شكلت قضية الدكتورة رانيا العباسي وأطفالها الشرارة الأولى لفتح ملف المؤسسات الرعائية المحلية والدولية منها، إذ تشير تقارير صحافية وتحقيقات ميدانية إلى تورّط هذه المؤسسات بشكل مباشر في إخفاء الأطفال والتلاعب بأوراقهم الثبوتية.
وكانت قوات النظام السوري اعتقلت الطبيبة رانيا العباسي وأطفالها الستة في دمشق في عام 2013. وعلى رغم محاولات عائلتها للوصول إلى أي مؤشر حول مصيرهم، لم يتمكن أحد من التأكد من أي معلومة بهذا الخصوص. ونشر أخ الدكتورة، حسان العباسي، فيديو يتحدث فيه عن اتصالاته مع قرى الأطفال SOS في دمشق بعد ورود معلومات عن وجود أطفال أخته فيها تحت أسماء مستعارة.
وكانت المنظمة الدولية لقرى الأطفال SOS، أقرت في بيان، بأنها استقبلت فعلاً أطفال المعتقلين والمعتقلات حتى عام 2019، بطلب من النظام السوري آنذاك، وبأنها طلبت منه وقف تحويل هؤلاء الأطفال إليها. شكل هذا البيان اعترافاً رسمياً بأن القرى استقبلت أطفالاً حتى عام 2019، وأن دوراً أخرى لعبت هذا الدور إما تزامناً مع عمل قرى الأطفال أو حتى بعد توقّفها عن استقبال الأطفال.
وهنا لا بد من طرح سؤال عن دور مؤسسات الرعاية والوظائف التي تؤديها بعيداً أو ربما في صلب الواقع السلطوي العام.
في الحقيقة، لعبت دور الأيتام دوراً سياسياً على امتداد التاريخ، ولم تكن دائماً في خدمة الأطفال، أو الوجه المشرق للعمل الخيري، بل شكلت غالباً أداة تستخدمها السلطات في عملية محو الهوية الأصيلة وتطويع الأطفال وتحضيرهم للخضوع للسلطة السائدة وثقافتها وأجنداتها.
ففي كندا مثلاً، بدأ النظام الرعائي في عام 1831 مع إنشاء 139 مؤسسة رعائية استهدفت أكثر من 150 ألف طفل من السكان الأصيلين. في عام 1920، أعلن مسؤول شؤون الشعب الأصيل أن الهدف الأساسي من دور الأيتام هو القضاء على مشكلة الشعب الأصيل وما يمثله من إعاقة أمام التمدد الاستعماري واستغلال الموارد الطبيعية في مناطق الشعب الأصيل.
وهكذا أُنشئت المؤسسات الرعائية أو ما عُرف حينها بالمدارس الداخلية، لتفصل الأطفال عن أهاليهم ولغتهم وثقافتهم المحلية عبر العمل التبشيري الإجباري الذي قامت به الكنيسة الكاثوليكية آنذاك.
جاءت النتائج كارثية، إذ بلغت نسبة وفيات الأطفال في تلك المؤسسات إلى 40 في المئة من مجمل الأطفال المودعين فيها. وفشل النظام المؤسساتي في ضمان التعليم، إذ تمكن 3 في المئة فقط من الوصول إلى الصف الأول متوسط. كما دمر هذا النظام الروابط الأسرية والثقافية، ما أدى إلى أجيال تعاني من آثار نفسية واجتماعية عميقة.
وتؤكد الدراسات أن الأفراد الذين عاشوا في تلك المؤسسات يفتقرون الى المهارات الاجتماعية والقدرة على تكوين علاقات أسرية، ما انعكس ارتفاعاً في معدلات الإدمان والجريمة بينهم، لا سيما أن عدداً كبيراً منهم تعرض للاعتداء الجنسي في تلك المؤسسات الخاضعة لسلطة الكنيسة الكاثوليكية.
وتشير الدراسات أيضاً إلى أن الإرث الثقيل لهذا النظام المؤسساتي الرعائي يتطلب جهوداً مضاعفة للإصلاح، إذ لا تزال الأجيال المتعاقبة تعاني من تبعات هذا الفصل القسري عن الأسرة.
