fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

أوهام “ثورجية” من وحي الربيع اليمني

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يدور حديث سنوي في شباط/ فبراير من كل عام حول فشل “ثورة الشباب” لكن هذا الحديث يحمل أكثر من علامة تعجب. فمعظم ثوار فبراير وهم حزبيون من كل التيارات أصبحوا اليوم أعضاء في السلطة. فكيف نتحدث عن فشل ثورة يتربع معظم ثوارها على كراسي الحكم؟

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لم تنجح “ثورة” فبراير اليمنية في إسقاط النظام، لكنها حوّلت الثوار إلى “نظام سابق”. هذا هو المصير المتفرّد للربيع اليمني، مقارنة بمصائر الربيع العربي في أماكن أخرى.

يدور حديث سنوي في شباط/ فبراير من كل عام حول فشل “ثورة الشباب” لكن هذا الحديث يحمل أكثر من علامة تعجب. فمعظم ثوار فبراير وهم حزبيون من كل التيارات أصبحوا اليوم أعضاء في السلطة. فكيف نتحدث عن فشل ثورة يتربع معظم ثوارها على كراسي الحكم؟

لم تكن أحداث فبراير 2011 ثورة بالمعنى المتعارف عليه، بقدر ما كانت انتفاضة شعبية احتضنت الناقمين على الحكم. في ساحات “الثورة” تجمّع الناقمون على النظام بسبب سلبياته والناقمون عليه بسبب إيجابياته. وتجاورت خيام الساعين إلى اسقاط سلبيات الحكم مع خيام الساعين إلى إسقاط إيجابياته القليلة.

ضمّت الساحات من يرفضون صالح لأنه عرقل التغير الديموقراطي وبناء الدولة، كما ضمت من يريدون إسقاطه لأن ديموقراطيته الجزئية مخالفة للإسلام، ولأن دولته الشكلية الضعيفة همّشت نفوذ بعض المشايخ والمتنفذين.

ومشى في التظاهرات المطالبة بإسقاط النظام الحالمون بالدولة المدنية، والساعون إلى بعث خلافة السيف والجهاد، والمتطلعون إلى ترسيخ دولة القبيلة، والمنتظرين عودة الحلم الهاشمي وحكم البطنين. ورفع لافتات الثورة الثوار المخلصون ومكافحو الفساد الصادقون، كما رفع لافتاتها كبار الفسادين.

شباط 2011 كان حالة غضب شعبي لم ترق إلى مستوى الثورة، لأن الثورة لا تعني الاحتجاج على النظام فقط، وإنما امتلاك الرؤية والقدرة على تأسيس نظام جديد.

الانقلاب على فبراير حصل من الداخل من قبل أحزاب الإصلاح والمشترك والحوثيين وهم حالياً يمسكون بمفاصل الحكم والسلطة في حكومة الأمر الواقع وحكومة المنفى. لا يشجع تدني مستوى النقاش عن حول “ثورة فبراير 2011” على الحديث، لكن قد يكون مفيداً نقاش بعض الأوهام “الثورجية” الشائعة.

أولاً أنا أفرّق هنا بين الثوري و”الثورجي”:

فالثوري هو الشخص الذي يؤمن بالثورة عندما تصبح كل الخيارات الأخرى محدودة، ويصبح التغيير ضمن مؤسسات النظام القائم مستحيلاً. أما “الثورجي” فهو النمط السائد في الحياة السياسية العربية الذي يرى أن الثورة هي الأصل، وأن أي جهود سياسية أخرى لدمقرطة الحياة السياسية وإصلاحها مجرد احتيال على الثورة وحتميتها.

أعلى مراحل “الثورجية” هي تلك النزعة التدميرية التي ترى في إسقاط النظام وتدمير مؤسسات الدولة وإشعال الحروب والمواجهات في كل مكان، ذروة الإنجاز الثوري الذي يجب السعي إليه بكل الوسائل.

يرتبط بهذا الوهم وهم ثورجي آخر هو “الثورة المستمرة”… مستمرة ذاتياً حتى ولو توقف الثوار عن كونهم ثواراً، وامتلأت كروشهم بأموال ومناصب العصر الجديد

أول وهم ثورجي سيطر على الساحة اليمنية هو وهم “حتمية انتصار الثورة”.

“الثورة ستنتصر في النهاية”… هذا هو الإيمان اللاهوتي للثورجي الذي لا تدعمه أدلة أو براهين من تاريخ الثورات. بحسب هذا الإيمان، الثورات لا تفشل ولكنها تتعثر. ومسيرة التاريخ (التعبير الثورجي البديل للإرداة الإلهية) ستنتهي حتماً إلى انتصار ثورة فبراير وتحقيق أهدافها.

ليس للثورجي إحساس بالزمن. فالثورة قد تنتصر بعد 10 سنوات أو بعد 100 سنة… لا يهم… المهم هو الإيمان بالحتميات، وبأن التاريخ هو تاريخ انتصار الثورات انتصاراً ذاتياً بغض النظر عن الظروف والعوائق.

الوهم الثورجي الثاني هو “الفوضى الخلاقة” بمعنى أن كل التناقضات والصراعات والحروب التي يعيشها البلد ستتجه نحو نتيجة واحدة إيجابية بالضرورة، هي تدمير مراكز القوى وانتصار ثورة الجماهير بغض النظر عن المدخلات والقوى المسيطرة.

فإذا حاولت إقناع الثورجي بأن المدخلات الطائفية والرجعية لا يمكن أن تقود إلى نتائج ثورية مدنية ديموقراطية، سيقول لك إن التسخين الشديد والسحق الذي تقوم به الحروب والصراعات التي ستطحن الوطن لعقود ستحول المعادن الرديئة ذهباً، والطائفي وطنياً غيوراً.

وهذا شبيه بشخص يؤمن أن جمع أطنان من مخلّفات البناء، وخلطها عشوائياً سيؤدي في النهاية إلى ظهور بناء ذو معمار هندسي بديع.

يرتبط بهذا الوهم وهم ثورجي آخر هو “الثورة المستمرة”… مستمرة ذاتياً حتى ولو توقف الثوار عن كونهم ثواراً، وامتلأت كروشهم بأموال ومناصب العصر الجديد. الثورة في عرف الثورجي مخلوق يخطط ويوجه ويقود نفسه. وواضح أن هذه الفكرة انتكاس إلى التفكير الغائي الخرافي الذي كان ينظر للظواهر الطبيعية والاجتماعية على أنها قوى حية تغضب وتخطط وتنفذ.

الوهم الأخير الذي أناقشه هنا هو وهم “الثورة المضادة”… إذ يدعي ثوار ثورة فبراير اليمنية و”ثورجيوها” أن الثورة المضادة استولت على فبراير وحرفت مسارها. لكن العجيب هنا أن ثوار فبراير هم السلطة اليوم… فكيف يمكن الحديث عن فشل ثورة وصل معظم ثوارها إلى الحكم، مسؤولين ووزراء وديبلوماسيين وصحافيين ومخبرين وسجانين؟

لا يمكن أن يحدث هذا إلا في حالة واحدة فقط… أن يتحول الثوار أنفسهم إلى “ثورة مضادة”!

مشكلة فبراير ليست في الدفاع عن “الخروج” ومشروعيته، فلا يمكن أن ينكر مشروعيته إلا مُكابر. المشكلة في هذا التحوّل السياسي والأخلاقي للثوار من النقيض الى النقيض حتى أصبحوا على صورة جلاديهم ذاتها.

تبادل الطرفان الأدوار، وصار الثائر يلعب دور السجان، والمظلوم يتقمص دور كلب الحراسة، وشباب الثورة يدافعون عن القمع والقهر والفساد وقتل المدنيين وتجويع الضحايا، والمعارض يُخَوّن المعارضين والمنتقدين ويطالب بإبادتهم…

إذا تأملت في مواقف الثوار الحالية ستجد مشهداً شبيهاً بالصفحة الاخيرة من رواية “مزرعة الحيوانات” لجورج أورويل. يتقمص الثوار ثوب الجلاد السابق، ويتسابقون في الترويج للحروب والدمار والنزعات الطائفية وقتل المدنيين والتجويع والعقاب الجماعي للضحايا.

“وفي الخارج كانت المخلوقات التعيسة تنتقل بأبصارها من الخنازير إلى الرجال، ومن الرجال الى الخنازير، وقد اختلط عليها الأمر، فما عادت تميّز بين هؤلاء وهؤلاء…”.

إقرأ أيضاً:
عن مظلومية واحدة لليمنيين
اليمن: أسئلة الثورة والجمهورية في عصر الطائفة المسلّحة

13.02.2019
زمن القراءة: 4 minutes

يدور حديث سنوي في شباط/ فبراير من كل عام حول فشل “ثورة الشباب” لكن هذا الحديث يحمل أكثر من علامة تعجب. فمعظم ثوار فبراير وهم حزبيون من كل التيارات أصبحوا اليوم أعضاء في السلطة. فكيف نتحدث عن فشل ثورة يتربع معظم ثوارها على كراسي الحكم؟

لم تنجح “ثورة” فبراير اليمنية في إسقاط النظام، لكنها حوّلت الثوار إلى “نظام سابق”. هذا هو المصير المتفرّد للربيع اليمني، مقارنة بمصائر الربيع العربي في أماكن أخرى.

يدور حديث سنوي في شباط/ فبراير من كل عام حول فشل “ثورة الشباب” لكن هذا الحديث يحمل أكثر من علامة تعجب. فمعظم ثوار فبراير وهم حزبيون من كل التيارات أصبحوا اليوم أعضاء في السلطة. فكيف نتحدث عن فشل ثورة يتربع معظم ثوارها على كراسي الحكم؟

لم تكن أحداث فبراير 2011 ثورة بالمعنى المتعارف عليه، بقدر ما كانت انتفاضة شعبية احتضنت الناقمين على الحكم. في ساحات “الثورة” تجمّع الناقمون على النظام بسبب سلبياته والناقمون عليه بسبب إيجابياته. وتجاورت خيام الساعين إلى اسقاط سلبيات الحكم مع خيام الساعين إلى إسقاط إيجابياته القليلة.

ضمّت الساحات من يرفضون صالح لأنه عرقل التغير الديموقراطي وبناء الدولة، كما ضمت من يريدون إسقاطه لأن ديموقراطيته الجزئية مخالفة للإسلام، ولأن دولته الشكلية الضعيفة همّشت نفوذ بعض المشايخ والمتنفذين.

ومشى في التظاهرات المطالبة بإسقاط النظام الحالمون بالدولة المدنية، والساعون إلى بعث خلافة السيف والجهاد، والمتطلعون إلى ترسيخ دولة القبيلة، والمنتظرين عودة الحلم الهاشمي وحكم البطنين. ورفع لافتات الثورة الثوار المخلصون ومكافحو الفساد الصادقون، كما رفع لافتاتها كبار الفسادين.

شباط 2011 كان حالة غضب شعبي لم ترق إلى مستوى الثورة، لأن الثورة لا تعني الاحتجاج على النظام فقط، وإنما امتلاك الرؤية والقدرة على تأسيس نظام جديد.

الانقلاب على فبراير حصل من الداخل من قبل أحزاب الإصلاح والمشترك والحوثيين وهم حالياً يمسكون بمفاصل الحكم والسلطة في حكومة الأمر الواقع وحكومة المنفى. لا يشجع تدني مستوى النقاش عن حول “ثورة فبراير 2011” على الحديث، لكن قد يكون مفيداً نقاش بعض الأوهام “الثورجية” الشائعة.

أولاً أنا أفرّق هنا بين الثوري و”الثورجي”:

فالثوري هو الشخص الذي يؤمن بالثورة عندما تصبح كل الخيارات الأخرى محدودة، ويصبح التغيير ضمن مؤسسات النظام القائم مستحيلاً. أما “الثورجي” فهو النمط السائد في الحياة السياسية العربية الذي يرى أن الثورة هي الأصل، وأن أي جهود سياسية أخرى لدمقرطة الحياة السياسية وإصلاحها مجرد احتيال على الثورة وحتميتها.

أعلى مراحل “الثورجية” هي تلك النزعة التدميرية التي ترى في إسقاط النظام وتدمير مؤسسات الدولة وإشعال الحروب والمواجهات في كل مكان، ذروة الإنجاز الثوري الذي يجب السعي إليه بكل الوسائل.

يرتبط بهذا الوهم وهم ثورجي آخر هو “الثورة المستمرة”… مستمرة ذاتياً حتى ولو توقف الثوار عن كونهم ثواراً، وامتلأت كروشهم بأموال ومناصب العصر الجديد

أول وهم ثورجي سيطر على الساحة اليمنية هو وهم “حتمية انتصار الثورة”.

“الثورة ستنتصر في النهاية”… هذا هو الإيمان اللاهوتي للثورجي الذي لا تدعمه أدلة أو براهين من تاريخ الثورات. بحسب هذا الإيمان، الثورات لا تفشل ولكنها تتعثر. ومسيرة التاريخ (التعبير الثورجي البديل للإرداة الإلهية) ستنتهي حتماً إلى انتصار ثورة فبراير وتحقيق أهدافها.

ليس للثورجي إحساس بالزمن. فالثورة قد تنتصر بعد 10 سنوات أو بعد 100 سنة… لا يهم… المهم هو الإيمان بالحتميات، وبأن التاريخ هو تاريخ انتصار الثورات انتصاراً ذاتياً بغض النظر عن الظروف والعوائق.

الوهم الثورجي الثاني هو “الفوضى الخلاقة” بمعنى أن كل التناقضات والصراعات والحروب التي يعيشها البلد ستتجه نحو نتيجة واحدة إيجابية بالضرورة، هي تدمير مراكز القوى وانتصار ثورة الجماهير بغض النظر عن المدخلات والقوى المسيطرة.

فإذا حاولت إقناع الثورجي بأن المدخلات الطائفية والرجعية لا يمكن أن تقود إلى نتائج ثورية مدنية ديموقراطية، سيقول لك إن التسخين الشديد والسحق الذي تقوم به الحروب والصراعات التي ستطحن الوطن لعقود ستحول المعادن الرديئة ذهباً، والطائفي وطنياً غيوراً.

وهذا شبيه بشخص يؤمن أن جمع أطنان من مخلّفات البناء، وخلطها عشوائياً سيؤدي في النهاية إلى ظهور بناء ذو معمار هندسي بديع.

يرتبط بهذا الوهم وهم ثورجي آخر هو “الثورة المستمرة”… مستمرة ذاتياً حتى ولو توقف الثوار عن كونهم ثواراً، وامتلأت كروشهم بأموال ومناصب العصر الجديد. الثورة في عرف الثورجي مخلوق يخطط ويوجه ويقود نفسه. وواضح أن هذه الفكرة انتكاس إلى التفكير الغائي الخرافي الذي كان ينظر للظواهر الطبيعية والاجتماعية على أنها قوى حية تغضب وتخطط وتنفذ.

الوهم الأخير الذي أناقشه هنا هو وهم “الثورة المضادة”… إذ يدعي ثوار ثورة فبراير اليمنية و”ثورجيوها” أن الثورة المضادة استولت على فبراير وحرفت مسارها. لكن العجيب هنا أن ثوار فبراير هم السلطة اليوم… فكيف يمكن الحديث عن فشل ثورة وصل معظم ثوارها إلى الحكم، مسؤولين ووزراء وديبلوماسيين وصحافيين ومخبرين وسجانين؟

لا يمكن أن يحدث هذا إلا في حالة واحدة فقط… أن يتحول الثوار أنفسهم إلى “ثورة مضادة”!

مشكلة فبراير ليست في الدفاع عن “الخروج” ومشروعيته، فلا يمكن أن ينكر مشروعيته إلا مُكابر. المشكلة في هذا التحوّل السياسي والأخلاقي للثوار من النقيض الى النقيض حتى أصبحوا على صورة جلاديهم ذاتها.

تبادل الطرفان الأدوار، وصار الثائر يلعب دور السجان، والمظلوم يتقمص دور كلب الحراسة، وشباب الثورة يدافعون عن القمع والقهر والفساد وقتل المدنيين وتجويع الضحايا، والمعارض يُخَوّن المعارضين والمنتقدين ويطالب بإبادتهم…

إذا تأملت في مواقف الثوار الحالية ستجد مشهداً شبيهاً بالصفحة الاخيرة من رواية “مزرعة الحيوانات” لجورج أورويل. يتقمص الثوار ثوب الجلاد السابق، ويتسابقون في الترويج للحروب والدمار والنزعات الطائفية وقتل المدنيين والتجويع والعقاب الجماعي للضحايا.

“وفي الخارج كانت المخلوقات التعيسة تنتقل بأبصارها من الخنازير إلى الرجال، ومن الرجال الى الخنازير، وقد اختلط عليها الأمر، فما عادت تميّز بين هؤلاء وهؤلاء…”.

إقرأ أيضاً:
عن مظلومية واحدة لليمنيين
اليمن: أسئلة الثورة والجمهورية في عصر الطائفة المسلّحة