fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

أوباما وإرث جيل عصر النهضة الأفريقي

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

صار معتقداً أساسياً يعتنقه الشعب والإعلام الأميركي أن باراك أوباما كان عصامياً أتى من العدم. وفي مُجتمع منقسم عنصرياً، ساعدت فكرة عدم انتمائه إلى قبيلة معيّنة على التصويت له. أما بالنسبة إلى منتقديه، الذين كان ترامب وحركة “بِيرثر” التي قادها حول مكان ولادة أوباما أكثرهم وضوحاً، فقد أعطى هذا الاعتقاد فرصةً للادعاء بأن أوباما ليس أميركياً حقيقياً…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

صار معتقداً أساسياً يعتنقه الشعب والإعلام الأميركي أن باراك أوباما كان عصامياً أتى من العدم. وفي مُجتمع منقسم عنصرياً، ساعدت فكرة عدم انتمائه إلى قبيلة معيّنة على التصويت له. أما بالنسبة إلى منتقديه، الذين كان ترامب وحركة “بِيرثر” التي قادها حول مكان ولادة أوباما أكثرهم وضوحاً، فقد أعطى هذا الاعتقاد فرصةً للادعاء بأن أوباما ليس أميركياً حقيقياً. وقد ظهر في الحقيقة، بصورة شخص انفرادي: الأبوان متوفيان وكذلك الجدان الأميركيان، وليس لديه أخوة من الأم والأب نفسيهما، وما تبقى من عائلته يعيش في كينيا، والتي من الممكن أن تكون مجهولة تماماً لبعض الأميركيين كما لو كانت القمر. أعطاه الزواج بميشيل ما بدا أنه ينقصه، عائلة ومجتمعاً، مع أن أصله الكيني كان يعني أنه فرد في المجتمع الأميركي- الأفريقي بالتبني وليس بالحق المكتسب.

ومع ذلك، ظلت الحقيقة المتميزة في سيرة أوباما الذاتية ولا تزال، وهي أنه ولد لأب كيني وأم بيضاء. كتب ديفيد مارانيس ​​في سيرته الذاتية عن الرئيس السابق والتي نشرها عام 2012، “لم تكن لتوجد حياة تمثل نتاجاً للعشوائية أكثر من حياة باراك أوباما”. لكن هذه هي الحال فقط عندما يُنظر إلى حياته من وجهة نظر أميركية. أما من منظور أفريقي، فتقليد إرسال الشباب للدراسة في الخارج -كما كانت الحال مع باراك أوباما الأب- هو تقليد عادي وقديم. عام 1852، أشار وليام ويلز براون، الكاتب المسرحي الأميركي، والعبد الهارب، والداعي لإلغاء العبودية، إلى أنه كان بإمكانه مقابلة ستة طلاب سود خلال ساعة واحدة من التجول في وسط لندن.

خلال النصف الثاني من القرن العشرين، ستشهد الأحداث الجيوسياسية -نهاية الإمبراطوريات، وصعود القومية في الدول الأفريقية، والحرب الباردة، والشيوعية، والموجة الثانية من “الرعب الأحمر”- تزايداً مطرداً في أعداد الأفارقة الذين يُرسلون للدراسة في بلاد ما وراء البحر. ولذلك فإن التقاء والدي أوباما كان نتيجة غير مقصودة للظروف السياسية، أكثر من كونه مصادفة عشوائية. قصة أوباما بالنسبة لي، مألوفة للغاية، فقد تقابل والداي في ظروف شبيهة للغاية.

كان أوباما مخطئاً في أمرٍ واحدٍ؛ وهو أن والده لم يكن ضمن الموجة الأولى من الطلاب المرسلين إلى الخارج لإتقان التكنولوجيا الغربية، على رغم أنه كان ضمن الموجة الأولى من الكينيين الذين يُرسلون إلى أميركا. حتى ذلك الحين، كان يتوجه معظم الطلاب الأفارقة إلى بريطانيا، ثم صاروا يُرسلون إلى الاتحاد السوفييتي والصين بعد الحرب العالمية الثانية.

كان البريطانيون عموماً حذرين في مسألة السماح لرعايا مستعمراتهم بالحصول على التعليم. بدأ المشروع الاستعماري بقدر كبيرة من الكبرياء والغطرسة، والحديث عن مهمة حضارية، والإيمان أن بإمكان بريطانيا تشكيل العالم كما تتصور. وكان التعليم جزءاً من هذه المهمة. ولكن عندما صار اللورد لوغارد -الحاكم الاستعماري وصاحب فكرة الإدارة المحلية- حاكماً لنيجيريا عام 1912، أخذ يحذر من “المرض الهندي”، ألا وهو خلق طبقة مثقفة –من خلال التعليم- تعتنق النزعة القومية. خوفاً من وقوع عصيان مسلح في أنحاء أخرى من الإمبراطورية، ورغم أنهم كانوا ما يزالون عاقدي العزم على تأسيس حكومة مؤلفة من مواهب محلية؛ سمح البريطانيون لبعض الأفارقة بنيل قدر قليل من التعليم يكفي فحسب لخلق نواة أساسية من البيروقراطيين السود، لكن ليس أكثر من ذلك.

أوباما مع عائلته حين كان يبلغ 9 سنوات

اختلفت بدايات سيراليون بعض الشيء عن البلدان الأفريقية الأخرى الواقعة في حيازة بريطانيا. ففي أواخر القرن الثامن عشر، أقامت منظمات خيرية بريطانية مستوطنات هناك لأشخاصٍ تحرروا من العبودية، والذين فر العديد منهم من أميركا إلى بريطانيا بعد قرار اللورد مانسفيلد عام 1772 الذي حمى العبيد الهاربين. وكجزء من التجربة الهندسة الاجتماعية تلك، بُنيت في العاصمة فريتاون مدارس بل وحتى جامعات. كانت جامعة فوره باي Fourah Bay، التي تأسست عام 1827، أول مؤسسة للتعليم العالي تُبنى في غرب أفريقيا بعد زوال الجامعات الإسلامية في تمبكتو. وفي أماكن أفريقية أخرى تخضع للسيادة البريطانية، وفي الأيام الأولى للإمبراطورية، كانت معظم المؤسسات التعليمية التي بُنيت هناك إنجيلية يقف وراءها المبشرين المسيحيين، وكانت إدارة الاستعمار تتسامح مع وجودها لكن لا تشجعها.

ومع ذلك، وبغض النظر عن المقاومة التي أظهرها المكتب الاستعماري البريطاني أمام فكرة المواطن الأصلي المتعلم، ففي الأيام الأخيرة للإمبراطورية، بدأ البريطانيون الذين وُوجهوا بطلبات متزايدة بالإصلاح الاستعماري، في بناء عدد محدود من المؤسسات الحكومية، بنية “توجيه شعب المستعمرات إلى طريق الحكم الذاتي ضمن إطار الإمبراطورية البريطانية”، على حد قول الوزير المحافظ أوليفر ستانلي عام 1943. وكان أي شكل من أشكال الحكم الذاتي المستقبلي يُقصد به خلق أساس للاستعمار الحديث وبناء حصن منيع ضد خطر الشيوعية.

إلا أن هذا التغيُّر في الموقف البريطاني سرعان ما تجاوزته الطموحات الأفريقية. إذ اشترك مليون رجل أفريقي في الحرب العالمية الثانية إلى جانب الحلفاء، وهذه الخبرات وسعت من نظرتهم إلى العالم، وتعلم كثيرون القراءة والكتابة؛ من بينهم أونيانغو جد أوباما، الذي سافر –وفقاً لحكاية العائلة- إلى بورما وسريلانكا والشرق الأوسط وأوروبا كطاهٍ لضابط بريطاني. وليس معروفاً ما إذا كان أونيانغو قد تعلم القراءة والكتابة بالإنجليزية قبل أن يتم تجنيده، الاحتمال وارد، لكنه غير مرجح. لكنه عندما عاد، تمكن من تعليم ابنه الصغير الحروف قبل إرساله إلى المدرسة. في كتاب “Dreams from My Father”، يروي باراك أوباما ذكريات شقيقة أونيانغو الناجية وعمته الكبيرة دورسيلا عن جده، “بالنسبة لأونيانغو كانت المعرفة هي أساس قوة الرجل الأبيض، وكان يريد أن يتأكد من أن يكون ابنه متعلماً مثل أي رجل أبيض”.

كانت الحركات القومية الناشئة تحرز تقدماً في جميع أنحاء القارة. بالنسبة إليهم، كان تعلم القراءة والكتابة ومن ثم إنشاء نخبة من المهنيين، هي الخطوات الأولى الأساسية نحو الاستقلال الكامل.

إقرأ أيضاً: كيف راقبت إدارة أوباما زوال الديموقراطية العربية ومهّدت الطريق أمام احتضان ترامب الديكاتوريّات؟

 

وفي سبيل مواجهة تحديات حياتهم الجديدة، وكذلك لمواكبة التطورات السياسية الداعمة للوطن، نظم الطلاب القادمين من بلدان تعانى الاستعمار أنفسهم داخل مجتمعات وجمعيات، وكان أحد هذه المنظمات هو اتحاد طلاب غرب أفريقيا ذو النفوذ الساطع، فإذا ما اُعتبرت لندن هي قلب المقاومة، فإن اتحاد طلاب غرب أفريقيا هو نظام الدورة الدموية للمقاومة. كان والدي وجميع أصدقائه أعضاء في اتحاد طلاب غرب أفريقيا، كما هو الحال بالنسبة إلى جميع الطلاب الوافدين من دولة غرب أفريقية، الذين تحدثت معهم خلال هذه الحقبة الزمنية.

ولما كانت وزارة المستعمرات تشعر بالقلق من الوتيرة التي تتجمع بها دعوات الاستقلال، فقد راقبت -عن كثب- أنشطة الطلاب. قامت الوزارة في لندن بتمويل دارَي ضيافة للطلاب، ما ساعد الكثير من الطلاب الذين منعهم التمييز العنصري من العثور على سكن لائق (كما أبقوا الطلاب بسهولة في مكان واحد). تجسس الموظفون المدنيون أيضاً على الطلاب الأفارقة من خلال جهاز الاستخبارات البريطانية MI5. كانت هناك لعبة شد الحبل داخل وزارة المستعمرات: من جهة كان هناك جناح “الحمائم” الذين فضّلوا اتّباع نهج يهدف إلى تعزيز العلاقات الطيبة مع قادة المستقبل؛ ومن جهة أخرى، كان جناح “الصقور” المتشدّدين القلقين من أن الأفكار الشيوعية قد تتغلغل في الجيل الصاعد. هكذا كان الخوف من التمرد المستوحى من الشيوعية في غرب أفريقيا، لدرجة حظر الأدب الماركسي، وكان السفر إلى بلدان أوروبا الشرقية مُقيَّداً في تلك البلدان.

أوباما كان “مواطناً عالمياً كثير الأسفار، يبدو وكأنه في وطنه أينما وطأت قدماه”

من المؤكد أنه كان هناك متعاطفين مع الماركسيين بين قيادة المنظمة والطلاب الأفارقة بشكل عام. حدّثني نغوغي واثيونغو عن طريقه إلى الماركسية، الذي بدأ خلال سنوات دراسته في جامعة ليدز، عندما رأى البيض الفقراء للمرة الأولى، وشهد -خلال تظاهرات الطلاب في ليدز- رجالَ الشرطة البيض ينقلبون على بني جنسهم، في “قمع وحشي للمعارضة”. لجأ جوليوس نيريري إلى الاشتراكية خلال الفترة التي أمضاها في جامعة إدنبره، وعاد إلى تنزانيا عام 1952 ليصبح مُنظِّماً للنقابة، ثم لاحقاً أول رئيس لجمهورية اشتراكية جديدة.

بحلول ستينات القرن العشرين، ومع حصول المستعمرات على الاستقلال واحدة تلو الأخرى، وبدء الصين والكتلة السوفياتية تقديم منحهم الدراسية الخاصة، ساد نهج “الحمائم” الهادئ داخل وزارة المستعمرات البريطانية. تم تسليم إدارة شؤون الطلاب إلى “المجلس الثقافي البريطاني”، الذي بدأ هجوماً ديبلوماسياً جذاباً. قدِّمَت لطلاب المنح الحكومية، وقبل حتى أن يغادروا منازلهم، ندوات تعريفيّة حول ما يجب أن يرتدوه، وكيف يتصرفون في البيوت البريطانية، وعُرضت عليهم أفلام عن كيفية التغلب على تحديات الحياة اليومية.

بمجرد أن وصل الطلاب إلى المملكة المتحدة، رتَّبَ المجلس الثقافي البريطاني الإقامةَ المنزلية لأولئك الأفارقة الذين أرادوا تجربة بريطانية عن قرب (قال حوالي 9500 شخص أنهم فعلوا ذلك). تتذكّر زوجة أبي أنَّها نُصحِت بألّا تجلس أبداً في كرسي رب الأسرة، وهي زَلّة احتفظت برَهبتها منها طوال حياتها.

إذا كان موقف السلطات البريطانية تجاه مواطني غرب أفريقيا هو الترحيب المتردد، فإن موقفها تجاه نظرائهم من شرق أفريقيا، الكينيين على وجه الخصوص، كان أكثر تعقيداً. عام 1945، كان هناك حوالى 1000 طالب من مستعمرات بريطانيا الأفريقية، جاء ثلثيهم من غرب أفريقيا، و65 منهم فقط كانوا من شرق أفريقيا.

في كينيا، تمخض عن مزاج التمرد السائد في الخمسينات من القرن الماضي، ظهور حركة ماو ماو، التي رفضت حكم البيض صراحةً وأعربت بقوة عن استيائها وتذمرها من ضرائب الحكومة الاستعمارية، ومن الأجور المنخفضة، والظروف المعيشية البائسة التي عانى منها الكثير من الكينيين.

طالبت حركة الماو ماو، التي استمدت دعمها بشكل رئيسي من قبائل الكيكويو (Kikuyu) التي أجبرها المزارعون البيض على النزوح من أراضيها، التمثيل السياسي واستعادة الأراضي التي سُلبت منها. وفي مواجهة التمرد المسلح عام 1952، أعلن البريطانيون حالة الطوارئ، ومحاكمة الزعيم الوطني جومو كينياتا ثم سجنه (الزعيم الذي سيصير لاحقاً أول رئيس لكينيا)، والذي كان قد عاد إلى بلده من لندن عام 1947.

أوباما في نايروبي- كينيا

وفي أعقاب سجن كينياتا، لجأ القوميون الكينيون إلى الولايات المتحدة لدعم قضيتهم. وصار الناشط توم مبويا، وهو نجم سياسي صاعد ظهر عام 1960 على غلاف مجلة التايم كوجهٍ لأفريقيا الجديدة، أقوى صوتٍ يدعو إلى الاستقلال في غياب كينياتا. عام 1959، بدأ مبويا العمل مع منظمات أميركية إفريقية، وقام أيضاً بجولة عبر أرجاء الولايات المتحدة للتحدث عن الحقوق المدنية للسود في الولايات المتحدة والقوميين الأفريقية باعتبارهما وجهين لعملة واحدة. وكان يهدف إلى جمع الأموال لدعم برنامج مِنح دراسية تسمح بجلب الطلاب الكينيين إلى الولايات المتحدة. وعلى مدى شهرين، ألقى مبويا مائة خطبة والتقى بنائب الرئيس آنذاك، ريتشارد نيكسون، في البيت الأبيض. وكان استقلال كينيا في تلك المرحلة، مسألة وقت ليس إلا، خاصة وأن غانا كانت قد حصلت على استقلالها بالفعل، وبدا الأمر كما لو أن بريطانيا تتعمد عدم مساعدة الكينيين في التحضير للحكم الذاتي.

ولهذا السبب عرض مبويا على الولايات المتحدة موطئ قدم لتمارس قدراً من النفوذ في أفريقيا، النفوذ الذي لم تفلح بريطانيا في تأمينه، حتى على خلفية تداعيات الحرب الباردة من أجل ضمان ولاء الدول الأفريقية، من فرط فظاظتها أو غطرستها. وعلى رغم عدم موافقة نيكسون على تلبية طلب مبويا للحصول على المساعدة، إلا أن المرشح الديمقراطي للانتخابات الرئاسية عام 1960، جون كينيدي، قام بذلك، وتبرعت المؤسسة التابعة لعائلته بمبلغ 100 ألف دولار، فيما صار يُعرف باسم “الجسر الجوي لنقل الطلبة الأفارقة”، والذي تمت أولى رحلاته في عام 1957.

كان اختيار أوباما الأب جامعة هاواي اختياراً مؤسفاً من نواحٍ كثيرة. كانت هاواي أكثر عالمية، مقارنة بأجزاء أخرى من الولايات المتحدة، وقد نجح على الأقل في الإفلات من بعض المواقف العنصرية التي واجهت الطلاب الأفارقة الآخرين، لكنه كان أبعد ما يكون عن جو المناقشات والاجتماعات وأنشطة الضغط والنضال من أجل الاستقلال الذي كان يحصل في الجامعات والكليات الخاصة تاريخياً بالطلبة السود، في بقية الولايات الأميركية. وعندما أتيحت له الفرصة، اختار مواصلة دراسته في جامعة هارفارد، ويعود سبب ذلك جزئياً بلا شك، إلى رغبته في أن يكون قريباً من ساحة العمل. عام 1961 أطلِق سراح كينياتا. وبعد عامين من ذلك، أعلنت كينيا استقلالها. وعندما حدث كل ذلك، كان أوباما لا يزال بعيداً عن موطنه، تماماً كما كان والدي عندما نالت سيراليون استقلالها.

أوباما مع والده حين كان يبلغ 11 سنة

“بعد ثمانِ سنواتٍ من مغادرته سيراليون، عاد والدي، وكان أخوه الأكبر قد توفي، وراسلَته عائلتُه لتبلغه بضرورة عودة محمد إلى الوطن نظراً لشدّة الحاجة إليه، وكان قد أصبح حينذاك طبيباً مؤهَّلاً، ولديه زوجة وثلاثة أطفال”. قبل ذلك بسنة، عاد أوباما الأب أيضاً إلى أرض الوطن، بعد رفض الحكومة الأمريكية تجديد تأشيرته. وقد وجد طلاب الطب -وبخاصة أولئك الذين واصلوا دراستهم للحصول على درجات أعلى- أنفسَهم منقطعين عن بلدانهم لفترات طويلة، تصل أحيانا إلى عقد من الزمن. لم يكن من المستغرب، في ذلك الوقت، عقد العديد من الأفارقة الرجال علاقات رومانسية مع نساء محليّات. وإذا كانت تلك العلاقات محل امتعاض في بريطانيا، فقد كانت تعتبر غير قانونية في الكثير من الولايات الأميركية. ولم يتم البت في القضية المعروفة باسم “المحبة ضد فرجينيا” (Loving v. Virginia)، والمعروضة على المحكمة العليا التي ألغت في نهاية المطاف الحظر على العلاقات الغرامية بين الأعراق، إلا عام 1967. عندما رفضت مصلحةُ الهجرة والتجنيس طلبَ أوباما الأب بالبقاء في البلاد، ذُكِر أن علاقاته بالنساء شكلت جزءاً من المشكلة. بالفعل، كان قد أنجب من آن دنهام ابناً اسمه أيضاً باراك؛ لكن ذلك الزواج انتهى، ودخل هو في علاقة جديدة مع امرأة بيضاء أخرى، روث بيكر.

أما في بريطانيا، وعلى رغم عدم تشجيع سلطات البلاد مثلَ هذه العلاقات، إلا أنها لم تتدخّل إلا في حالة سيريتس خاما (Seretse Khama)، وريث زعيم قبيلة بانغواتو (Bangwato) في بيخوانالاند Bechuanaland (بوتسوانا الآن) وروث ويليامز Ruth Williams. كان ذلك بناء على طلب من جنوب أفريقيا الخاضعة لحكم البيض، والتي لا تتسامح حكومتها مع وقوع زواج مختلط بين الأعراق داخل حدودها.

وعن آن دنهام، زوجة أوباما الأب الأولى وأم الرئيس المستقبلي، يقول أحد أصدقاء الطفولة في وقتٍ لاحقٍ “لقد أصبحت حقاً مهتمة بالعالم؛ لم تكن تخشى ما هو جديد، ولا تخاف الاختلاف. كانت خائفة من الأشياء الصغيرة”. ويمكن قول الشيء نفسه عن والدتي، مورين كريستيسون. كانت أبردين ببساطة صغيرة جداً بالنسبة إليها؛ وكان الطلاب الأفارقة يمثّلون عالماً آخر وراء المياه الرمادية لبحر الشمال.

عام 2017، نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية مقال رأي للكاتب آدم شاتز يُقيم إرث السياسة الخارجية للرئيس أوباما، أشار فيه إلى أن أوباما كان “مواطناً عالمياً كثير الأسفار، يبدو وكأنه في وطنه أينما وطأت قدماه”. أكدت الرؤية الديبلوماسية الدولية لأوباما فضائل الحوار الصريح والاحترام المتبادل وبناء الجسور، فلقد ترسخت عالمية أوباما في مواضع عدة، من بينها حقيقة كون والده كينياً، ثم بحثه المضني لاحقاً للحصول على حقه الطبيعي في إرث موطن مولده، ما ساهم كثيراً في توسيع رؤيته. لكن قبل كل ذلك، كانت والدته آن هي من غرست فيه أسس عالميته.

بعد ذلك، أصبح كتابه التالي “جرأة الأمل” The Audacity of Hope، معقداً بشكلٍ كبير. يكتب أوباما عن عائلته الكبيرة من الأندونيسيين والأميركيين البيض والأفارقة والصينيين: “لم يُتَح لي قط تقييد ولاءاتي على أساسٍ عِرقي، أو تحديد قيمتي على أساس القبيلة”. لقد أدرك أوباما ووعى حقيقة امتلاكه أكثر من هويةٍ واحدة، وأن الأمر سيان لنا جميعاً.

كم مرةً صادفتُ أحد هؤلاء المُختارين من جيل أبي أثناء ترحالي حول العالم؟ هناك هالةٌ مميزة تحوم حولهم، وقد بدأتُ أعي أصولها. إنهم يحملون معهم، إلى جانب أريحيتهم الدنيوية، إحساساً بالواجب، بالمسؤولية والالتزام، يظهر في كل أقوالهم وأفعالهم. وعلى عكس الأجيال التي تَلَتهم، هم لم يروا مستقبلهم في موضعٍ أبعد من أفريقيا أبداً. أُحاوِل أن أتخيل ما كانت لتكون عليه أفريقيا لو لم يوجد هذا الجيل، ولا أُفلِح. هناك أشخاصٌ في شتى بِقاع الأرض يشجبون أوجه القصور والضعف في الدول الأفريقية التي تحررت من الاستعمار، وهذا في الوقت الذي أدرك فيه العالم الغربي ببطء -بعدما حدث في أفغانستان والعراق، وبعد مواجهتهم للاعتداءات على المؤسسات الديمقراطية في بلادهم ذاتها- أن بناء الأُمم ليس بالمهمة البسيطة، وأن الديمقراطية الحقة تتطلب أكثر من بناء مبنى البرلمان. لقد أدرك الجيل الأفريقي الذي أوكِلت إليه مهمة بناء بلادٍ جديدة أنه وبجانب الرغبات والأحلام والوعود بالحرية الوليدة، أنهم أُعدوا للفشل. وكانت شجاعتهم الحقيقية تكمن في عدم استسلامهم، وأنهم حاولوا إيفاء ما وعدوا به أنفسهم وبلادهم، وأنهم استمروا في المُضي قُدُماً على رغم كل شيء.

هذا المقال مترجم عن موقع New York Review of Books الرابط التالي

سلام فريحات | 24.04.2025

“مخيم جرش” في الأردن: غزّيو النكبة الأولى

أعاد القرار بتأسيس وكالة "للتهجير الطوعي" للفلسطينيين في قطاع غزّة المنكوب، ذكريات تجارب قاسية ومريرة  لغزّيين نزحوا إلى الأردن عقب نكسة 1967، واستقرّوا  في مخيّم جرش المكتظّ، الذي يعاني من نقص حادّ في الخدمات الأساسية وسط تفشي البطالة والفقر. 
23.11.2018
زمن القراءة: 11 minutes

صار معتقداً أساسياً يعتنقه الشعب والإعلام الأميركي أن باراك أوباما كان عصامياً أتى من العدم. وفي مُجتمع منقسم عنصرياً، ساعدت فكرة عدم انتمائه إلى قبيلة معيّنة على التصويت له. أما بالنسبة إلى منتقديه، الذين كان ترامب وحركة “بِيرثر” التي قادها حول مكان ولادة أوباما أكثرهم وضوحاً، فقد أعطى هذا الاعتقاد فرصةً للادعاء بأن أوباما ليس أميركياً حقيقياً…

صار معتقداً أساسياً يعتنقه الشعب والإعلام الأميركي أن باراك أوباما كان عصامياً أتى من العدم. وفي مُجتمع منقسم عنصرياً، ساعدت فكرة عدم انتمائه إلى قبيلة معيّنة على التصويت له. أما بالنسبة إلى منتقديه، الذين كان ترامب وحركة “بِيرثر” التي قادها حول مكان ولادة أوباما أكثرهم وضوحاً، فقد أعطى هذا الاعتقاد فرصةً للادعاء بأن أوباما ليس أميركياً حقيقياً. وقد ظهر في الحقيقة، بصورة شخص انفرادي: الأبوان متوفيان وكذلك الجدان الأميركيان، وليس لديه أخوة من الأم والأب نفسيهما، وما تبقى من عائلته يعيش في كينيا، والتي من الممكن أن تكون مجهولة تماماً لبعض الأميركيين كما لو كانت القمر. أعطاه الزواج بميشيل ما بدا أنه ينقصه، عائلة ومجتمعاً، مع أن أصله الكيني كان يعني أنه فرد في المجتمع الأميركي- الأفريقي بالتبني وليس بالحق المكتسب.

ومع ذلك، ظلت الحقيقة المتميزة في سيرة أوباما الذاتية ولا تزال، وهي أنه ولد لأب كيني وأم بيضاء. كتب ديفيد مارانيس ​​في سيرته الذاتية عن الرئيس السابق والتي نشرها عام 2012، “لم تكن لتوجد حياة تمثل نتاجاً للعشوائية أكثر من حياة باراك أوباما”. لكن هذه هي الحال فقط عندما يُنظر إلى حياته من وجهة نظر أميركية. أما من منظور أفريقي، فتقليد إرسال الشباب للدراسة في الخارج -كما كانت الحال مع باراك أوباما الأب- هو تقليد عادي وقديم. عام 1852، أشار وليام ويلز براون، الكاتب المسرحي الأميركي، والعبد الهارب، والداعي لإلغاء العبودية، إلى أنه كان بإمكانه مقابلة ستة طلاب سود خلال ساعة واحدة من التجول في وسط لندن.

خلال النصف الثاني من القرن العشرين، ستشهد الأحداث الجيوسياسية -نهاية الإمبراطوريات، وصعود القومية في الدول الأفريقية، والحرب الباردة، والشيوعية، والموجة الثانية من “الرعب الأحمر”- تزايداً مطرداً في أعداد الأفارقة الذين يُرسلون للدراسة في بلاد ما وراء البحر. ولذلك فإن التقاء والدي أوباما كان نتيجة غير مقصودة للظروف السياسية، أكثر من كونه مصادفة عشوائية. قصة أوباما بالنسبة لي، مألوفة للغاية، فقد تقابل والداي في ظروف شبيهة للغاية.

كان أوباما مخطئاً في أمرٍ واحدٍ؛ وهو أن والده لم يكن ضمن الموجة الأولى من الطلاب المرسلين إلى الخارج لإتقان التكنولوجيا الغربية، على رغم أنه كان ضمن الموجة الأولى من الكينيين الذين يُرسلون إلى أميركا. حتى ذلك الحين، كان يتوجه معظم الطلاب الأفارقة إلى بريطانيا، ثم صاروا يُرسلون إلى الاتحاد السوفييتي والصين بعد الحرب العالمية الثانية.

كان البريطانيون عموماً حذرين في مسألة السماح لرعايا مستعمراتهم بالحصول على التعليم. بدأ المشروع الاستعماري بقدر كبيرة من الكبرياء والغطرسة، والحديث عن مهمة حضارية، والإيمان أن بإمكان بريطانيا تشكيل العالم كما تتصور. وكان التعليم جزءاً من هذه المهمة. ولكن عندما صار اللورد لوغارد -الحاكم الاستعماري وصاحب فكرة الإدارة المحلية- حاكماً لنيجيريا عام 1912، أخذ يحذر من “المرض الهندي”، ألا وهو خلق طبقة مثقفة –من خلال التعليم- تعتنق النزعة القومية. خوفاً من وقوع عصيان مسلح في أنحاء أخرى من الإمبراطورية، ورغم أنهم كانوا ما يزالون عاقدي العزم على تأسيس حكومة مؤلفة من مواهب محلية؛ سمح البريطانيون لبعض الأفارقة بنيل قدر قليل من التعليم يكفي فحسب لخلق نواة أساسية من البيروقراطيين السود، لكن ليس أكثر من ذلك.

أوباما مع عائلته حين كان يبلغ 9 سنوات

اختلفت بدايات سيراليون بعض الشيء عن البلدان الأفريقية الأخرى الواقعة في حيازة بريطانيا. ففي أواخر القرن الثامن عشر، أقامت منظمات خيرية بريطانية مستوطنات هناك لأشخاصٍ تحرروا من العبودية، والذين فر العديد منهم من أميركا إلى بريطانيا بعد قرار اللورد مانسفيلد عام 1772 الذي حمى العبيد الهاربين. وكجزء من التجربة الهندسة الاجتماعية تلك، بُنيت في العاصمة فريتاون مدارس بل وحتى جامعات. كانت جامعة فوره باي Fourah Bay، التي تأسست عام 1827، أول مؤسسة للتعليم العالي تُبنى في غرب أفريقيا بعد زوال الجامعات الإسلامية في تمبكتو. وفي أماكن أفريقية أخرى تخضع للسيادة البريطانية، وفي الأيام الأولى للإمبراطورية، كانت معظم المؤسسات التعليمية التي بُنيت هناك إنجيلية يقف وراءها المبشرين المسيحيين، وكانت إدارة الاستعمار تتسامح مع وجودها لكن لا تشجعها.

ومع ذلك، وبغض النظر عن المقاومة التي أظهرها المكتب الاستعماري البريطاني أمام فكرة المواطن الأصلي المتعلم، ففي الأيام الأخيرة للإمبراطورية، بدأ البريطانيون الذين وُوجهوا بطلبات متزايدة بالإصلاح الاستعماري، في بناء عدد محدود من المؤسسات الحكومية، بنية “توجيه شعب المستعمرات إلى طريق الحكم الذاتي ضمن إطار الإمبراطورية البريطانية”، على حد قول الوزير المحافظ أوليفر ستانلي عام 1943. وكان أي شكل من أشكال الحكم الذاتي المستقبلي يُقصد به خلق أساس للاستعمار الحديث وبناء حصن منيع ضد خطر الشيوعية.

إلا أن هذا التغيُّر في الموقف البريطاني سرعان ما تجاوزته الطموحات الأفريقية. إذ اشترك مليون رجل أفريقي في الحرب العالمية الثانية إلى جانب الحلفاء، وهذه الخبرات وسعت من نظرتهم إلى العالم، وتعلم كثيرون القراءة والكتابة؛ من بينهم أونيانغو جد أوباما، الذي سافر –وفقاً لحكاية العائلة- إلى بورما وسريلانكا والشرق الأوسط وأوروبا كطاهٍ لضابط بريطاني. وليس معروفاً ما إذا كان أونيانغو قد تعلم القراءة والكتابة بالإنجليزية قبل أن يتم تجنيده، الاحتمال وارد، لكنه غير مرجح. لكنه عندما عاد، تمكن من تعليم ابنه الصغير الحروف قبل إرساله إلى المدرسة. في كتاب “Dreams from My Father”، يروي باراك أوباما ذكريات شقيقة أونيانغو الناجية وعمته الكبيرة دورسيلا عن جده، “بالنسبة لأونيانغو كانت المعرفة هي أساس قوة الرجل الأبيض، وكان يريد أن يتأكد من أن يكون ابنه متعلماً مثل أي رجل أبيض”.

كانت الحركات القومية الناشئة تحرز تقدماً في جميع أنحاء القارة. بالنسبة إليهم، كان تعلم القراءة والكتابة ومن ثم إنشاء نخبة من المهنيين، هي الخطوات الأولى الأساسية نحو الاستقلال الكامل.

إقرأ أيضاً: كيف راقبت إدارة أوباما زوال الديموقراطية العربية ومهّدت الطريق أمام احتضان ترامب الديكاتوريّات؟

 

وفي سبيل مواجهة تحديات حياتهم الجديدة، وكذلك لمواكبة التطورات السياسية الداعمة للوطن، نظم الطلاب القادمين من بلدان تعانى الاستعمار أنفسهم داخل مجتمعات وجمعيات، وكان أحد هذه المنظمات هو اتحاد طلاب غرب أفريقيا ذو النفوذ الساطع، فإذا ما اُعتبرت لندن هي قلب المقاومة، فإن اتحاد طلاب غرب أفريقيا هو نظام الدورة الدموية للمقاومة. كان والدي وجميع أصدقائه أعضاء في اتحاد طلاب غرب أفريقيا، كما هو الحال بالنسبة إلى جميع الطلاب الوافدين من دولة غرب أفريقية، الذين تحدثت معهم خلال هذه الحقبة الزمنية.

ولما كانت وزارة المستعمرات تشعر بالقلق من الوتيرة التي تتجمع بها دعوات الاستقلال، فقد راقبت -عن كثب- أنشطة الطلاب. قامت الوزارة في لندن بتمويل دارَي ضيافة للطلاب، ما ساعد الكثير من الطلاب الذين منعهم التمييز العنصري من العثور على سكن لائق (كما أبقوا الطلاب بسهولة في مكان واحد). تجسس الموظفون المدنيون أيضاً على الطلاب الأفارقة من خلال جهاز الاستخبارات البريطانية MI5. كانت هناك لعبة شد الحبل داخل وزارة المستعمرات: من جهة كان هناك جناح “الحمائم” الذين فضّلوا اتّباع نهج يهدف إلى تعزيز العلاقات الطيبة مع قادة المستقبل؛ ومن جهة أخرى، كان جناح “الصقور” المتشدّدين القلقين من أن الأفكار الشيوعية قد تتغلغل في الجيل الصاعد. هكذا كان الخوف من التمرد المستوحى من الشيوعية في غرب أفريقيا، لدرجة حظر الأدب الماركسي، وكان السفر إلى بلدان أوروبا الشرقية مُقيَّداً في تلك البلدان.

أوباما كان “مواطناً عالمياً كثير الأسفار، يبدو وكأنه في وطنه أينما وطأت قدماه”

من المؤكد أنه كان هناك متعاطفين مع الماركسيين بين قيادة المنظمة والطلاب الأفارقة بشكل عام. حدّثني نغوغي واثيونغو عن طريقه إلى الماركسية، الذي بدأ خلال سنوات دراسته في جامعة ليدز، عندما رأى البيض الفقراء للمرة الأولى، وشهد -خلال تظاهرات الطلاب في ليدز- رجالَ الشرطة البيض ينقلبون على بني جنسهم، في “قمع وحشي للمعارضة”. لجأ جوليوس نيريري إلى الاشتراكية خلال الفترة التي أمضاها في جامعة إدنبره، وعاد إلى تنزانيا عام 1952 ليصبح مُنظِّماً للنقابة، ثم لاحقاً أول رئيس لجمهورية اشتراكية جديدة.

بحلول ستينات القرن العشرين، ومع حصول المستعمرات على الاستقلال واحدة تلو الأخرى، وبدء الصين والكتلة السوفياتية تقديم منحهم الدراسية الخاصة، ساد نهج “الحمائم” الهادئ داخل وزارة المستعمرات البريطانية. تم تسليم إدارة شؤون الطلاب إلى “المجلس الثقافي البريطاني”، الذي بدأ هجوماً ديبلوماسياً جذاباً. قدِّمَت لطلاب المنح الحكومية، وقبل حتى أن يغادروا منازلهم، ندوات تعريفيّة حول ما يجب أن يرتدوه، وكيف يتصرفون في البيوت البريطانية، وعُرضت عليهم أفلام عن كيفية التغلب على تحديات الحياة اليومية.

بمجرد أن وصل الطلاب إلى المملكة المتحدة، رتَّبَ المجلس الثقافي البريطاني الإقامةَ المنزلية لأولئك الأفارقة الذين أرادوا تجربة بريطانية عن قرب (قال حوالي 9500 شخص أنهم فعلوا ذلك). تتذكّر زوجة أبي أنَّها نُصحِت بألّا تجلس أبداً في كرسي رب الأسرة، وهي زَلّة احتفظت برَهبتها منها طوال حياتها.

إذا كان موقف السلطات البريطانية تجاه مواطني غرب أفريقيا هو الترحيب المتردد، فإن موقفها تجاه نظرائهم من شرق أفريقيا، الكينيين على وجه الخصوص، كان أكثر تعقيداً. عام 1945، كان هناك حوالى 1000 طالب من مستعمرات بريطانيا الأفريقية، جاء ثلثيهم من غرب أفريقيا، و65 منهم فقط كانوا من شرق أفريقيا.

في كينيا، تمخض عن مزاج التمرد السائد في الخمسينات من القرن الماضي، ظهور حركة ماو ماو، التي رفضت حكم البيض صراحةً وأعربت بقوة عن استيائها وتذمرها من ضرائب الحكومة الاستعمارية، ومن الأجور المنخفضة، والظروف المعيشية البائسة التي عانى منها الكثير من الكينيين.

طالبت حركة الماو ماو، التي استمدت دعمها بشكل رئيسي من قبائل الكيكويو (Kikuyu) التي أجبرها المزارعون البيض على النزوح من أراضيها، التمثيل السياسي واستعادة الأراضي التي سُلبت منها. وفي مواجهة التمرد المسلح عام 1952، أعلن البريطانيون حالة الطوارئ، ومحاكمة الزعيم الوطني جومو كينياتا ثم سجنه (الزعيم الذي سيصير لاحقاً أول رئيس لكينيا)، والذي كان قد عاد إلى بلده من لندن عام 1947.

أوباما في نايروبي- كينيا

وفي أعقاب سجن كينياتا، لجأ القوميون الكينيون إلى الولايات المتحدة لدعم قضيتهم. وصار الناشط توم مبويا، وهو نجم سياسي صاعد ظهر عام 1960 على غلاف مجلة التايم كوجهٍ لأفريقيا الجديدة، أقوى صوتٍ يدعو إلى الاستقلال في غياب كينياتا. عام 1959، بدأ مبويا العمل مع منظمات أميركية إفريقية، وقام أيضاً بجولة عبر أرجاء الولايات المتحدة للتحدث عن الحقوق المدنية للسود في الولايات المتحدة والقوميين الأفريقية باعتبارهما وجهين لعملة واحدة. وكان يهدف إلى جمع الأموال لدعم برنامج مِنح دراسية تسمح بجلب الطلاب الكينيين إلى الولايات المتحدة. وعلى مدى شهرين، ألقى مبويا مائة خطبة والتقى بنائب الرئيس آنذاك، ريتشارد نيكسون، في البيت الأبيض. وكان استقلال كينيا في تلك المرحلة، مسألة وقت ليس إلا، خاصة وأن غانا كانت قد حصلت على استقلالها بالفعل، وبدا الأمر كما لو أن بريطانيا تتعمد عدم مساعدة الكينيين في التحضير للحكم الذاتي.

ولهذا السبب عرض مبويا على الولايات المتحدة موطئ قدم لتمارس قدراً من النفوذ في أفريقيا، النفوذ الذي لم تفلح بريطانيا في تأمينه، حتى على خلفية تداعيات الحرب الباردة من أجل ضمان ولاء الدول الأفريقية، من فرط فظاظتها أو غطرستها. وعلى رغم عدم موافقة نيكسون على تلبية طلب مبويا للحصول على المساعدة، إلا أن المرشح الديمقراطي للانتخابات الرئاسية عام 1960، جون كينيدي، قام بذلك، وتبرعت المؤسسة التابعة لعائلته بمبلغ 100 ألف دولار، فيما صار يُعرف باسم “الجسر الجوي لنقل الطلبة الأفارقة”، والذي تمت أولى رحلاته في عام 1957.

كان اختيار أوباما الأب جامعة هاواي اختياراً مؤسفاً من نواحٍ كثيرة. كانت هاواي أكثر عالمية، مقارنة بأجزاء أخرى من الولايات المتحدة، وقد نجح على الأقل في الإفلات من بعض المواقف العنصرية التي واجهت الطلاب الأفارقة الآخرين، لكنه كان أبعد ما يكون عن جو المناقشات والاجتماعات وأنشطة الضغط والنضال من أجل الاستقلال الذي كان يحصل في الجامعات والكليات الخاصة تاريخياً بالطلبة السود، في بقية الولايات الأميركية. وعندما أتيحت له الفرصة، اختار مواصلة دراسته في جامعة هارفارد، ويعود سبب ذلك جزئياً بلا شك، إلى رغبته في أن يكون قريباً من ساحة العمل. عام 1961 أطلِق سراح كينياتا. وبعد عامين من ذلك، أعلنت كينيا استقلالها. وعندما حدث كل ذلك، كان أوباما لا يزال بعيداً عن موطنه، تماماً كما كان والدي عندما نالت سيراليون استقلالها.

أوباما مع والده حين كان يبلغ 11 سنة

“بعد ثمانِ سنواتٍ من مغادرته سيراليون، عاد والدي، وكان أخوه الأكبر قد توفي، وراسلَته عائلتُه لتبلغه بضرورة عودة محمد إلى الوطن نظراً لشدّة الحاجة إليه، وكان قد أصبح حينذاك طبيباً مؤهَّلاً، ولديه زوجة وثلاثة أطفال”. قبل ذلك بسنة، عاد أوباما الأب أيضاً إلى أرض الوطن، بعد رفض الحكومة الأمريكية تجديد تأشيرته. وقد وجد طلاب الطب -وبخاصة أولئك الذين واصلوا دراستهم للحصول على درجات أعلى- أنفسَهم منقطعين عن بلدانهم لفترات طويلة، تصل أحيانا إلى عقد من الزمن. لم يكن من المستغرب، في ذلك الوقت، عقد العديد من الأفارقة الرجال علاقات رومانسية مع نساء محليّات. وإذا كانت تلك العلاقات محل امتعاض في بريطانيا، فقد كانت تعتبر غير قانونية في الكثير من الولايات الأميركية. ولم يتم البت في القضية المعروفة باسم “المحبة ضد فرجينيا” (Loving v. Virginia)، والمعروضة على المحكمة العليا التي ألغت في نهاية المطاف الحظر على العلاقات الغرامية بين الأعراق، إلا عام 1967. عندما رفضت مصلحةُ الهجرة والتجنيس طلبَ أوباما الأب بالبقاء في البلاد، ذُكِر أن علاقاته بالنساء شكلت جزءاً من المشكلة. بالفعل، كان قد أنجب من آن دنهام ابناً اسمه أيضاً باراك؛ لكن ذلك الزواج انتهى، ودخل هو في علاقة جديدة مع امرأة بيضاء أخرى، روث بيكر.

أما في بريطانيا، وعلى رغم عدم تشجيع سلطات البلاد مثلَ هذه العلاقات، إلا أنها لم تتدخّل إلا في حالة سيريتس خاما (Seretse Khama)، وريث زعيم قبيلة بانغواتو (Bangwato) في بيخوانالاند Bechuanaland (بوتسوانا الآن) وروث ويليامز Ruth Williams. كان ذلك بناء على طلب من جنوب أفريقيا الخاضعة لحكم البيض، والتي لا تتسامح حكومتها مع وقوع زواج مختلط بين الأعراق داخل حدودها.

وعن آن دنهام، زوجة أوباما الأب الأولى وأم الرئيس المستقبلي، يقول أحد أصدقاء الطفولة في وقتٍ لاحقٍ “لقد أصبحت حقاً مهتمة بالعالم؛ لم تكن تخشى ما هو جديد، ولا تخاف الاختلاف. كانت خائفة من الأشياء الصغيرة”. ويمكن قول الشيء نفسه عن والدتي، مورين كريستيسون. كانت أبردين ببساطة صغيرة جداً بالنسبة إليها؛ وكان الطلاب الأفارقة يمثّلون عالماً آخر وراء المياه الرمادية لبحر الشمال.

عام 2017، نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية مقال رأي للكاتب آدم شاتز يُقيم إرث السياسة الخارجية للرئيس أوباما، أشار فيه إلى أن أوباما كان “مواطناً عالمياً كثير الأسفار، يبدو وكأنه في وطنه أينما وطأت قدماه”. أكدت الرؤية الديبلوماسية الدولية لأوباما فضائل الحوار الصريح والاحترام المتبادل وبناء الجسور، فلقد ترسخت عالمية أوباما في مواضع عدة، من بينها حقيقة كون والده كينياً، ثم بحثه المضني لاحقاً للحصول على حقه الطبيعي في إرث موطن مولده، ما ساهم كثيراً في توسيع رؤيته. لكن قبل كل ذلك، كانت والدته آن هي من غرست فيه أسس عالميته.

بعد ذلك، أصبح كتابه التالي “جرأة الأمل” The Audacity of Hope، معقداً بشكلٍ كبير. يكتب أوباما عن عائلته الكبيرة من الأندونيسيين والأميركيين البيض والأفارقة والصينيين: “لم يُتَح لي قط تقييد ولاءاتي على أساسٍ عِرقي، أو تحديد قيمتي على أساس القبيلة”. لقد أدرك أوباما ووعى حقيقة امتلاكه أكثر من هويةٍ واحدة، وأن الأمر سيان لنا جميعاً.

كم مرةً صادفتُ أحد هؤلاء المُختارين من جيل أبي أثناء ترحالي حول العالم؟ هناك هالةٌ مميزة تحوم حولهم، وقد بدأتُ أعي أصولها. إنهم يحملون معهم، إلى جانب أريحيتهم الدنيوية، إحساساً بالواجب، بالمسؤولية والالتزام، يظهر في كل أقوالهم وأفعالهم. وعلى عكس الأجيال التي تَلَتهم، هم لم يروا مستقبلهم في موضعٍ أبعد من أفريقيا أبداً. أُحاوِل أن أتخيل ما كانت لتكون عليه أفريقيا لو لم يوجد هذا الجيل، ولا أُفلِح. هناك أشخاصٌ في شتى بِقاع الأرض يشجبون أوجه القصور والضعف في الدول الأفريقية التي تحررت من الاستعمار، وهذا في الوقت الذي أدرك فيه العالم الغربي ببطء -بعدما حدث في أفغانستان والعراق، وبعد مواجهتهم للاعتداءات على المؤسسات الديمقراطية في بلادهم ذاتها- أن بناء الأُمم ليس بالمهمة البسيطة، وأن الديمقراطية الحقة تتطلب أكثر من بناء مبنى البرلمان. لقد أدرك الجيل الأفريقي الذي أوكِلت إليه مهمة بناء بلادٍ جديدة أنه وبجانب الرغبات والأحلام والوعود بالحرية الوليدة، أنهم أُعدوا للفشل. وكانت شجاعتهم الحقيقية تكمن في عدم استسلامهم، وأنهم حاولوا إيفاء ما وعدوا به أنفسهم وبلادهم، وأنهم استمروا في المُضي قُدُماً على رغم كل شيء.

هذا المقال مترجم عن موقع New York Review of Books الرابط التالي

23.11.2018
زمن القراءة: 11 minutes
|

اشترك بنشرتنا البريدية