البحتة، والتي نعتقد أنها جوهر هذه المسابقة.

ويركز على فكرة أن الرياضة الحديثة ليست مجرد نشاط ترفيهي أو بدني، بل هي ساحة تتصادم وتتشابك فيها قضايا الهوية، السلطة، والجنس، إذ يتم استغلال الرياضة لأغراض سياسية.

في دورة الألعاب الأولمبية لعام 1936، استغلت ألمانيا بقيادة هتلر هذه الألعاب كمنصة لإظهار “تفوّق” العرق الآري وترويج أيديولوجيتها العنصرية والفاشية للعالم.

 لكن خطة هتلر لم تنجح، إذ فاز الرياضي الأميركي – الأفريقي جيسي أوينز بأربع ميداليات ذهبية، إلا أن الأمر لم ينتهِ هنا، إذ حاول الإعلام الألماني في حينها التقليل من هذا الانتصار، فتجنّب تسليط الضوء على إنجازات أوينز، كما حاول النظام تصوير إنجازه كدليل على ضعف السياسة الأميركية في مجال الرياضة.

روّج النازيون آنذاك لفكرة أن الولايات المتحدة اعتمدت على “غير البيض” لتحقيق الانتصارات، وللأسف حتى في أميركا لم يتم تكريم أوينز بصورة تليق بفوزه، إذ كان الفصل العنصري لا يزال سائداً، وتم التقليل من قيمة إنجازه فقط لأنه من أصحاب البشرة السوداء.

كذلك فعلت روسيا، التي استغلت دورة الألعاب الأولمبية الشتوية 2014 في سوتشي وكأس العالم لكرة القدم 2018 بهدف تحسين صورتها على الساحة الدولية، وإظهارها كدولة حديثة وقوية. على سبيل المثال، رافقت دورة الألعاب الأولمبية في حينها حملة دعائية كبيرة سلطت الضوء على روسيا كدولة متقدمة ومتطورة، محاولة طمس انتهاكات حقوق الإنسان أو قضايا الفساد.

نهايةً، انتصار إيمان سترافقه على الدوام تساؤلات واتهامات كما حصل وسيحصل مع لاعبات أخريات، لكن مثل إيمان يجعلنا نفكّر أكثر بخطواتنا المقبلة وبالمكان الذي سنوجّه لكمتنا إليه.

10.08.2024
زمن القراءة: 7 minutes

اشترك بنشرتنا البريدية