“عنوان كلّ أمة صحافتها” يقول الشاعر بشارة عبد الله الخوري. في زمن ستالين في الحقبة السوفياتية، لم يكن مطلوباً من الصحافي أن يكون مجرّد كاتب أو ناقل خبر، بل كان جندياً في جيش الدعاية، مكرهاً على تمجيد الزعيم، وتزيين الواقع بالكذب، وتحويل الخسارة الماحقة إلى نصر عظيم. الصحف لم تكن تنشر شيئاً من دون موافقة الرقابة، حتى حالة الطقس لم تكن تُذاع ما لم تُرضِ السلطات، كان كلّ سطر مكتوب محسوباً، وكلّ كلمة قد تكلّف حياة…
إسحاق بابل، الكاتب والصحافي الروسي اللامع، لم ينجُ من هذا الجحيم.
كتب عن “الجيش الأحمر”، وعن بؤس الناس تحت الحكم الشيوعي، وتجرّأ على نقد الواقع، قيل إنه “بصق في الحساء”، أي أساء للأيديولوجيا، فكان مصيره الاعتقال في 1939 على يد جهاز الشرطة السرّية (NKVD). عُذّب حتى كُسر صمته، وأُعدم في 1940، في محاكمة صورية، عادلة فقط في نظر النظام، بعد عقود، اعترفت الدولة بأن بابل لم يكن عدواً، بل ضحيّة…
في زمن محمد السادس، تحديداً في ربيع 2020، وبينما كان العالم يعيش ذعر الجائحة، كانت في المغرب قصّة أخرى تتشكّل… قصّة صحافيين اختارا أن يكتبا في المساحات الضيّقة، أن يسيرا على الحبل الممدود بين حرية التعبير وخطوط الدولة الحمراء…
سليمان الريسوني، بقامته الهادئة وقلمه اللاذع، كان يفتح جراح المجتمع بقوّة المقال، وكان يومها رئيس تحرير “أخبار اليوم”؛ الجريدة التي أزعجت أكثر مما يُحتمل، وفي أحد الأيام، ومن دون سابق إنذار، طوّقت الشرطة باب بيته في الدار البيضاء، لتبدأ فصول مأساة طويلة!
اتُّهم سليمان باعتداء جنسي، وبدأت آلة الاتّهام تدور، لم يكن الاعتقال هو الصدمة، بل ما تلاه، تشهير فاق في قذارته قدرة الشيطان نفسه على إبداع الخطيئة، محاكمة غاب عن أغلب جلساتها بسبب وضعه الصحّي، وإضراب عن الطعام امتدّ لأكثر من 100 يوم، جعل جسده يتآكل أمام عدسات الزملاء الأعداء، الذين “أبشمت محمصتهم” مما بقي من لحمه… وانتهى الحكم: خمس سنوات سجن!
في الجهة الأخرى، كان عمر الراضي يسير على خطّ النار، شاب يساري طافح الطيبة، وصحافي استقصائي قلّ نظيره، لا يتعب من تتبُّع الخيوط المتشابكة للفساد وتواطؤ السلطة.
تعرّض للمراقبة، للتجسّس، للتشهير والاعتداء، وكان يعلم ذلك، بل إن هاتفه، كما أكّدت تقارير منظّمة العفو الدولية، كان مستهدفاً ببرنامج “بيغاسوس”، لكن الضربة لم تأتِ من حيث توقّع!
اعتُقل هو الآخر في صيف 2020، بتهم ثقيلة: تجسّس واغتصاب، ستّة أعوام خلف القضبان، بعد محاكمة تداخل فيها القانوني بالسياسي، والجنائي بالأمني.
في الظاهر، كانت هذه ملفات جنائية. في العمق، قصّة صحافيين كُبّلت أقلامهما حين صار السؤال أخطر من الجواب!
منظمات دولية صرخت: المحاكمة غير عادلة، والسلطات ردّت: “القضاء مستقلّ”، أما الحقيقة فبقيت حائرة، معلّقة بين القضبان، تنتظر فجراً جديداً، حين جاء غطّته غمامة أخرى من التشهير والرداءة.
في المغرب، لا يختلف الوضع عن هذا بشيء، لقد تكالب الجمع على الصحافيين، ودارت بهما رحى زمن أغبر، وبقى الحصان وحيداً يجترّ الألم والحزن، فبالإضافة إلى ما يعيشونه جميعاً في ظلّ تكالبٍ لا مرئي، وإقدام بعض الذين يمارسون كلّ شيء إلا الصحافة على سرقة الصحافة بلا وجه حقّ، ها هي صنوف الدهر ترمي أبناء “صاحبة الجلالة” بثالثة أثافي الذلّ، إذ جعلتهم يتحرّكون تحت إمرة التعيينات، كأنهم “مقدمون وشيوخ”، عليهم أن يستمعوا إلى طرق الأواني خلف الجدران، لا أن يكونوا مشارط حقّ مسلطة على السلطة وفسادها.
ومن مفارقات هذا اليوم، أني أقرأ تحايا الدخلاء على خدر الصحافة، وتوعّدهم لـ”الدخلاء” بالتحييد وتنقية الحقل الصحافي والإعلامي منهم، فهل يقصدون أنفسهم أم ماذا؟!
منذ العام 2014، بدأ المغرب يشهد تراجعاً مقلقاً في مجال حرّية التعبير، حيث بدأت تظهر ملامح هجوم غير مسبوق على المدافعين عن حقوق الإنسان، سواء من الصحافيين، أو المدونين، أو الناشطين السياسيين، أو الجمعيات الحقوقية، وفي مقدّمتها “الجمعية المغربية لحقوق الإنسان”، وهو ما شكّل بداية لمرحلة جديدة من استقواء السلطة على الإعلام والمجتمع المدني.
من هنا برز تزايد ملحوظ في حالات اعتقال المدونين والناشطين، الذين يعبّرون عن آرائهم على منصّات التواصل الاجتماعي، أو عبر مقالاتهم الصحافية.
ربما نكون نحن الذين حفا نعلنا من السير في دروب الصحافة، دخلاء على من سقطوا عليها من العدم، وحفّت أخفافهم من السير فيها “سخارين” لأسيادهم ومخبرين عن الصحافيين الحقيقيين، ومحاربين لهم في لقمة عيشهم وفي زوايا حرّيتهم… اللعنة عليهم ما أغباهم وما أبغاهم!
قديماً، وفي سياق مختلف، قال فارس الكلمة وشهيدها غسان كنفاني: “أعمل في الصحافة كما يعمل العبيد العرايا في التجديف”، وكان يصف الوقت الذي تسرقه الصحافة منه. واليوم في هذه المعجنة، نقول نحن الصحافيين البسطاء، وفي زمن قتل الصحافة، إن العبيد أوفر حظاً منّا، على الأقلّ كانوا يُدركون أنهم عبيد، ونحن نتوهّم حرّيتنا، الحرّية التي وضعت “مملكة الرعب” أنفها فيها، وسلّمت رمّة ناقتها إلى عاقرها.
ذنبنا نحن الصحافيين الذين يسكنهم حبّ هذه المهنة، هو أننا كما يقول نزار قباني “أسرى معاً وفي قفص الحب يُعاني السجان والمسجون”، نُعاني نحن الذين لا نُقال ولا نستقيل، وتُعاني الصحافة معنا، التي صارت مطيّة كلّ لصّ ومدلّس، وسبيةً للذين تناوبوا على اغتصابها وسلبها، وعاثوا في خدرها فساداً، وهم يمتشقون سيوفاً من خشب أطول من هاماتهم، وينظمون الشعر الرديء في مقالاتهم، يتغزّلون فيها بأربابهم وأولياء نعمتهم، أولئك الذين يرون في البلاد مُلكاً لهم ولحلائلهم، وكلّ من فيها عبيد يسهرون على خدمتهم وراحتهم.
من دون سلطة للصحافة لا وجود للديمقراطية، وباستفحال صحافة السلطة تستأسد الشمولية، الفساد و”الذلقراطية”، من دون وجود من يقول “لا”، ودونها لن نحقّق دولة حقّ وقانون، لن تكون مساءلة للفساد، بل سيكون تطبيع معه، تطبّل له صحافة الببغاوات التي لا دور منوط بها، إلا ملء الفراغ وتزيين المَشاهد والأقفاص.
وبعد كلّ ما حدث، وما زال يحدث، بقي قلّة يُحاربون “خفافيش الظلام” المخابراتي، الذين يريدون لنا أن نبقى خلف أسوار الحديد سجناً، أو خلف أسوار الخوف اللامرئية، ولكننا، من حيث لا يدرون أو يدرون سنبقى في مواجهة هذا النوع الصحافي، الذي لم يسبق في المغرب استعماله حتى في أشدّ سنوات رصاصه ظلاماً وظلماً، إنه “صحافة البورنو”، وهو نقلة نوعية لصحافة التشهير من “النبوءة الصحافية”؛ كما أسماها الصحافي رشيد البلغيتي، إلى “الصحافة الإباحية” الساقطة نحو علوّ السلطة ونشوتها بقتل الصحافيين رمزياً ومعنوياً، والمنتشية برعشة الشبق المدفوعة بأموال الشعب المقهور، في زمنٍ أصبحت فيه المهنية هي أن تكتب المخابرات والعبيد يوقّعون!
هذه الحال لن تدوم، كما لم يدُم حكم ستالين ولا غيره من الأنظمة التي حاولت دفن الحقيقة تحت أكاذيبها، ببساطة لأن عجلة الزمن لا تقف على هواها، والحرّية دائماً تجد سبيلها للظهور، حتى لو كان الثمن باهظاً… وستبقى جدران السجون شاهدة على معاناة الصحافيين والمظلومين، لكن جدران الصمت والرقابة لن تبقى مُحكمة إلى الأبد.
كما كانت الستالينية والأزمنة القمعية الأخرى مجرّد فصول في تاريخ لا يُنسى، فإن هذا العصر القاتم الذي نعيشه اليوم، سيظلّ نقطة سوداء سرعان ما سيتبدّد ظلامها… وسيتذكّر الناس هؤلاء الصحافيين الذين رفعوا القلم شموعاً وسط الظلام، وسيعلمون أن الحقّ مهما قُمع، سيظهر في النهاية، وأن الصوت الحرّ لا يُسكَت مهما حاولوا.
طالما بقي الأمل في قلوب أولئك الذين يرفضون الاستسلام، وطالما بقي القلم في أيدي الصحافيين الذين لا يخافون الاستبداد، فإن فجر الحرّية قادم، وإن طغاة اليوم لن يكونوا أبداً، أكثر دواماً من الذين سبقوهم، لأن أدوات الفضح أصبحت مشاعاً وفضاءً مفتوحاً.