الإرث الاستعماري لنموذج المؤسسات الرعائية امتد إلى كل الدول العربية التي خضعت للاستعمار، وهكذا شهدت منطقتنا، بخاصة لبنان وسوريا، ازدهاراً لهذه المقاربة رغم نتائجها السيئة على الأطفال.
في السنوات الأخيرة، تم الكشف عن مئات المقابر غير المسماة في مواقع المدارس الداخلية السابقة في كندا، ما أثار صدمة واسعة النطاق وأعاد تسليط الضوء على الآثار المأساوية لهذه المؤسسات.
وكشفت عمليات البحث باستخدام تقنيات الرادار، عن وجود رفات أطفال لم يتم تسجيلهم بشكل رسمي، وهو ما يشير إلى الانتهاكات الجسيمة التي عانى منها السكان الأصيلون وأطفالهم في ظل النظام الرعائي. هذه الاكتشافات عززت الدعوات إلى تحقيق العدالة والمحاسبة، وأكدت ضرورة الاستماع إلى أصوات الناجين وأسرهم، الذين ما زالوا يحملون جراحاً عميقة جراء هذه الممارسات الوحشية. كما دعت إلى توسيع التحقيقات والتعويض عن هذا الإرث المأساوي الذي شكّل أحد أعمق أوجه القهر في تاريخ كندا.
إلا أن الإرث الاستعماري لنموذج المؤسسات الرعائية امتد إلى كل الدول العربية التي خضعت للاستعمار، وهكذا شهدت منطقتنا، بخاصة لبنان وسوريا، ازدهاراً لهذه المقاربة رغم نتائجها السيئة على الأطفال.
في لبنان مثلاً، تم تخصيص العمل الرعائي وأصبحت لكل طائفة دار أيتام تابعة لها تحت غطاء العمل الخيري، لكن هذه المؤسسات هدفت بالفعل إلى محو الهوية الفردية للأطفال وجعلهم مديونين للنظام الرعائي ومن خلفه الطائفة أو الزعيم أو السياسي.
لم يبتعد نموذج قرى الأطفال SOS العالمي عن هذه المنهجية، إذ انتشرت هذه القرى في كل دول العالم، مؤكدة النفس الاستعماري للدول وخضوعها للسلطة المحلية.
ولا بد أن نعترف أيضاً بأن منظمات دولية عدة تخضع للأنظمة القمعية في البلاد التي توجد فيها، وهذا ما يثير مخاوف أخلاقية كبيرة.
وفي العودة الى موضوع تورّط قرى الأطفال SOS في سوريا في عملية إخفاء أطفال بطلب من السلطات المحلية، فهذا ما حدث ايضاً خلال غزو روسيا لأوكرانيا، إذ اعتمدت روسيا الفصل القسري للأطفال في أوكرانيا عن أهاليهم ونقلهم إلى روسيا لأغراض التبني. كما تم إيداع عدد كبير منهم في قرى الأطفال SOS بهدف محو هويتهم الأوكرانية وتطبيعهم في النظام الروسي.
آنذاك، واجهت المنظمة انتقادات كثيرة حول دورها في تنفيذ سياسة النظام الحاكم، أما المنظمة الدولية فبررت ما حصل في القرى في روسيا بأنه فعل فردي من الموظفين المحليين التابعين للنظام الحاكم.
وتجاوباً مع الضغط الأوروبي، قررت المنظمة الدولية في 18 أيار/ مايو 2023، فصل قرى الأطفال في روسيا عن المنظمة الدولية.
ليست المرة الأولى التي تتورط فيها قرى الأطفال SOS كمنظمة دولية وجمعيات محلية، في عملية إخفاء أطفال، ولا تنفع حجج مثل إلزامية الخضوع للضغوطات المحلية في تبرير تورط المنظمة وشكل رعايتها في ما هو انتهاك صارخ بحق الأطفال.
ولا بد أن تتحمل المنظمة الدولية مسؤوليتها في توفير معلومات عن مصير هؤلاء الأطفال، والقيام بمراجعة شاملة لنمط الرعائية المؤسساتية، فما حصل سابقاً في كندا من فصل قسري ومن ثم اكتشاف المقابر تحت المؤسسات الرعائية والممارسات المكتشفة في سوريا وقبلها في أوكرانيا، يدفعنا الى التفكير في جدوى نظام رعائي أثبت فشله.
إقرأوا أيضاً: