fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

“أيوب ثائرا”.. نضج المهزوم والإقرار بالعجز أمام أسئلة المستحيل

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

ينتبه فلاسفة عصر ما بعد النهضة، إلى أن الله إذ استمع إلى أيوب وأجاب شكواه في النهاية، فإنه لم يجب أسئلته حول أسباب تعرضه لظلم لم يستحقه بسبب إثمه، بل رفض الاستجابة لصوت أصحابه، اللذين ربطوا سبب بلائه بخطيئة ارتكبها…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

ما الشر؟ 

عبر كل ديانة إبراهيمية، تُسرد قصة النبي أيوب، وبنفس العظة: الصبر على البلاء، لتصبح قصة ذلك النبي الذي تعرض لشر مفرط في تغوله، واحدة من أكثر القصص ترويعاً، إذ تذكر بحقائق دنيوية قبل أن تكون حقائق دينية. 

 حتى أكثر الرجال صلاحاً، لن يعفيه ذلك من الابتلاء دون سبب يصعب فهمه: الحياة قاسية. إذ لله كما للطبيعة وجهان، أولهما مفرط الرحمة والثاني مفرط الجبروت، أما الحياة نفسها فعشوائية في منح النعمة والنقمة.

يتذكر المرء مثلا في الذاكرة القريبة لا البعيدة، وفاة الصحفي النابه، والأهم الشاب صاحب الإنجازات الصحفية في عمر قصير يعد بمستقبل أكثر إشراقاً مازال أمامه، محمد أبو الغيط، بمرض السرطان، الذي صارعه بنبل، وصرعه بخسة. شر لم يرتكبه ضده إنسان ولم يجز به لكونه قد اقترف سوءًا ضد أحد، فكي الوحش اللذان ابتلع صاحبنا النبيل، ينتمي لقوة فائقة غير مفهومة، نشطب وجهها ذي الجبروت، نتواطأ على نسيانه، كي نحيا. 

تأتي واقعة كتلك، لتذكرنا بسؤال أيوب الورع،  الذي لم يتردد في أن يواجه به الله نفسه، رغم أنه الأكثر صلاحا بين أقرانه، السؤال الذي حذفته الخطابات الدينية إذ استولت على قصة أيوب: لماذا؟ سؤال ظن أصحاب أيوب أنهم بنفيه، يستولون على جوهر الإيمان ومعناه من قلب الرجل الذي تخيره الله نفسه لمواجهة لا تليق إلا بنبي مختار.

في النص القرآني نفسه، نتلقى تلك القصة مخففة، مقرونة بذلك الدعاء الرحيم،” ربي أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين”، وهو دعاء إذ يخفف من غلواء ما تعرض له أيوب من شر مفرط، يبرز الوجه الرحيم، يتجاوز أسئلة سفر أيوب العارية، إلى بث العزاء والسند لملايين المستضعفين أمام كل أنواع الشرور، اللذين يشكلون أغلب الإنسانية على مر عصورها، من هبطت لهم الأديان والأفكار الكبرى في الأصل. عزاء مستحق. إذ أن حياتهم تتشكل من ابتلاءات مستمرة.

لكن كما استولى أصحاب أيوب على سؤال أيوب، استولى الكهنوت الإسلامي على عزاء المستضعف، فحوله إلى تكريس للخنوع والانهزامية وهجر التفكير النقدي، والأهم ربط بطش الملوك والأقوياء وذوي النفوذ بالبطش الفائق للطبيعة الذي يمثله الإله، الشيء نفسه الذي فعله من قبل الكهنوت المسيحي واليهودي.

بعد فشل ثورات الربيع العربي، ظل سؤال العدالة المفقودة المركزي يطارد ذلك الجيل الذي اختبر فشل الثورة، “تكرر سؤال عن دور الله فيما يحدث وغياب العدالة، عن شعورهم بالخذلان من الله، وأعرب بعضهم عن اتجاهه للاأدرية والإلحاد، وأعرب البعض الآخر عن فقدانه للإيمان بوجود إله عادل يحكم الكون وفق مبدأ العدالة”، يقول الباحث أحمد شحاتة في مشاركته بكتاب “أيوب ثائرا”، الذي حرره كل من الباحث فؤاد حلبوني وإسماعيل فايد وشارك فيه عدد من الكتاب هو مجموعة من المقالات التي تستكشف سؤال المعاناة في سياق الانتفاضات العربية وما تلاها، نشرت مسلسلة في موقع “الجمهورية” قبل أن تصدر مجمعة عن دار نشر “هن”.

عبر كل ديانة إبراهيمية، تُسرد قصة النبي أيوب، وبنفس العظة: الصبر على البلاء، لتصبح قصة ذلك النبي الذي تعرض لشر مفرط في تغوله، واحدة من أكثر القصص ترويعاً، إذ تذكر بحقائق دنيوية قبل أن تكون حقائق دينية. 

يستخدم الكتاب شخصية أيوب الكتابية، التي تحملت ابتلاءات ومحن كبيرة، كمثل لمعاناة الشعوب العربية التي نهضت ضد الطغيان والقهر، فواجهت المزيد من العنف والبؤس تمثلت في مجازر وانتهاكات وإبادات جماعية وقرى محروقة، كما حدث في سوريا، اعتقالات وأحكام إعدام بالجملة واندفاع إلى خراب اقتصادي بوتيرة متسارعة كما حدث في مصر. شر مفرط، حتى أنه من فرط تغوله، لا يمكن نسبته إلى إنسان، بل لا يمكن أن نراه إلا كشر فائق، كالشر الطبيعي، مشابه للأوبئة والزلازل والبراكين.

يناقش الكتاب الآثار اللاهوتية والفلسفية والسياسية والأدبية لهذا التشبيه، للوهلة الأولى ستظن أنه تحدياً للروايات المسيطرة للهزيمة واليأس، إلا أنه في نبرة أخرى، هي الأشد عمقاً يستكشف اليأس ذاته كإمكانية، والأمل العظيم ككذبة قوضتها الهزيمة، كالخير الوحيد الممكن من عمق كل هذا الشر. يمكن فهم هذا حتى على مستوى السياق الشخصي، عندما يتحطم كل شيء حقا، عندما نفقد كل أمل حقا، نعيد اختراعه، لكن عبر الحقائق تلك المرة، عبر نسيان التضخيم والمبالغات في القدرة وفي تصنيف أنفسنا وآمالنا كالخير الوحيد الممكن، عبر محاولة اكتشاف سياق أكثر جدة وابتكارا، حيث تتبدى الآمال السابقة ككذبة.

هذا اليأس، يأس جيل تعرض بالفعل للكارثة، وعاها، استوعبها، صارت جزء من نسيج تفكيره، والآن إذ هو يتخطى الأربعين من عمره، لا يملك إلا نضج التجربة ليقدمها، فهو لن يكون وقود ثورة تالية، إن كانت الثورة بالفعل هي الحل، بل في ثنايا هذا الكتاب شك كالحكمة في جدوى الثورات نفسها، هذا اليأس والشك الذي ينبت منه الأمل والحكمة، إذ يتأمل التجربة بأثر رجعي، ينتصر لنفسه بترميم الجزء المصاب منه، إنه ليس صوت جيل قادم، بل صوت إلى جيل قادم، يخبره أن الثورة نفسها محكومة بأن تتكرر، وأن تفشل، بحكمة من كان ذات يوم في موقع الزهو باختراع الثورة، نسيانه كشاب أن موجته الثورية، كانت ضمن موجات أخرى عبر التاريخ، كلها انتهت بالفشل، حتى عندما انتصرت، بتحولها إلى سلطة، تكون قمعية في الأغلب. هكذا يعي الثائر السابق مركزه، كنقطة في بحر أكبر منه، لم يكن أبدا هو التاريخ.

يعبر الكتاب أولا على مفهوم الشر الطبيعي، عند فلاسفة عصر ما بعد النهضة قبل أن ينتقل إلى نظيره الإسلامي والمسيحي اللاهوتي، بوصف الشرق هو المكان الذي يبدي الإيمان على الفلسفة، الذي ربما لم يستوعب بعد كل إمكانيات السفر واختزله في مفهوم الصبر، الرضا، الصمت، فبرغم أن القصة مقتضبة في النص القرآني، إلا أن تفسير الطبري ينقل قصة أيوب المتطابقة مع العهد القديم.

ينتبه فلاسفة عصر ما بعد النهضة، إلى أن الله إذ استمع إلى أيوب وأجاب شكواه في النهاية، فإنه لم يجب أسئلته حول أسباب تعرضه لظلم لم يستحقه بسبب إثمه، بل رفض الاستجابة لصوت أصحابه، اللذين ربطوا سبب بلائه بخطيئة ارتكبها، صوت أصحاب أيوب هو الصوت المهيمن في الرواية الشرقية، إجابتهم السهلة مثل سور يحجب كل الأسئلة.

 “لايبنتز” حاول حل مشكلة الشر بالقول إن عالمنا هو أفضل العوالم الممكنة، وأن الشر يساهم في خير أكبر. واستشهد بسفر أيوب لإظهار عظمة الله وتعقيد خلقه. ولكن فولتير سخر من هذا المفهوم في روايته كانديد، وأظهر كيف يعاني الإنسان من شرور لا معنى لها في عالم غير عادل. كما ناقش كانط مسألة الشر في كتابه الدين ضمن حدود العقل وحده، وأشار إلى أن قصة أيوب تعبر عن احترام الإنسان للقانون الأخلاقي، حتى وإن لم يحصل على مكافأة من الله. وفي العصر الحديث، استخدم بعض المفكرين قصة أيوب كوسيلة للتأمل في التجارب المؤلمة التي شهدها العالم، مثل المحرقة والحروب والثورات. فقصة أيوب تحدي نظرات سطحية أو مسطحة للشر، وتدعو إلى التفكير في دور الإنسان في مواجهته.

في الكتاب تكون الفوضى هي هزيمة الثورات. لكن ماذا لو كانت الفوضى، الوحش الرابض في الجحور هي الثورة نفسها؟ أنها هي اللحظة التي يحتاجها النظام الحضاري، ليظل مخترقا قابلا للتجديد والتطور، مفهوم لا يربط الثورة لا بالإثم، ولا بالتضخيم بوصفها مستقبلا آمنا ونهائيا وكاسحا، بل يقوضه إلى مفهوم اللحظة، اللحظة التي عبدناها طويلا وحاولنا تحويلها إلى دهر، حتى ابتلعنا. هنا لا أفكر بصوت أصحاب أيوب، الذي ربط الهزيمة بذنب ارتكبناه، لكن بمحاولة التفكير من وضع أيوب نفسه، إذ تحرر وعيه بالتجربة، سؤالي له علاقة أكثر بالتصحيح، ولا يملك إجابة فكما يعلمنا قراء سفر أيوب في هذا الكتاب، لم يجب الله على أسئلة أيوب.

 الفشل في تحقيق هدف ما يواجهنا بخيار: هل نعيد المحاولة أم لا؟ هذا ما يسأل عنه نادر أندراوس، في واحد من أكثر فصول الكتاب صدقا وارتباكا، كأنه لعثمة الحائر، مستنداً إلى كتاب التكرار لكيركيجارد، في سياق فشل الثورة. هل يختار الإنسان الانسلاخ عن الماضي والاندماج في الحياة الروتينية، أم يصر على مبادئه ويواجه الخسارة والمعاناة؟ في كلا الحالتين، سيشعر بالندم واليأس، بحسب كيركيجارد. فالتكرار إما أن يفقد الأصالة والحيوية، أو أن يفشل في استعادة المشاعر الأولية. لذلك، يقدم كيركيجارد قصة أيوب كمثال على تكرار ناجح، حيث استطاع أيوب أن يتقبل الشر والفشل كجزء من الحياة، وأن يستجيب لصوت الله الذي أظهر له عظمة وتعقيد خلقه. بذلك، استعاد أيوب دهشته وإدراكه لرحمة الله. يستنتج أندراوس من ذلك أن التمرد على الله ضروري لإقامة شراكة معه، وأن الفشل فرصة لإعادة تعريف الحرية والثورة. فالثورة ليست حقيقة ثابتة، بل استثناء مؤقت، يخلق احتمالات جديدة، لكنه لا يضمن تحققها. فالثورات محكومة بالفشل، سواء نجحت أو فشلت في التكرار.”

الثورة إذن، ليست لحظة الحقيقة، بل لحظة الاستثناء التي تفتح ثقبا في مجال فهم العالم، لكنها لا تصير العالم، حتى لو نجحت فهي تتحول إلى سلطة قد تستوجب التمرد؛ مما يعني فشل تكرارها، كأن الثورة هي قوى الفوضى التي تضمن بقاء النظام الحضاري مرنا، وعرضة للتأثيرات المتخيلة، كأنها الوحش البدائي الكامن في الطبيعة الذي يضمن تدفق القوة الإبداعية. الثورات كلها محكومة بالفشل، سواء نجحت في تكرار نفسها، أو فشلت في خلق هذا التكرار.

هذا التواضع أمام التجربة، الإقرار بالعجز أمام فهم المستحيل، دون التخلي عن شجاعة المحاولة، هو خلاصة ذلك “السفر الصغير”، الذي استلهم سفر أيوب..

أحد أسئلة الكتاب الأساسية هي ماذا يفعل المهزوم هزيمة ساحقة بخياراته الأخلاقية، هل يظل على إيمانه بها؟ هل ثمة تخفف هنا

ولا أظن أن الكتاب سعى من الأساس إلى إجابة بل إلى نوع من الإلهام، يلهم النص قارئه أو يحفزه على التصرف أو التفكير بشكل مختلف حول وضع الشعوب العربية، وفي وضعه الخاص، من خلال تقديم وجهات نظر فلسفية وتاريخية مختلفة حول مسألة الشر، وإظهار كيف تعامل بعض المفكرين والكتاب مع هذه المسألة بطرق إبداعية ونقدية، إلى التأمل في موقفه ومسؤوليته في مواجهة الشر، والنظر في البدائل والعواقب الممكنة لأفعاله. لا يقدم النص حلاً نهائيًا أو سهلاً، بل يشجع على التفاعل مع تعقيد وغموض المسألة، والبحث عن معنى وغاية خاصة به في عالم مليء بالمعاناة والظلم.

بحسب وصف الباحث احمد شحاتة وهو محق، سفر أيوب هو سؤال كبير يفرز المزيد من الأسئلة، بل إن كل سؤال يسحق معه أي أمل في الإجابة، لذا لا ينبغي النظر إليه إلا بوصفه مثيراً للتفكير، الأسئلة الأساسية في قصة العهد القديم، تبدأ من سؤال الشيطان: هل تنتهي عبادة أيوب إذا توقف عطاء الله؟ وبعد اختبار تلك الفرضية بسلب أيوب كل ما يملك، يطرح أيوب سؤاله: لماذا أنا؟ تتبعها أسئلة عن أعباء التجربة الحياتية التي لم يختر أن يخوضها؟ وعندما يرفض إجابة أصدقائه التي تسطح أسئلته، بربط إثمه بالعقاب الإلهي، وعندما يطلب مجادلة الله، فيأتيه عبر العاصفة، فهو يستجيب لشكواه، دون أن يجيبه، بل يمطره بوابل من الأسئلة المتتالية التي تشرح له تعقيدات خلق الكون، وقصور نظرة أيوب وأصحابه.

يرى أحمد شحاتة، الباحث في مجال العلوم الإسلامية، أن سؤال أيوب المتطابق مع أسئلة جيل الربيع العربي، سؤال مركزي في تاريخ الإنسان عبر العصور، لذا فلن تنجح كل وسائل القمع في منعه، فحتى لو لم يحصل أيوب على إجابة، ولم ينجح الثوار أيضا في الحصول على إجابة، فالسؤال نفسه يمثل للإنسان صرخة إعلان عن وجوده

أول الطريق هو الإقرار ربما أنه عالم غير عادل، وأن حتمية السعادة أو النصر وفق مفهوم ليبنتيز، مفهوم غير صحيح استحق سخرية فولتير.

يذكرنا الكاتب السوري عدي الزغبي المشارك بالكتاب، بتشابه حتمية السعادة مع الحتمية التاريخية عند الماركسية والتي انتقدها كل من الليبرالي إشعيا برلين، وتبناه من جانب اليسار برتراند راسل ونعوم تشومسكي،  فقد اعتقدوا بضرورة السعي للاشتراكية دون الإيمان بحتمية النصر التاريخي، يرفض عدي هذا الحل، ثم يعرج على الحل الأبيقوري الذي اتخذه أغلبنا بالابتعاد عن السياسة، بعد أن يعرض حل فولتير بالتشاؤم مع مواصلة العمل، من خلال الأمل. 

لكن هل يحق للمرء إذن أن يتحدث مع السوريين اللذين فقدوا الكثير بعد الحرب، عن ضرورة العمل والإيمان بالخير أو حتى ضرورة الإيمان بحتمية النصر أو الجنة الأرضية أو السماوية الموعودة، يرى عدي الزغبي أن ذلك لا يجوز، ولا يحق لأحد دعوة من عانوا تلك الأهوال لتكرار التجربة.

ويظل هو نفسه محتارا بين خيار فولتير الساعي لمواصلة العمل، رغم عدم الإيمان وبين الحكمة الأبيقورية التي تستبعد السياسة، ما ينقذه هو قصائد السياب الذي لا ينادي في مرضه الوطن أو الإنسانية أو التاريخ، بل المحبة، تحديدا زوجته وأبنائه.

في ظل عالم ينعدم فيه الأمل محكوم بالشر المطلق، يرى عدي في المحبة المقتصرة على فئة محددة، والأعمال الصغيرة التي لا تسعى لتغيير مسارات الحرب، الحل الوحيد الممكن لإضاءة عتمة العالم والقلوب.

بشكل ذاتي، كانت حياتي منذ العام 2014، ميلا لهذا الخيار، الكف عن الاشتباك مع “شر العالم”، هجر الصحافة والقاهرة، قصر المحبة على العائلة، التركيز على إنتاج مشاريع أدبية متتالية، لكن ماذا لو أن شر العالم لم يكف عن الاشتباك معك، أثبتت كل خيارات الفقاعة الذاتية بعد سنوات من إشاحة النظر، أن الجحيم قريب، إن لم يكن في اعتقال أصدقاء من دوائر “المحبة”، ففي تسارع وتيرة الخراب الاقتصادي.

بالتأكيد لم يقصد عدي معنى الفقاعة، بل معنى الأفعال الصغيرة. أما إشاحة النظر فمستحيلة، لكن تظل الخيارات فردية، فعل الثورة هو فعل تعميم الخيار بقوة الحشد والتخوين والضغط على الآخرين، في محاولة تعريف الثوري الساذجة في بدايات الثورة، تم تعريف كشخص من المستحيل وجوده كقديس منزه، بلا تناقض ولا خيانة. ففي لعبة الكراسي الموسيقية تلك، لن يتبقى سوى كرسي واحد يسكنه الفراغ، أتلك هي “الخطيئة الأصلية” التي تجهض الثورات؟

صوت العجائز أم صوت الحكمة، أم أيوب إذ نضج ليس بسبب فهمهم لهول ما تعرض له، لكن تحديدا أمام إدراكه لهول عجزه عن الفهم.

15.06.2023
زمن القراءة: 9 minutes

ينتبه فلاسفة عصر ما بعد النهضة، إلى أن الله إذ استمع إلى أيوب وأجاب شكواه في النهاية، فإنه لم يجب أسئلته حول أسباب تعرضه لظلم لم يستحقه بسبب إثمه، بل رفض الاستجابة لصوت أصحابه، اللذين ربطوا سبب بلائه بخطيئة ارتكبها…

ما الشر؟ 

عبر كل ديانة إبراهيمية، تُسرد قصة النبي أيوب، وبنفس العظة: الصبر على البلاء، لتصبح قصة ذلك النبي الذي تعرض لشر مفرط في تغوله، واحدة من أكثر القصص ترويعاً، إذ تذكر بحقائق دنيوية قبل أن تكون حقائق دينية. 

 حتى أكثر الرجال صلاحاً، لن يعفيه ذلك من الابتلاء دون سبب يصعب فهمه: الحياة قاسية. إذ لله كما للطبيعة وجهان، أولهما مفرط الرحمة والثاني مفرط الجبروت، أما الحياة نفسها فعشوائية في منح النعمة والنقمة.

يتذكر المرء مثلا في الذاكرة القريبة لا البعيدة، وفاة الصحفي النابه، والأهم الشاب صاحب الإنجازات الصحفية في عمر قصير يعد بمستقبل أكثر إشراقاً مازال أمامه، محمد أبو الغيط، بمرض السرطان، الذي صارعه بنبل، وصرعه بخسة. شر لم يرتكبه ضده إنسان ولم يجز به لكونه قد اقترف سوءًا ضد أحد، فكي الوحش اللذان ابتلع صاحبنا النبيل، ينتمي لقوة فائقة غير مفهومة، نشطب وجهها ذي الجبروت، نتواطأ على نسيانه، كي نحيا. 

تأتي واقعة كتلك، لتذكرنا بسؤال أيوب الورع،  الذي لم يتردد في أن يواجه به الله نفسه، رغم أنه الأكثر صلاحا بين أقرانه، السؤال الذي حذفته الخطابات الدينية إذ استولت على قصة أيوب: لماذا؟ سؤال ظن أصحاب أيوب أنهم بنفيه، يستولون على جوهر الإيمان ومعناه من قلب الرجل الذي تخيره الله نفسه لمواجهة لا تليق إلا بنبي مختار.

في النص القرآني نفسه، نتلقى تلك القصة مخففة، مقرونة بذلك الدعاء الرحيم،” ربي أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين”، وهو دعاء إذ يخفف من غلواء ما تعرض له أيوب من شر مفرط، يبرز الوجه الرحيم، يتجاوز أسئلة سفر أيوب العارية، إلى بث العزاء والسند لملايين المستضعفين أمام كل أنواع الشرور، اللذين يشكلون أغلب الإنسانية على مر عصورها، من هبطت لهم الأديان والأفكار الكبرى في الأصل. عزاء مستحق. إذ أن حياتهم تتشكل من ابتلاءات مستمرة.

لكن كما استولى أصحاب أيوب على سؤال أيوب، استولى الكهنوت الإسلامي على عزاء المستضعف، فحوله إلى تكريس للخنوع والانهزامية وهجر التفكير النقدي، والأهم ربط بطش الملوك والأقوياء وذوي النفوذ بالبطش الفائق للطبيعة الذي يمثله الإله، الشيء نفسه الذي فعله من قبل الكهنوت المسيحي واليهودي.

بعد فشل ثورات الربيع العربي، ظل سؤال العدالة المفقودة المركزي يطارد ذلك الجيل الذي اختبر فشل الثورة، “تكرر سؤال عن دور الله فيما يحدث وغياب العدالة، عن شعورهم بالخذلان من الله، وأعرب بعضهم عن اتجاهه للاأدرية والإلحاد، وأعرب البعض الآخر عن فقدانه للإيمان بوجود إله عادل يحكم الكون وفق مبدأ العدالة”، يقول الباحث أحمد شحاتة في مشاركته بكتاب “أيوب ثائرا”، الذي حرره كل من الباحث فؤاد حلبوني وإسماعيل فايد وشارك فيه عدد من الكتاب هو مجموعة من المقالات التي تستكشف سؤال المعاناة في سياق الانتفاضات العربية وما تلاها، نشرت مسلسلة في موقع “الجمهورية” قبل أن تصدر مجمعة عن دار نشر “هن”.

عبر كل ديانة إبراهيمية، تُسرد قصة النبي أيوب، وبنفس العظة: الصبر على البلاء، لتصبح قصة ذلك النبي الذي تعرض لشر مفرط في تغوله، واحدة من أكثر القصص ترويعاً، إذ تذكر بحقائق دنيوية قبل أن تكون حقائق دينية. 

يستخدم الكتاب شخصية أيوب الكتابية، التي تحملت ابتلاءات ومحن كبيرة، كمثل لمعاناة الشعوب العربية التي نهضت ضد الطغيان والقهر، فواجهت المزيد من العنف والبؤس تمثلت في مجازر وانتهاكات وإبادات جماعية وقرى محروقة، كما حدث في سوريا، اعتقالات وأحكام إعدام بالجملة واندفاع إلى خراب اقتصادي بوتيرة متسارعة كما حدث في مصر. شر مفرط، حتى أنه من فرط تغوله، لا يمكن نسبته إلى إنسان، بل لا يمكن أن نراه إلا كشر فائق، كالشر الطبيعي، مشابه للأوبئة والزلازل والبراكين.

يناقش الكتاب الآثار اللاهوتية والفلسفية والسياسية والأدبية لهذا التشبيه، للوهلة الأولى ستظن أنه تحدياً للروايات المسيطرة للهزيمة واليأس، إلا أنه في نبرة أخرى، هي الأشد عمقاً يستكشف اليأس ذاته كإمكانية، والأمل العظيم ككذبة قوضتها الهزيمة، كالخير الوحيد الممكن من عمق كل هذا الشر. يمكن فهم هذا حتى على مستوى السياق الشخصي، عندما يتحطم كل شيء حقا، عندما نفقد كل أمل حقا، نعيد اختراعه، لكن عبر الحقائق تلك المرة، عبر نسيان التضخيم والمبالغات في القدرة وفي تصنيف أنفسنا وآمالنا كالخير الوحيد الممكن، عبر محاولة اكتشاف سياق أكثر جدة وابتكارا، حيث تتبدى الآمال السابقة ككذبة.

هذا اليأس، يأس جيل تعرض بالفعل للكارثة، وعاها، استوعبها، صارت جزء من نسيج تفكيره، والآن إذ هو يتخطى الأربعين من عمره، لا يملك إلا نضج التجربة ليقدمها، فهو لن يكون وقود ثورة تالية، إن كانت الثورة بالفعل هي الحل، بل في ثنايا هذا الكتاب شك كالحكمة في جدوى الثورات نفسها، هذا اليأس والشك الذي ينبت منه الأمل والحكمة، إذ يتأمل التجربة بأثر رجعي، ينتصر لنفسه بترميم الجزء المصاب منه، إنه ليس صوت جيل قادم، بل صوت إلى جيل قادم، يخبره أن الثورة نفسها محكومة بأن تتكرر، وأن تفشل، بحكمة من كان ذات يوم في موقع الزهو باختراع الثورة، نسيانه كشاب أن موجته الثورية، كانت ضمن موجات أخرى عبر التاريخ، كلها انتهت بالفشل، حتى عندما انتصرت، بتحولها إلى سلطة، تكون قمعية في الأغلب. هكذا يعي الثائر السابق مركزه، كنقطة في بحر أكبر منه، لم يكن أبدا هو التاريخ.

يعبر الكتاب أولا على مفهوم الشر الطبيعي، عند فلاسفة عصر ما بعد النهضة قبل أن ينتقل إلى نظيره الإسلامي والمسيحي اللاهوتي، بوصف الشرق هو المكان الذي يبدي الإيمان على الفلسفة، الذي ربما لم يستوعب بعد كل إمكانيات السفر واختزله في مفهوم الصبر، الرضا، الصمت، فبرغم أن القصة مقتضبة في النص القرآني، إلا أن تفسير الطبري ينقل قصة أيوب المتطابقة مع العهد القديم.

ينتبه فلاسفة عصر ما بعد النهضة، إلى أن الله إذ استمع إلى أيوب وأجاب شكواه في النهاية، فإنه لم يجب أسئلته حول أسباب تعرضه لظلم لم يستحقه بسبب إثمه، بل رفض الاستجابة لصوت أصحابه، اللذين ربطوا سبب بلائه بخطيئة ارتكبها، صوت أصحاب أيوب هو الصوت المهيمن في الرواية الشرقية، إجابتهم السهلة مثل سور يحجب كل الأسئلة.

 “لايبنتز” حاول حل مشكلة الشر بالقول إن عالمنا هو أفضل العوالم الممكنة، وأن الشر يساهم في خير أكبر. واستشهد بسفر أيوب لإظهار عظمة الله وتعقيد خلقه. ولكن فولتير سخر من هذا المفهوم في روايته كانديد، وأظهر كيف يعاني الإنسان من شرور لا معنى لها في عالم غير عادل. كما ناقش كانط مسألة الشر في كتابه الدين ضمن حدود العقل وحده، وأشار إلى أن قصة أيوب تعبر عن احترام الإنسان للقانون الأخلاقي، حتى وإن لم يحصل على مكافأة من الله. وفي العصر الحديث، استخدم بعض المفكرين قصة أيوب كوسيلة للتأمل في التجارب المؤلمة التي شهدها العالم، مثل المحرقة والحروب والثورات. فقصة أيوب تحدي نظرات سطحية أو مسطحة للشر، وتدعو إلى التفكير في دور الإنسان في مواجهته.

في الكتاب تكون الفوضى هي هزيمة الثورات. لكن ماذا لو كانت الفوضى، الوحش الرابض في الجحور هي الثورة نفسها؟ أنها هي اللحظة التي يحتاجها النظام الحضاري، ليظل مخترقا قابلا للتجديد والتطور، مفهوم لا يربط الثورة لا بالإثم، ولا بالتضخيم بوصفها مستقبلا آمنا ونهائيا وكاسحا، بل يقوضه إلى مفهوم اللحظة، اللحظة التي عبدناها طويلا وحاولنا تحويلها إلى دهر، حتى ابتلعنا. هنا لا أفكر بصوت أصحاب أيوب، الذي ربط الهزيمة بذنب ارتكبناه، لكن بمحاولة التفكير من وضع أيوب نفسه، إذ تحرر وعيه بالتجربة، سؤالي له علاقة أكثر بالتصحيح، ولا يملك إجابة فكما يعلمنا قراء سفر أيوب في هذا الكتاب، لم يجب الله على أسئلة أيوب.

 الفشل في تحقيق هدف ما يواجهنا بخيار: هل نعيد المحاولة أم لا؟ هذا ما يسأل عنه نادر أندراوس، في واحد من أكثر فصول الكتاب صدقا وارتباكا، كأنه لعثمة الحائر، مستنداً إلى كتاب التكرار لكيركيجارد، في سياق فشل الثورة. هل يختار الإنسان الانسلاخ عن الماضي والاندماج في الحياة الروتينية، أم يصر على مبادئه ويواجه الخسارة والمعاناة؟ في كلا الحالتين، سيشعر بالندم واليأس، بحسب كيركيجارد. فالتكرار إما أن يفقد الأصالة والحيوية، أو أن يفشل في استعادة المشاعر الأولية. لذلك، يقدم كيركيجارد قصة أيوب كمثال على تكرار ناجح، حيث استطاع أيوب أن يتقبل الشر والفشل كجزء من الحياة، وأن يستجيب لصوت الله الذي أظهر له عظمة وتعقيد خلقه. بذلك، استعاد أيوب دهشته وإدراكه لرحمة الله. يستنتج أندراوس من ذلك أن التمرد على الله ضروري لإقامة شراكة معه، وأن الفشل فرصة لإعادة تعريف الحرية والثورة. فالثورة ليست حقيقة ثابتة، بل استثناء مؤقت، يخلق احتمالات جديدة، لكنه لا يضمن تحققها. فالثورات محكومة بالفشل، سواء نجحت أو فشلت في التكرار.”

الثورة إذن، ليست لحظة الحقيقة، بل لحظة الاستثناء التي تفتح ثقبا في مجال فهم العالم، لكنها لا تصير العالم، حتى لو نجحت فهي تتحول إلى سلطة قد تستوجب التمرد؛ مما يعني فشل تكرارها، كأن الثورة هي قوى الفوضى التي تضمن بقاء النظام الحضاري مرنا، وعرضة للتأثيرات المتخيلة، كأنها الوحش البدائي الكامن في الطبيعة الذي يضمن تدفق القوة الإبداعية. الثورات كلها محكومة بالفشل، سواء نجحت في تكرار نفسها، أو فشلت في خلق هذا التكرار.

هذا التواضع أمام التجربة، الإقرار بالعجز أمام فهم المستحيل، دون التخلي عن شجاعة المحاولة، هو خلاصة ذلك “السفر الصغير”، الذي استلهم سفر أيوب..

أحد أسئلة الكتاب الأساسية هي ماذا يفعل المهزوم هزيمة ساحقة بخياراته الأخلاقية، هل يظل على إيمانه بها؟ هل ثمة تخفف هنا

ولا أظن أن الكتاب سعى من الأساس إلى إجابة بل إلى نوع من الإلهام، يلهم النص قارئه أو يحفزه على التصرف أو التفكير بشكل مختلف حول وضع الشعوب العربية، وفي وضعه الخاص، من خلال تقديم وجهات نظر فلسفية وتاريخية مختلفة حول مسألة الشر، وإظهار كيف تعامل بعض المفكرين والكتاب مع هذه المسألة بطرق إبداعية ونقدية، إلى التأمل في موقفه ومسؤوليته في مواجهة الشر، والنظر في البدائل والعواقب الممكنة لأفعاله. لا يقدم النص حلاً نهائيًا أو سهلاً، بل يشجع على التفاعل مع تعقيد وغموض المسألة، والبحث عن معنى وغاية خاصة به في عالم مليء بالمعاناة والظلم.

بحسب وصف الباحث احمد شحاتة وهو محق، سفر أيوب هو سؤال كبير يفرز المزيد من الأسئلة، بل إن كل سؤال يسحق معه أي أمل في الإجابة، لذا لا ينبغي النظر إليه إلا بوصفه مثيراً للتفكير، الأسئلة الأساسية في قصة العهد القديم، تبدأ من سؤال الشيطان: هل تنتهي عبادة أيوب إذا توقف عطاء الله؟ وبعد اختبار تلك الفرضية بسلب أيوب كل ما يملك، يطرح أيوب سؤاله: لماذا أنا؟ تتبعها أسئلة عن أعباء التجربة الحياتية التي لم يختر أن يخوضها؟ وعندما يرفض إجابة أصدقائه التي تسطح أسئلته، بربط إثمه بالعقاب الإلهي، وعندما يطلب مجادلة الله، فيأتيه عبر العاصفة، فهو يستجيب لشكواه، دون أن يجيبه، بل يمطره بوابل من الأسئلة المتتالية التي تشرح له تعقيدات خلق الكون، وقصور نظرة أيوب وأصحابه.

يرى أحمد شحاتة، الباحث في مجال العلوم الإسلامية، أن سؤال أيوب المتطابق مع أسئلة جيل الربيع العربي، سؤال مركزي في تاريخ الإنسان عبر العصور، لذا فلن تنجح كل وسائل القمع في منعه، فحتى لو لم يحصل أيوب على إجابة، ولم ينجح الثوار أيضا في الحصول على إجابة، فالسؤال نفسه يمثل للإنسان صرخة إعلان عن وجوده

أول الطريق هو الإقرار ربما أنه عالم غير عادل، وأن حتمية السعادة أو النصر وفق مفهوم ليبنتيز، مفهوم غير صحيح استحق سخرية فولتير.

يذكرنا الكاتب السوري عدي الزغبي المشارك بالكتاب، بتشابه حتمية السعادة مع الحتمية التاريخية عند الماركسية والتي انتقدها كل من الليبرالي إشعيا برلين، وتبناه من جانب اليسار برتراند راسل ونعوم تشومسكي،  فقد اعتقدوا بضرورة السعي للاشتراكية دون الإيمان بحتمية النصر التاريخي، يرفض عدي هذا الحل، ثم يعرج على الحل الأبيقوري الذي اتخذه أغلبنا بالابتعاد عن السياسة، بعد أن يعرض حل فولتير بالتشاؤم مع مواصلة العمل، من خلال الأمل. 

لكن هل يحق للمرء إذن أن يتحدث مع السوريين اللذين فقدوا الكثير بعد الحرب، عن ضرورة العمل والإيمان بالخير أو حتى ضرورة الإيمان بحتمية النصر أو الجنة الأرضية أو السماوية الموعودة، يرى عدي الزغبي أن ذلك لا يجوز، ولا يحق لأحد دعوة من عانوا تلك الأهوال لتكرار التجربة.

ويظل هو نفسه محتارا بين خيار فولتير الساعي لمواصلة العمل، رغم عدم الإيمان وبين الحكمة الأبيقورية التي تستبعد السياسة، ما ينقذه هو قصائد السياب الذي لا ينادي في مرضه الوطن أو الإنسانية أو التاريخ، بل المحبة، تحديدا زوجته وأبنائه.

في ظل عالم ينعدم فيه الأمل محكوم بالشر المطلق، يرى عدي في المحبة المقتصرة على فئة محددة، والأعمال الصغيرة التي لا تسعى لتغيير مسارات الحرب، الحل الوحيد الممكن لإضاءة عتمة العالم والقلوب.

بشكل ذاتي، كانت حياتي منذ العام 2014، ميلا لهذا الخيار، الكف عن الاشتباك مع “شر العالم”، هجر الصحافة والقاهرة، قصر المحبة على العائلة، التركيز على إنتاج مشاريع أدبية متتالية، لكن ماذا لو أن شر العالم لم يكف عن الاشتباك معك، أثبتت كل خيارات الفقاعة الذاتية بعد سنوات من إشاحة النظر، أن الجحيم قريب، إن لم يكن في اعتقال أصدقاء من دوائر “المحبة”، ففي تسارع وتيرة الخراب الاقتصادي.

بالتأكيد لم يقصد عدي معنى الفقاعة، بل معنى الأفعال الصغيرة. أما إشاحة النظر فمستحيلة، لكن تظل الخيارات فردية، فعل الثورة هو فعل تعميم الخيار بقوة الحشد والتخوين والضغط على الآخرين، في محاولة تعريف الثوري الساذجة في بدايات الثورة، تم تعريف كشخص من المستحيل وجوده كقديس منزه، بلا تناقض ولا خيانة. ففي لعبة الكراسي الموسيقية تلك، لن يتبقى سوى كرسي واحد يسكنه الفراغ، أتلك هي “الخطيئة الأصلية” التي تجهض الثورات؟

صوت العجائز أم صوت الحكمة، أم أيوب إذ نضج ليس بسبب فهمهم لهول ما تعرض له، لكن تحديدا أمام إدراكه لهول عجزه عن الفهم.