تحذيرات الإخلاء التي نتلقاها نحن اللبنانيين بشكل يومي من الناطق باسم الجيش الإسرائيلي للإعلام العربي أفيخاي أدرعي، باتت جزءاً لا يتجزأ من حياتنا اليومية في الوقت الراهن.
لا نستطيع تجاهلها وإكمال حياتنا بشكل طبيعي، حتى لو كانت بيوتنا خارج المناطق المستهدفة، وفي الوقت نفسه ليس بإمكاننا فعل شيء ونحن نراقب أبنية ومواقع تراثية وشركات ومؤسسات تعيل آلاف العائلات تسقط أرضاً بعد عشر دقائق من توجيه الإنذار، بينما يدخل الجيش الإسرائيلي إلى الجنوب محتلاً رافعاً العلم ذي نجمة داوود فوق أرضنا.
بتنا ننتظر أن تُهدم بيوتنا أمام أعيننا من دون أن نحرك ساكناً، نتأمل طوبوغرافيا الحطام صوناً للذكريات واستعادة لبعضها، نمرّن أنفسنا على حفظ المعالم التي نعرفها، والتمرين هنا عقلي، قد ترافقه الدموع أو الرجفة أو ثوان من الاختناق…
تداول رواد مواقع التواصل فيديوات عدة عن كيفية استهداف إسرائيل مبنىً سكنياً في المنطقة الواقعة بين الطيونة والغبيري، واحد من هذه الفيديوات صُوّر من مسافة قريبة جداً، من شخص كان يوجه كاميرته نحو المبنى المستهدف، ليوثقّ لحظة تسوية البناء بالأرض حطاماً وغباراً.
للوهلة الأولى، يبدو للمتفرج أن الفيديو مأخوذ من أحداث فيلم أكشن، ولكن للأسف بتنا نصور بيوتنا وأبنيتنا تسوّى أرضاً من دون أن نحرك ساكناً، مرغبين ومجبرين، وفي داخلنا شعور بالقهر ليس للكلمات أن تستطيع التعبير عنه.
الجيش الإسرائيلي مُستشرس، ولا حدود يقف عندها، يسعى إلى قتل كل ما ينبض بالحياة لدينا، يستهدف الأطفال والنساء والأطقم الطبية والصحافية، ويقصف الهيئات الصحية والمستشفيات، ويطاول المواقع الأثرية، دون أي رادع، متخطياً كل المناشدات الدولية والقوانين الإنسانية التي تنص عليها قرارات الأمم المتحدة، التي تشدد على توفير الحماية لكل هؤلاء خلال الحروب والنزاعات.
من ينفض الغبار عن قلوبنا ؟
انتهك الجيش الإسرائيلي حرمة بيوتنا ودمّر ذكرياتنا وأحرق قلوبنا باحتراق ألعاب أطفالنا وكتبهم، والصورة العائلية التي التقطناها على مر السنوات، والتي توثق شريط حياتنا بلحظاته الحلوة القليلة التي عشناها، وأحرق أسواقنا التجارية التي كنا نتجوّل فيها بسعادة لا تضاهيها سعادة أخرى، ليس لشراء الأغراض غالباً، بل للتسكع فيها، لشرب كوب قهوة، لاشتمام هواء عليل، للتمتع برؤية الأبنية الأثرية فيها التي تعود الى مئات السنوات، بدءاً من سوق النبطية الى سوق مدينة بعلبك وآثارها، الى مدينة صور، المدينة الأقدم في التاريخ، التي تضم أبنية أثرية يعود بناؤها الى آلاف السنين، وليس انتهاء بالكنائس والمساجد التي تعود الى أزمنة بعيدة.
في هذا الوقت، نحن لا نملك حيلة للخروج من هذه الحرب الرهيبة، التي مهما طالت ستنتهي. ولكن من يستطيع أن ينفض الغبار عن قلوبنا وأعيننا، أن يعيد بناء ذكرياتنا قبل منازلنا وأسواقنا، أن يرمم ما في داخلنا من أسى على شعب دمرته الحروب المتكررة وموجات النزوح المتتالية؟ لقد سئمنا تسميتنا بطائر الفينيق، حتى أصبحنا لا نقوى على الوقوف مجدداً. لا نريد في الأصل أن نكون طائر الفينيق، فما نريده أن نعيش في بلد آمن مستقر بشكل دائم، أن يعيش أبناؤنا فيه متمسكين بأرض أجدادهم وبعلاقتهم المتجذرة بها، وليسوا آملين وطامحين الى الهجرة الى بلد بعيد آخر يوفر لهم الأمن والأمان والاستقرار.
“ما حدا منيح”
الواضح أن الجيش الإسرائيلي يقوم عمداً بتدميرنا، بشراً وحجراً. ولكن كيف وصلنا الى هذه الدرجة من القساوة لنقوم بأنفسنا بتصوير أملاكنا وهي تهدَّم وتُحرق بفعل الهمجية الإسرائيلية؟ لقد بتنا نتفرّج على سقوطنا من دون أن يرفّ لنا جفن، ربما بسبب هول ما حل بنا، أو بسبب قهر اخترق عمقنا فولّد عيوناً شاخصة باتت معتادة على سماع أصوات القصف العنيفة لنستيقظ صباحاً على هول الدمار الذي حلّ بمناطقنا، بدءاً بالضاحبة الجنوبية مروراً بالبقاع وصولاً الى الجنوب بقراه ومدنه، وهو دمار يتسرّب الى أعماقنا وأرواحنا، لنبدأ نهاراتنا بشكل طبيعي ظاهرياً في وضع غير طبيعي.
بالأمس، حدثتني صديقتي وزميلتي في العمل تسألني عن أحوالي، فقلت لها بخير، عدت وسألتها: وأنت كيف حالك: فأجابتني “منيحة، يعني بحس ما حدا منيح”. جملة تختصر الكثير من الدمار الذي في داخلنا. لقد أصبحت ليالينا طويلة جداً جداً محمّلة بالهدوء الحذر، في انتظار غارة من هنا وغارة من هناك، نتساءل: هل ستكون هذه الليلة الأخيرة لنا؟!
هذه الحرب ليست كغيرها من الحروب التي عشناها خلال السنوات السابقة، على رغم قساوتها جميعها. فهذه المرة نشهد على تدمير آثارنا وانتهاك إرثنا الثقافي والتعليمي والاستشفائي والطبي، نشهد على تقليص مساحة لبنان الجغرافية، ونشهد أيضاً على تدمير أجيالنا الفتية التي تتخذ من المدارس مراكز إيواء لها فيما يجب أن تكون مكانهم الطبيعي للعلم والثقافة وبناء المستقبل.
أمضينا أشهراً طويلة نشاهد حرب الإبادة الجماعية التي يقوم بها الجيش الإسرائيلي بحق أبناء غزة، واليوم نحن في صلب هذه الحرب التي بدأت منذ أكثر من شهر، متخطية نقاط الاشتباك لتجتاح حياتنا اليومية بكل تفاصيلها.
إقرأوا أيضاً: