منذ أيام، تساءلت فتاة مصرية في منشور على “فيسبوك” عن مكان مناسب لكي تمارس فيه رياضة الجري، وبغض النظر عن السخرية التي تلقتها الفتاة إثر سؤالها الذي لا يتوافق مع منطقة كفيصل، إلا أن التعليقات في غالبيتها حينها بيّنت استحالة تلبية هذا الطلب -المشروع للمناسبة- أما البعض الآخر الذي كان أكثر طموحاً من الغالبية، فاقترح عليها أن تشترك في أحد النوادي في المنطقة أو في منطقة أقرب كالمهندسين، لكنهم حذروها من مبلغ الاشتراك المبالغ فيه.
لم تكن الردود مفاجئة كثيراً، فبناءً على آخر التقديرات، فإن نصيب الفرد في مصر من الأشجار كعنصر نباتي واحد، يمثل شجرة واحدة فقط، في حين بات نصيب الفرد الواحد من المساحات الخضراء في مصر يتراوح ما بين 17 سنتيمتراً في عام 2020 إلى 39 سنتيمتراً في أكثر المناطق “خضرة”، وهي نسبة ضئيلة جداً مقارنة بالأسّس الصحية والعلمية التي يجب أن تتوافر لكل فرد في أي مدينة حول العالم.
حددت رؤية الأمم المتحدة 2030 بأن نصيب الفرد من المسطحات الخضراء لا يجب أن يقل عن 15 متراً مربعاً، وهي نسبة تكاد تكون مستحيلة في ظل التطور العمراني في القاهرة، والذي تصاحبه كثافة سكانية بطبيعة الحال. أما إذا قورنت مصر بالدول المجاورة، فإن نصيب الفرد فيها ضئيل جداً، إذ يعد نصيب الفرد في ليبيا مثلاً -التي تغلب عليها المساحات الصحراوية- 4 شجرات لكل فرد و 21 شجرة لكل فرد في الجزائر و15 في المغرب و 14 في تونس.
تفسّر تلك الإحصاءات الإجابة المستحيلة التي عبر بها الناس في غالبيتهم، تعليقاً على سؤال الفتاة، فتلك المساحات لا تعكس أي وجود لمساحة فراغ في مدينة القاهرة تحديداً والمدن المصرية الأخرى عموماً، وهو ما ينعكس أيضاً على تلوث الهواء في مصر، فبناءً على التقرير الذي أصدرته شركة الأبحار البريطانية إيكو أكسبرت، فإن مدينة القاهرة واحدة من أكثر المدن تلوثاً في العالم مع مدن مثل دلهي.
أين ذهبت أشجار القاهرة؟
الأولوية في عمران أي مدينة تكون للمشاة أولاً ثم لمستخدمي النقل العام في ثانياً ثم لمستخدمي السيارات الخاصة ثالثاً. لكن القاهرة التي تشهد موجة شديدة العنف من إعادة التخطيط، انقلبت المعادلة فيها تماماً خلال العقد الأخير، إذ لم يعد للمشاة أو المتنزهين “الناس العاديين” أي وجود حقيقي في الشارع، في ما أصبحت الأولوية في الخدمة لأصحاب السيارات الخاصة عبر تمهيد الطرق والمحاور السريعة لهم على حساب الطبقة الأولى، والتي تشكل غالبية السكان، وهذا لا يُخفى على الحكومة طبعاً.
أما تاريخ القاهرة، فلا يعكس تلك النظرة إطلاقاً، فمنذ عملية التحديث والتغيير التي طاولت المدينة في عهد الخديوي إسماعيل، والحدائق العامة والمسطحات الخضراء كانت أساساً رئيسياً من أسس التحديث الجديد فيها، إذ أنشئ عدد من الحدائق والمتنزهات فضلاً عن زراعة عدد كبير من الأشجار على ضفاف النيل وغيرها من المناطق التي تتاخم القاهرة. كان هذا تطوراً طبيعياً لعمران القاهرة قبل تلك النقطة التحديثية، إذ حملت المدينة بين أسوارها عدداً كبيراً من المتنزهات والبساتين، صحيح أنها لم تكن بمفهوم العصر الحالي وموازينه إلا أن وجودها كان ملحوظاً إلى درجة كبيرة.
تتحدث الدولة منذ 2014 عن مشكلة جوهرية في عمران القاهرة الذي ورثته، الى درجة تحتم عليها تغييراً هيكلياً. كانت الحلول سريعة وعفوية جعلتهم ينشئون مدينة جديدة تحت اسم “العاصمة الإدارية الجديدة” من دون دراسة واعية وعميقة حول مدى جدواها ومردودها على العمران.
لم يكن إنشاء مدينة جديدة بالأمر الهين، فعلى قدر التغيير الذي يشكّله تأسيس تلك المدينة الجديدة في موقع صحراوي، كان هناك تغيير أيضاً على المستوى نفسه في السياق العمراني لمدينة القاهرة وأحيائها، إذ استلزم هذا إنشاء عدد ضخم من الطرقات والمحاور تمهّد الوصول إلى المدينة الجديدة.
ذلك كله أثّر بطبيعة الحال على المسطحات الخضراء في المدينة وعلى شكل العمران والمباني والشوارع، إذ أزيل عدد لا نهائي من الأشجار والمسطحات الخضراء التي كانت تضمها المدينة بين شوارعها. تشير التقديرات إلى أن القاهرة خسرت 910 آلاف متر مربع من المساحات الخضراء فقط بين عامي 2017-2020، وتراجعت المساحات الخضراء في مصر من 7.8 مليون متر مربع في 2017 إلى 6.9 مليون متر مربع في عام 2020.
لم يكن هذا هو العامل الوحيد والرئيسي في انهيار المسطحات الخضراء في القاهرة، بل أصبح تسليع الفراغ العام والقبضة الأمنية التي تسيطر على معظم الفراغات العامة سبباً رئيسياً للقضاء عليها، فقد حل عدد كبير من المشاريع التجارية محل المساحات الخضراء في المدينة.
وفي ظل موجة الحرارة الشديدة التي تشهدها القاهرة مع كل فصل صيف، مع تكدس الكتل العمرانية فيها، بات وجود الأشجار والمسطحات الخضراء ضرورة حياتية، فالأشجار تعمل على تقليل درجة الحرارة بنسبة 2 إلى 8 درجات مئوية.
في المدينة نماذج كثيرة!
عند قصر عابدين، القصر الذي أسّسه الخديوي إسماعيل ليكون مقراً للحكم بدلاً من القلعة، توجد حديقة خاصة به، شكلت على مدار السنوات الأخيرة متنفساً لأهل منطقة عابدين والسيدة زينب، بمساحتها الكبيرة نسبياً، إذ اعتادت أسر كثيرة على الذهاب في الأعياد والإجازت للتنزه فيها من دون تكلفة، فيأتي كل واحد منهم بحاجته من منزله.
بات الأمر حالياً مغايراً تماماً عما كان سابقاً، إذ تم تسوير الحديقة بسور حديدي، وأُلزم الزائرون بدفع تذكرة دخول بتكلفة “خمسة جنيهات”، أما المشكلة الأكبر فهي تحوّل الميدان إلى منطقة مطاعم ومقاه، إذ قُسِّم إلى قطع مختلفة تفصل بين كل قطعة وأخرى ممرات مرصوفة، خُصصت كل قطعة لمطعم أو مقهى معين، يستلزم الجلوس على أي منها طلب مشروب لا يقل عادة عن 20 جنيهاً.
يضاف إلى ذلك، أن جزءاً من تلك المساحة الخضراء في هذا الميدان تم تجريفة لتسهيل عملية إقامة تلك الأكشاك، إلا أنه بات مكلفاً اقتصادياً تكاد لا تتحمله الأسر المصرية البسيطة، بخاصة مع كثرة أفرادها.
لم يكن هذا النموذج قائماً لوحده في المدينة، إذ اشتملت المدينة على عدد كبير من هذه النماذج تحديداً، إما باقتطاع جزء من الحديقة بهدف إنشاء محلات أو أكشاك تجارية، أو تجريفها تماماً لإنشاء مشروع تجاري عليها، فعلى سبيل المثال تم تحويل جزء من حديقة جسر السويس إلى هذا النمط من الاستهلاك، وتم تجريف حديقة مسجد عمرو بن العاص تماماً.
قضية المساحات الخضراء في الطرق تأزمت هي الأخرى، إذ ترصد دراسة أعدها مركز “ندى” عن مصر الجديدة عنوانها “المشاة والبنية الأساسية للتنقل”، ما حلّ عمرانياً بمنطقة مصر الجديدة تحديداً، وكيف أثر هذا على حركة المشي والتنقل في المدينة التي أسست نظاماً عمرانياً مميزاً.
تشير الدراسة مثلاً، الى أنه تمت توسعة شارع الأهرام ليصبح بعرض 30 متراً مخصصة للسيارات، وجزيرة وسطى بعرض 4 أمتار بعدما كان 20 متراً مخصصة للسيارات، وجزيرة وسطى بعرض 14 متراً شاملة مسار توقف الترام ومحطاته.
تذكر الدراسة توسعة شارع أبو بكر الصديق ليصبح بعرض 55 متراً مخصصة للسيارات، وجزيرة وسطى بعرض 4 أمتار فقط بعدما كان 29 متراً مخصصة للسيارات، وجزيرة وسطى بعرض 30 متراً شاملة مسار الترام ومحطات التوقف. الجدير ذكره أن منطقة مصر الجديدة فقدت 96 فداناً من المساحات الخضراء وفقاً لدراسة حلول للسياسات البديلة، من بينها إزالة أجزاء من حديقة الميريلاند نفسها.
عن موقع مناخ
وفقاً لتقديرات تقرير نُشر في موقع “خطـ 30” تحت عنوان “فُسَح القاهرة تضيق على فقرائها”، فإن ربع السكان في القاهرة تقريباً وضعوا معيار المسافة كأولوية في زيارة أي حديقة. ويشير التقرير كذلك إلى المعايير والأسس التي وضعها التنسيق الحضاري للمناطق المفتوحة والمسطحات الخضراء، لافتاً إلى أحقية كل مواطن بالوصول إلى المنطقة المفتوحة في حيه، بحيث لا تبعد منه أكثر من كيلومتر واحد، وألا تقل مساحتها عن ثلاثة أفدنة.
يضيف التقرير، أنه لا يجب أن تقتصر هذه المساحات على استخدام فئة معينة، وهو ما يتنافى مع الغالبية العظمى لأحياء مدينة القاهرة، إذ لا تتوافر تلك الإمكانية في الوصول السهل الى الحدائق العامة، فضلاً عن عدم وجودها بالأساس، بالإضافة إلى عدم صلاحية تلك الحدائق للاستخدام بسبب تردّي أوضاع المرافق فيها. يتابع التقري أن 75.4 في المئة من حدائق القاهرة لا تحتوي على أي مرافق، وهو ما يؤثر سلباً على جودة الاستخدام.
أما ضفاف النيل في القاهرة، فالوضع فيها معقد إلى درجة كبيرة، إذ تم استغلال معظم مساحاتها إما في نواد خاصة أو منشآت حكومية أو مطاعم وشركات. يشير تقرير “خط 30″، الى أن المطاعم تحتل 20.83 في المئة من المساحة، فيما تأتي المتاجر في المرتبة الثانية بنسبة 14.13 في المئة ثم الشركات بنسبة 13.39 في المئة ثم المنشآت الحكومية بنسبة 6.59 في المئة ثم البواخر العائمة والثابتة بنسبة 6.16 في المئة. نحن إذاً أمام 62 في المئة تقريباً من مساحة النيل لا يمكن الوصول إليها بسهولة.
تعرض دراسة أعدها مركز الإنسان والمدينة للأبحاث الإنسانية والاجتماعية عام 2022 عن المسطحات الخضراء في القاهرة، من خلال الخرائط، ما آلت إليه المساحات الخضراء داخل مساحة مدينة القاهرة الكبرى، ما بين عامي 2013 و 2022، وهي فترة كافية يمكن من خلالها الحكم على نهج الدولة تجاه الطرق والشوارع الرئيسية في القاهرة وسياستها. إذ تبين الخرائط ما آلت إليه منطقة الكورنيش بحي غرب القاهرة، من إزالة ما يقرب من 10500 متر مربع من الأشجار التي كانت تغطي الكورنيش واستبدالها بممشى خرساني ومقاه ومطاعم سياحية تحت اسم مشروع ممشى أهل مصر، والأمر نفسه في منطقة كورنيش النيل بحي الساحل، حيث تمت إزالة ما يقرب من 33 ألف متر مربع من الأشجار في المسافة الواقعة بين كوبري إمبابة وكوبري تحيا مصر لخدمة المشروع نفسه.
المسطحات الخضراء في القاهرة ماذا تعني؟
تشير منظمة الصحة العالمية إلى أنه من الواجب أن يتمتع كل السكان بإمكانية الوصول السهل إلى المسطحات الخضراء، التي هي بطبيعة الحال عامل رئيسي في المدن ضمن العوامل العمرانية فيها، إذ تعد متنفساً للمدن من خلال معالجة الهواء وتنقيته، وكذلك متنفساً لسكان تلك المدن، بحيث تلجأ إليها الأسر للتنزه، وهو حق مكفول للجميع وضرورة إنسانية وحياتية مهمة لا يجب التغافل عنها.
وفي ظل موجة الحرارة الشديدة التي تشهدها القاهرة مع كل فصل صيف، مع تكدس الكتل العمرانية فيها، بات وجود الأشجار والمسطحات الخضراء ضرورة حياتية، فالأشجار تعمل على تقليل درجة الحرارة بنسبة 2 إلى 8 درجات مئوية.
وجود الأشجار والمسطحات الخضراء في المدينة ضروري وحيوي، وعلامة على حياة تلك المدينة والعمران فيها، لذلك فإن عملية تجريفها تعد جريمة بحق الناس أولاً ثم المدينة ثانياً.