فُتحت الجغرافيا السوريّة بعد سقوط نظام الأسد، وعادت الطرق السريعة بين المحافظات إلى وضع شبه طبيعي، أي أنه لم تعد هناك عشرات الحواجز، بل بضعة فقط!، وتناثرت على جوانبها بقايا جيش النظام من مدرعات وشاحنات مرميّة على الطرقات، صحيح أن الجغرافيا السورية لم تخضع مباشرة لحكومة دمشق، لكن عشرات السوريين، والصحافيين، والمهجّرين، تحركوا بحرية وحذر مما قد تخبئه هذه الطرق السريعة.
فئة جديدة من قاطني الأرض السوريّة ظهرت بصورة أوضح بعد سقوط النظام، وهي “المهاجرون” أو المقاتلون الأجانب، الذين بدأت صورهم وتسجيلاتهم تنتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، سواء يحتفلون بـ”النصر” أو يتناوشون مع سكان المدن السوريّة التي بدأوا باكتشافها وزيارتها وترويع بعض من أهلها!
هؤلاء “المهاجرون” إشكالية تهدد مستقبل سوريا، فرفع العقوبات أصبح مرتبطاً بوجودهم، كونهم متهمين بأن مشروعهم جهاديّ بحت، ولا باع لهم في بناء الدولة، ونقصد هنا المقاتلين الآسيويين والفرنسيين وغيرهم ممن شاركوا هيئة تحرير الشام سابقاً في معاركها، والذين تُتداول أخبار عن “اندماجهم” في المجتمع السوري. وتردد نكتة بين المرحبين بهم مفادها أن السوريين هاجروا/ لجأوا إلى أوروبا ونالوا جنسيات بلدانها بعد سنوات عدة، ألا يحق للأجنبي أن يحصل على الجنسية السورية بعد سنوات من “الإقامة”؟!
من حمص نحو دمشق
منذ سقوط نظام الأسد، وأنا أتنقل بين المحافظات السوريّة في إطار عملي الصحافي، الطرق السريعة بين حلب حتى دمشق ثم درعا التهمت كاوتشوك سيارتي البيك آب، طرق حرمتُ المرور بها لسنوات والآن فُتحت أمامي، شهدت على أطرافها الاشتباكات، وإطلاق الرصاص، وبقايا آليات جيش الأسد، وجنوداً من النظام يفرّون، وأكواماً من البذلات العسكريّة، وأرتال قوات وزارة الدفاع السورية تعيد الانتشار والتوزع في الثكنات.
بعد شهر من فرار الأسد، كنت أقود سيارتي من حمص باتجاه دمشق لإنجاز أعمال متفرقة، الطريق الذي كانت تقطعه حواجز نظام الأسد، أصبح اليوم مفتوحاً، 3 حواجز فقط تسمح بمرور العابرين من دون مساءلة أو خوف، وبينما أنا خارج من حمص وبدأت عجلات السيارة تلتهب تحت الإسفلت، أشارت لي مجموعة من 8 أشخاص بعتادهم الكامل واقفين على جانب الطريق، أن أقف، فوقفت!
كانوا ذوي ملامح آسيوية، طلب مني أحدهم بلغة عربيّة “مكسّرة” أن أقلهم معي، وعلى الرغم من قلقي من صعودهم سيارتي، إلا أن مجموعة أسئلة تحتاج الى إجابات منذ أشهر أجبرتني على اصطحابهم، أو ربما هو الخوف !
جلس أحدهم في المقعد الأمامي بجانبي، والسبعة الآخرون جلسوا في الخلف، كنت أشبه بمن يقود فرقة خاصة بي!كنت قلقاً، لكنّ الطريق الذي يناهز الساعتين لا يمكن له أن يمرّ بصمت، خصوصاً أن فضولي كان أشد من خوفي، لأبدأ حديثاً مع ذاك القابع إلى جانبي واضعاً بندقيته بين قدميه، والذي لم يتردد بالحديث بعربيته المكسّرة، ليخبرني أن اسمه هاشم سيد، “مقيم” في سوريا منذ 8 سنوات، وصل وعائلته المؤلفة حينها من 5 أفراد قادماً من إقليم شينجيانغ الصيني الذي تسكنه الغالبية الأويغورية المسلمة، التي تعرضت منذ عام 2014 في الصين إلى سلسلة انتهاكات وصلت حد الجرائم ضد الإنسانيّة.
عبر هاشم طاجيكستان وقرغيزستان وإيران وصولاً إلى تركيا، والتي مكث فيها أكثر من 4 أشهر إلى أن تسنى له الدخول إلى سوريا عبر الحدود التركية – السورية بعد رحلة سفر استمرت 8 أشهر بتكلفة وصلت إلى 32 ألف دولار حسبما قال.
الحاجز الذي مررنا عبره لم يعر أي اهتمام لوجودهم معي في السيارة، عبرناه من دون أسئلة كنت أتوقع أن يطرحها عليّ الحاجز، لكننا تابعنا وتابع هاشم حديثه قائلاً، إن حالته المادية لم تكن جيدة في الصين، وما إن همّ بالسفر إلى سوريا حتى تكفلت أطراف (لم يسمها) بمصروف سفره وعائلته إلى سوريا.
يقول هاشم: “على الرغم من مشقة الطريق الطويل والمخاطر التي كانت تتهدد حياتنا، لا سيما في إيران حيث تعرضت مراراً لمحاولة القتل، وصلنا إلى تركيا واستقرينا في منزل قرب الحدود التركية – السورية، توافرت فيه كل متطلبات الحياة”.
يلفت هاشم الى أنه بعد مكوثه 4 أشهر في تركيا، وصلته أوامر بالتوجّه إلى سوريا، لم يحدد مصدر” الأوامر”، لكنه أطاعها وعبر طريقاً بين الأشجار ثم نهر العاصي واجتاز وأسرته الحدود إلى أن وصلوا إلى منطقة حارم حيث التقى بـ”الكثير من أبناء بلده”، بعدها توجه إلى مدينة جسر الشغور، حيث استقر في إحدى القرى المحيطة هناك وانتسب إلى الحزب الإسلامي التركستاني.
صنفت أميركا حركة تركستان الشرقية كـ”منظمة إرهابية” عقب هجمات 11 أيلول/ سبتمبر من العام 2000 بحجة وجود روابط بينها وبين تنظيم القاعدة، وفي خريف العام 2020 فاجأت الولايات المتحدة الأميركية العالم بقرار شطب حركة تركستان الشرقية المعروف باسم الحزب التركستاني من قوائم الإرهاب.
يتابع هاشم إنه شارك في “معارك” جسر الشغور وسهل الغاب غرب حماة، والكبينة شمال اللاذقية وغرب حلب، وعلى مدى السنوات الماضية وصل إلى جميع الجبهات التي كانت مشتعلة ضد قوات النظام حيث كان كل عمله ضمن الحزب الإسلامي التركستاني، لكنه لم يشارك في أي اقتتال داخلي بين الفصائل ولم يساند جهة ضد أخرى.
يؤكد هاشم أن هيئة تحرير الشام كانت الغطاء القوي لهم شمال غربي سوريا، وشارك الحزب التركستاني مع الهيئة بمعاركها حتى معركة التحرير الأخيرة، والتي أفضت إلى وصول زعيم تنظيم هيئة تحرير الشام، أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني سابقاً) إلى سدة الحكم في سوريا.
سوريا بعد التحرير!
غاب أي ظهور أو تكليف لأجانب في الصفوف الأولى في جيش سوريا الجديد، إلا أن هؤلاء “المهاجرين” لا يزالون يملكون الأسلحة الثقيلة والمتوسطة وينتشرون على مدى واسع من الجغرافيا السورية بدءاً من دمشق العاصمة مروراً بحلب وصولاً إلى جبال الساحل السوري، وبعضهم متهم بالمشاركة في مجازر الساحل السوري.
سألت هاشم بسذاجة: “لماذا اخترت سوريا كوجهة للاستقرار؟”، أجاب هاشم بكل أريحية بأن السلطات الصينية كانت تمارس عليهم مختلف أنواع الانتهاكات على أساس ديني، وبسبب وجود قاعدة قوية للإيغور في سوريا باسم التركستان، ووجود منازل وحياة مريحة نوعاً ما و”مصادر للدخل”، ذلك كله كان سبباً لتحمّل مشقة رحلة السفر الطويلة التي خاضها آلاف الإويغوريين الذين وصلوا إلى سوريا تباعاً، أما القتال تحت مسمى “الجهاد”، فيقول أنه “عمل” يؤديه مقابل حصوله على معيشته وحياته في سوريا.
بحسب الخبير بشؤون الجماعات الإسلامية في سوريا والناشط الميداني محمد أبو الهدى، فإن عدد عناصر الحزب الإسلامي التركستاني في سوريا فاق الـ 3700 مقاتل، وهذا العدد فقط للذين وصلوا إلى سوريا حتى العام 2018، بيد أن هذا العدد مرجح للزيادة الكبيرة بسبب طول مدة وجود التركستان في سوريا وبلوغ أبنائهم الذين وصلوا معهم سن القتال، لا سيما أن التركستان يعملون على انخراط الأطفال بصفوفهم بكثرة، ما يعني أن عدد المقاتلين فاق الـ 5000 بأقل تقدير، وهذا عدد لايستهان به.
الخروج إلى النور
وأكد أبو أنس التركستاني، أحد قيادات الحزب التركستاني في لقاء مع القدس العربي عام 2020، “أن هيئة تحرير الشام تدعمهم مالياً”، وبعد عام من رفع الحزب التركستاني من قائمة العقوبات الأميركية، أي عام 2021، عقد الحزب مؤتمره العلنيّ الأول في محافظة إدلب السورية، وبث عبر حساباته الرسمية على وسائل التواصل صوراً لاجتماع قيادته في سوريا.
ساند الحزب التركستاني هيئة تحرير الشام في قتالها ضد نظام الأسد منذ وصوله إلى سوريا، وأيضاً في حربها ضد بعض الفصائل العسكرية الجهادية مثل “حراس الدين” و”أنصار التوحيد”. ومنذ العام 2014 كان الحزب التركستاني حركة عسكرية مستقلة ينتشر عناصرها في ريف اللاذقية وأرياف حماة وحلب، إلى أن أدرجت هيئة تحرير الشام الحزب ضمن صفوفها وبات يحصل على تمويله منها كفصيل تابع لها.
تمركزت عائلات التركستان في قرى ومنازل الأقليات التي سيطرت عليها فصائل المعارضة في إدلب وحلب واللاذقية بعد تهجير أهلها، كما أشار المرصد السوري لحقوق الإنسان إلى أن “الكثير من مقاتلي التركستان صاهروا عوائل سورية ضمن مناطق سيطرتهم، وتزوجوا من مواطنات سوريات، إلا أن الكثير من الزيجات هذه فشلت بسبب اختلاف اللغة والثقافة بشكل كبير”.
سألت هاشم سيد عن آخر التطورات التي شهدتها سوريا، وعن انهيار نظام الأسد، وعن موقفهم مما يحصل ومستقبلهم في سوريا، فأجاب بأن عناصر الحزب لم يتملكهم الخوف من هذه التطورات، لا سيما أنهم ذوو مكانة خاصة لدى هيئة تحرير الشام، ووجودهم وعددهم وسلاحهم يشكل ثقلاً في الساحة السورية، لكن التخوف الأكبر حسب رأيه هو” أن تتم المتاجرة بملفهم وتحويله إلى ورقة ضغط سياسية من الدول الكبرى”، أما وضعهم المعاشي في سوريا فحتما سيكون ضمن ترتيب جديد يتيح لهم “التأقلم مع السوريين”، وتأمين “أماكن سكن مريحة”، لكن لم يكشف ماهيتها.
ساد صمت قرابة ربع ساعة قبل أن نصل ساحة العباسيين في دمشق، ألقى هاشم علي السلام ونزل السبعة من السيارة لتستقبلهم العاصمة بضجيجها وتلوثها، وأعين سكانها التي تنظر بريبة إلى أولئك الأجانب ذوي العربية “المكسّرة”.
تعهد الرئيس السوري غير المنتخب أحمد الشرع في أكثر من اجتماع على إرجاع الحقوق للسوريين كافة، وهنا السؤال: أين يسكن التركستان بعد عودة أهالي القرى والبلدات المسيحية والدرزية والعلوية إلى منازلهم، وحتى لحظة نشر هذا التقرير لم يطرأ تغيير على تلك الممتلكات، ولم تسجل تلك البلدات عودة حقيقية لأبنائها في ظل استمرار وجود عناصر التركستان فيها واستيلائهم على مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية.
الوضع القانوني لـ”الأجانب”ما زال غامضاً، فلم تلمح الحكومة السورية أو تذكر ملف الأجانب وآلية التعامل معهم وما موقعهم من المجتمع السوري، لكن انتشرت فيديوهات كثيرة لمقاتلين أجانب في ساحات المساجد الكبرى بالمحافظات مثل الجامع الأموي في دمشق، إلى جانب تسجيلات تظهر عملهم كحرس منشآت حكومية، ما يُفسر مضي الحكومة الحالية في اعتمادها على كل الفصائل الموالية لها.
إقرأوا أيضاً: