fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

إدلب الأكثر عجزاً وهشاشةً في مواجهة “كورونا”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

مع وجود نقاط التفتيش العسكرية وآلاف المقاتلين المسلحين وملايين اللاجئين وحياة يومية مُدمرة، باتت إدلب السورية المكان الأكثر عجزاً وهشاشةً على وجه الأرض في مواجهة فايروس “كورونا”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

حصد كوفيد-19 بالفعل أرواح ما يقرب من 180 ألف شخص حول العالم وتسبب في معاناة الملايين. وقد واجهت حتى أكثر المجتمعات ازدهاراً وأفضل أنظمة الرعاية الصحية صعوبة في مجاراة الأمر. ربما تُعد محافظة إدلب السورية واحدة من أكثر الأماكن هشاشة وأشدها ضعفاً على وجه الأرض. وأصبحت المدينة، التي تأوي حوالى مليوني لاجئ من مختلف أنحاء سوريا والمدمرة بفعل حرب مستمرة منذ 9 سنوات والتي تعج بنقاط التفتيش وتحتشد على أراضيها قوات عسكرية من بلدان كثيرة، وجماعات محلية مسلحة، في حالة فزع تحسباً لتفشي وباء لا يرحم. 

منطقة خالية من كوفيد-19

إلى الآن، كان عزل المحافظة التي لا يحلق في سمائها الطيران المدني ويصعب أيضاً السفر براً عبر أراضيها في صالحها. فحتى 23 نيسان/ أبريل، لم تُسجل إصابات جديدة بها. علاوة على ذلك، ساعد الفايروس في تحقيق اتفاق هشٍ لأكثر من شهر حتى الآن، إذ تم التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق نار بين تركيا وروسيا في 5 آذار/ مارس، وذلك بعد عملية عسكرية واسعة استمرت أكثر من شهرين قادتها قوات النظام السوري بدعمٍ من روسيا ضد المعارضة المسلحة في إدلب.

وثقت قلة قليلة باتفاق وقف إطلاق النار هذا، فقد كان القتال عنيفاً للغاية ولم يدم وقف إطلاق النار السابق سوى لبضعة أيام فحسب. لكن الآن أصبحت جميع الجهات الفاعلة الخارجية منشغلة في مكافحة الجائحة، وعلى رغم انتهاك وقف إطلاق النار مرات عدة، بات سكان إدلب يخلدون إلى النوم في هدوءٍ للمرة الأولى منذ كانون الأول/ ديسمبر من عام 2019 ويتمتعون بسماءٍ صافية دون مقاتلات عسكرية تحلق فوق رؤوسهم.

وفقاً لمنظمات الإغاثة، بدأ آلاف السوريين الذين يعيشون في مخيمات اللجوء بالقرب من الحدود التركية العودة إلى بيوتهم أو بالأحرى أطلال بيوتهم المهدمة في إدلب. تصور بعض أولئك المهجرين أن وقف إطلاق النار قد يستمر لفترة من الوقت، ولهذا أرادوا أن يكونوا بالقرب من منازلهم قبل بداية رمضان. في حين قرر آخرون العودة لإدراكهم أنه عندما يصل الفايروس إلى المخيمات المكتظة باللاجئين لن تتوافر وسائل وقاية من الوباء في ظل هذا الاكتظاظ مع غياب الحد الأدنى من الأوضاع المعيشية المقبولة.

إذا ما وصل كوفيد-19 إلى إدلب، سيكون من الصعب للغاية تقديم المساعدة للسكان. فقد قُصفت مستشفيات المدينة بل وحتى مراكز الإسعاف الأوليّ، إضافة إلى أن بعض الاحتياطات الأساسية مثل العزل الذاتي وغسل اليدين باستمرار، هي ببساطة إجراءات غير ممكنة في ظل أوضاع المخيم. 

عالقون في المنتصف

أصبح سكان إدلب المدنيون محاصرين بين أطراف النزاع المتناحرين بشراسة. 

فمن ناحية، تحاول قوات النظام التابعة لبشار الأسد استعادة سيطرتها على المحافظة بدعمٍ من القوات العسكرية الروسية التي تشارك بكثافة في العمليات الجوية والبرية، وبدعمٍ أيضاً من قوات مسلحة موالية لإيران.

ومن ناحية أخرى، توجد جماعات مختلفة من المعارضة المسلحة، معظمها متطرفة تسيطر حالياً على المدينة. ومن بينها جماعات كثيرة تعتبرها بلدان عدة، وأيضاً الأمم المتحدة، متطرفة.

ومن ناحية ثالثة، تدخل تركيا في تحالفٍ مع جماعات المعارضة السورية المسلحة الموالية لها، محاولةً الحفاظ على نفوذها في مناطق في إدلب لا تخضع لسيطرة النظام السوري، وسعياً أيضاً إلى وقف تدفق موجة اللاجئين الكبيرة المحتملة إلى أراضيهم. 

وثقت قلة قليلة باتفاق وقف إطلاق النار هذا، فقد كان القتال عنيفاً للغاية ولم يدم وقف إطلاق النار السابق سوى لبضعة أيام فحسب.

استقبلت تركيا بالفعل ما يزيد عن ثلاثة ملايين و600 ألف لاجئ سوري، وبسبب الوضع الاقتصادي المتدهور في البلاد وتغيُّر الرأي العام، باتت تركيا ببساطة في وضع لا يسمح لها باستقبال موجة جديدة من اللاجئين. وعلى ما يبدو فإن حكومة أردوغان تأمل مستقبلاً بإعادة توطين ولو جزء على الأقل من السوريين المقيمين حالياً في تركيا في إدلب تحت حمايتها.

في 27 شباط/ فبراير، هاجمت القوات السورية مواقع عسكرية تركية، ما أودى بحياة عشرات الجنود الأتراك. ورداً على ذلك، أطلقت تركيا عملية درع الربيع، ووفقاً لأنقرة فقد أبادت تركيا آلاف الجنود السوريين ودمرت مئات المعدات العسكرية والأسلحة.

وفي خضم هذه المعركة، يحاول المدنيون النجاة بأرواحهم. وفقاً لإحصاءات الأمم المتحدة يسكن إدلب حالياً ما يزيد عن 3 ملايين مدني. وليس لديهم ببساطة مكان للفرار إليه؛  فالحدود مع تركيا مغلقة ولا يملكون المال اللازم للرحيل إلى مكان آخر ويخافون من الانتقال إلى المناطق الخاضعة لسيطرة النظام.

يحظى النظام السوري بصيت مروع، فقد قُتل عشرات الآلاف أو عذبوا حتى الموت خلال احتجازهم، مع تنفيذ عمليات قصف واسعة النطاق على السكان المدنيين واللجوء إلى التجويع باعتباره من وسائل الحرب، ناهيك بالانتهاكات الجسيمة الأخرى. ويعرف الناس في إدلب هذه الممارسات بصورة مباشرة (في كل عائلة فرد واحد على الأقل عانى من تلك الممارسات). وهذا بالطبع لا يساعد في بناء الثقة في الحكومة الحالية.

الوضع الراهن في إدلب

تُعد إدلب آخر معاقل المعارضة السورية المسلحة. عندما فرضت قوات النظام السوري، بمساعدة روسيا، سيطرتها على المناطق الأخرى التي كانت خاضعة للمعارضة في سوريا، تم توفير ممرات إنسانية لكل من يرغب في الرحيل، وكان من بين هؤلاء أعضاء في جماعات المعارضة المسلحة وأفراد من عائلاتهم وأيضاً مواطنون مدنيون معارضون لم يرغبوا في البقاء في مناطق خاضعة لسيطرة النظام.

تمتلك المجموعات المسلحة الكثيرة في إدلب توجهات أيديولوجية مختلفة وغالباً ما تتصارع مع بعضها بعضاً. منذ منتصف عام 2017، أصبح اتحاد الجماعات المتطرفة المعروف باسم “هيئة تحرير الشام” -(وهو تنظيم محظور في روسيا) ومُصنف على أنه منظمة إرهابية من قبل دول عدة ويُعتبر تابعاً لتنظيم القاعدة (المحظور في روسيا)- هو القوة المهيمنة في إدلب، لكن الهيئة نفسها تنفي ذلك. تهيمن الهيئة أيضاً على حكومة الإنقاذ السورية (المحظورة أيضاً في روسيا)، التي تدير المدينة فعلياً.

 وفي إطار “محادثات أستانا”، تولت تركيا مهمة نزع سلاح الجماعات المتطرفة في إدلب التي تُعد إحدى “مناطق خفض التصعيد” التي ينص الاتفاق على إنشائها. 

هناك اعتقاد سائد في روسيا مفاده أن جميع المقيمين في إدلب يدعمون المجموعات المتطرفة الدولية. لكن هذا ليس هو الحال. جميع السوريين الذين حاورتهم في إدلب هم معارضون لحكومة بشار الأسد لكنهم في الوقت ذاته لا يدعمون المجموعات المتطرفة، مثلهم مثل معظم السكان. على سبيل المثال، قصفت “هيئة تحرير الشام” وغيرها من الجماعات المتطرفة المسلحة مراراً ومن دون تمييز، أحياءً مدنية. ما يحدث هو أن تلك الجماعات تشن هجمات على المناطق الخاضعة للنظام، موقعة ضحايا في صفوف المدنيين وهو ما يشجع الحكومة على تنفيذ عمليات انتقامية عشوائية، ويؤدي هذا بدوره إلى معاناة المدنيين في إدلب. 

وفقاً للجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن الجمهورية العربية السورية، تؤثر أنشطة هيئة تحرير الشام تأثيراً بالغاً في حياة السكان المدنيين. تتحكم “هيئة تحرير الشام” في فرصة الوصول إلى خدمات الرعاية الصحية والتعليم، كما أدى وجودها إلى مغادرة منظمات الإغاثة الدولية للمنطقة، والتي تُعد مساعداتها بالغة الأهمية للسكان، نظراً لأن اقتصاد المحافظة يكاد يكون مدمراً بالكامل. وفضلاً عن ذلك، أدت مساعي “هيئة تحرير الشام” إلى خلق سلطة مركزية -في قرية كفر تخاريم على سبيل المثال- إلى رفع أسعار الخبز والوقود، وتسببت الضريبة التي فرضتها الهيئة على إنتاج زيت الزيتون في اندلاع تظاهرات في المدينة. ونتيجةً لذلك، هاجمت الهيئة المتظاهرين،  ما أسفر عن مقتل ثلاثة وإصابة 10 آخرين من بينهم مراهق. 

تضطهد “هيئة تحرير الشام” معارضيها والنشطاء والصحافيين وتروعهم وتعذبهم وتقتلهم. 

تمكنتُ من مقابلة أحد هؤلاء الصحافيين في إسطنبول. وقال لي، “لا يمكنني العودة إلى إدلب. لقد انتقدت تنظيم القاعدة في الإعلام وفجرَّوا منزلي، وحتى الآن لا يمكنني الذهاب إلى هناك”. 

وفي 2018،  قُتل رائد الفارس الصحافي والناشط الشهير المدافع عن حقوق المرأة في محافظة إدلب. وكان رائد قد انتقد بشدة ديكتاتورية كلٍ من بشار الأسد والتنظيمات المتطرفة التي تتخذ من سوريا مقراً لها. ونتيجةً لانتقاد رائد جبهة النصرة (فرع تنظيم القاعدة في سوريا والمحظور في روسيا)، اختطف رائد وتعرض للتعذيب، لكنه واصل عمله حتى 23 تشرين الثاني/ نوفمبر، عندما أطلق عليه مسلحون النار هو وصديقه. 

احتج سكان إدلب أكثر من مرة ضد “هيئة تحرير الشام”، لكن الجماعات المتطرفة المسلحة أصبحت اليوم أقوى من السكان المحليين الذين أنهكتهم الحرب. 

العمليات العسكرية في شتاء 2019/ 2020 

بدأت المرحلة الثانية من هجمات الجيش السوري العربي على إدلب بدعم من القوات الجوية الروسية في 19 كانون الأول/ ديسمبر 2019. ونُفذت المرحلة الأولى من عملية فجر إدلب في الفترة ما بين نيسان/ أبريل وآب/ أغسطس 2019.  وفقاً لمفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، لقي 1089 مدنياً على الأقل مصرعهم من بينهم 304 أطفال، بين 29 نيسان و29 آب. ومن بين هذا العدد 1031 شخصاً قتلوا جراء قصف القوات الحكومية وحلفائها، بينما لقي 58 حتفهم على يد الجماعات المسلحة. وقد نشرت صحيفة “نوفيا غازيتا” الروسية عن تلك العملية في تقاريرها السابقة. 

بدأت الهجمات الجديدة باستهداف مراكز الجماعات المتطرفة المسلحة في قرية أم جلال جنوب شرق المحافظة. وخاضت الجماعات المتمردة المسلحة معارك ضارية ضد الجيش السوري، دفاعاً عن القرى الواقعة جنوب مدينة معرة النعمان، وسعى الجيش السوري إلى السيطرة على قطاع كبير من الطريق السريع الاستراتيجي الذي يصل بين حماة وإدلب إلى جانب جزء من منطقة جبل الزاوية. 

استقبلت تركيا بالفعل ما يزيد عن ثلاثة ملايين و600 ألف لاجئ سوري

وفي اليوم التالي مباشرةً، اتجه الآلاف إلى الحدود التركية فراراً من القصف. وبعد أسبوع من القصف، تحولت معرة النعمان إلى مدينة أشباح شوارعها خالية إلا من أنقاض المنازل. وفي ضواحي المدينة، تشكلت صفوف من السيارات تمتد لكيلومترات متعددة. 

بحلول 22 كانون الأول/ ديسمبر، أُطلقت حملة عسكرية شاملة تضمنت قصفاً كثيفاً على قرى ومناطق ريفية في محافظة إدلب.  

شهادات 

يقول يزن، أحد سكان إدلب، الذي غادر سوريا منذ شهرين ويعيش الآن في تركيا، “لا يدخل الجيش المدينة مباشرةً،  بل يدمر المنطقة أولاً، وتتساقط القذائف فعلياً كل دقيقة. يفر الناس،  وبعد مغادرة جميع السكان، يدخل الجيش القرى”. 

وتقول لبنى القنواتي، وهي ناشطة تعمل في منظمة مدافعة عن حقوق المرأة، “عندما يبدأ القصف، كانت القذائف تنهال فوق رأسي كالمطر، كان قصف كالجحيم. كان لدينا فرق محلية على الأرض، جميعها من النساء، واضطررنا إلى إجلائها بطريقة ما. كان ذلك رعباً حقيقياً”. 

وفي كانون الثاني/ يناير، كانت تظهر معلومات تفيد بمقتل مدنيين كل يوم تقريباً. وفقاً لـ”هيومن رايتس ووتش”، أطلقت القوات الحكومية قذيفة باليستية محملة بقنابل عنقودية في الأول من كانون الثاني. وسقطت هذه القنابل على مدرسة، ما أسفر عن مقتل 12 مدنياً، بينهم 5 أطفال تتراوح أعمارهم بين 6 و13 سنة. أصيب أيضاً 12 طفلاً ومدرسهم أثناء هجوم على مدرسة في مدينة سرمين. وفي 11 كانون الثاني، لقي 17 شخصاً حتفهم وأصيب 40 أثناء قصف شنته الطائرات الحربية السورية، وفقاً لمنظمات معنية بحقوق الإنسان ومصادر إعلامية. 

في 23 كانون الثاني، شن المتمردون هجمات على القوات الحكومية في منطقة خفض التصعيد جنوب شرقي إدلب وقتلوا حوالى 40 جندياً سورياً. رداً على ذلك، أطلق الجيش السوري في 26 كانون الثاني عملية عسكرية للسيطرة على القطاع الغربي من محافظة حلب، ما أدى إلى موجة جديدة من النزوح، ففي ظل استمرار القصف اندفع آلاف المدنيين إلى الحدود التركية. 

يقول مصطفى، أحد أبناء كفرنبل الذي وصل إلى تركيا مع أسرته بعد بدء العملية الأخيرة في إدلب، “تقصف الطائرات المستشفيات والأسواق والمدارس، فهم يريدون إثارة الخوف لدى الناس قبل أن يحكموا سيطرتهم”.  

ويضيف يزن، “كنا نعيش في طبقة يقع نصفها تحت الأرض. فقد أحجم الناس عن العيش في الطبقات المرتفعة، وأصبحوا يعيشون في الأقبية أو الطبقات الأولى. لم تكن في منازلنا نوافذ زجاجية لفترة طويلة، كنا نصنع النوافذ من مواد لا تنكسر عند الاصطدام مثل الزجاج. وأخيراً، قمت بتغيير زجاج النوافذ على الأقل 50 مرة، إذ أضطر إلى تغييره بعد كل غارة جوية. ومنذ أول يوم في حياة ابني البالغ 3 أشهر، وهو معتاد على القصف. فقد بدأ القصف فور ولادته، وتحتمت علينا مغادرة المستشفى بسرعة”. 

في 31 كانون الثاني، أعلنت منظمة “أطباء بلا حدود” عن إغلاق أكبر مستشفى في جنوب إدلب بسبب القصف. وقبل ذلك بفترة وجيزة، وبالتحديد في 29 كانون الثاني، استولى المتمردون على المستشفى المركزية في إدلب وسخروها لأغراضهم الخاصة. وفقاً لـ”أطباء بلا حدود”، في كانون الثاني 2020، اضطرت 53 مؤسسة طبية للتوقف عن العمل بسبب القصف. 

وقطعاً، بعد هذه الضربة القاصمة، ليس بإمكان مرافق الرعاية الصحية الأساسية في إدلب مواجهة الوباء. 

رأى يزن أن السوريين تعلموا في السنوات الأخيرة التفريق بين الطيران الروسي والطيران السوري. بحسب ما ذكره، القنابل الروسية أكثر دماراً. لأنها تدمر المباني التي تستهدفها بشكل كامل، في حين تدمر الطائرات السورية جزءاً منها فقط. إضافة إلى أن لدى السوريين نظام إنذار ابتكره الشعب. عندما تقلع طائرة من القاعدة العسكرية الروسية ينشر السكان الذين يقطنون بالقرب منها الخبر على مجموعات واتساب خاصة ويذكرون الاتجاه الذي حلقت فيه كذلك، فيما يُبلغ آخرون يقطنون في المسار الذي تمشيه الطائرة عن تحركاتها. يسمح هذا للمدنيين بمتابعة عمليات القصف والقائمين عليها، والأهم أنهم يستطيعون الاحتماء قبل وصول الطائرات.

بدأت الشرطة العسكرية الروسية في 3 آذار/ مارس القيام بدوريات في مدينة سراقب ذات الأهمية الاستراتيجية والمهجورة والتي سيطر عليها الجيش السوري.

في 5 آذار توصلت روسيا وتركيا إلى اتفاق وقف إطلاق نار،  في الوقت الذي كان فيه مليون شخص بحسب ما ذكرته بيانات الأمم المتحدة عالقين عن الحدود، 80 في المئة منهم كانوا من النساء والأطفال. وكانت أزمة النزوح القسري هذه الأزمة الأكبر منذ بداية الحرب السورية قبل تسع سنوات. فقد هجر مليون شخص – بمن فيهم الأطفال والمرضى وكبار السن – منازلهم وأسرهم وعملهم في برد شباط/ فبراير القارس، فارين إلى الحدود التركية المغلقة. ما زالت المعلومات عن عدد القتلى والجرحى من المدنيين غير متاحة.

وثق مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان وفاة ما لا يقل عن 100 مدني في إدلب، من بينهم 18 امرأة و35 طفلاً، إضافة إلى الجرحى الذين خلفهم قصف  القوات الروسية والسورية، وهناك 7 مدنيين قتلوا في هجمات برية نفذتها مجموعات مسلحة سورية. وبحسب مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، قُتل ما مجموعه 1750 مدنياً بين نيسان/ أبريل 2019 وشباط 2020 أغلبهم بيد النظام السوري وحلفائه.

ستخلّد كتب التاريخ هذه الفاجعة

عثمان أتالاي عضو في “هيئة الإغاثة الإنسانية وحقوق الإنسان والحريات”، وهي واحدة من أكبر المؤسسات الخيرية التركية، القريبة أيديولوجياً من العدالة والتنمية، الحزب الحاكم في تركيا. قدمت الهيئة المساعدات الإنسانية إلى سوريا منذ اليوم الأول في الصراع. وقبل الحجر الصحي المفروض بسبب كورونا كان 500 من موظفي المؤسسة يعملون في إدلب. 

يؤكد عثمان أنه بحسب البيانات المتوفرة، فر مليون سوري إلى الحدود التركية قبل ثلاثة أشهر من اتفاق وقف إطلاق النار. وعلى رغم وجود مخيم للاجئين عند الحدود مسبقاً، لم تكن هناك أماكن إيواء كافية، ليس فقط ما لا يكفي من الخيم بل ما لا يكفي أيضاً من الأماكن لوضعها. يشرح عثمان: “هذه أراض زراعية يستحيل إقامة مخيم فوقها، لأنها عبارة عن طين رطب. المنطقة القريبة من الحدود صغيرة جداً، ولهذا السبب نعاني من الاكتظاظ في المخيمات”. عندما فر الناس تم إيواؤهم في المدارس والمساجد والملاعب والحافلات القديمة. نام كثيرون في السيارات، ونصب آخر الواصلين بطانيات تحت أشجار الزيتون. كان الشتاء بارداً جداً، كان الناس يتجمدون ومات أطفال جراء انخفاض الحرارة. يقول عثمان “بدأنا في جلب مواد التدفئة مثل الزيت والوقود والغاز”.

تؤكد لُبنى القنواتي أن “الوضع في المخيم مروع، لا سيما بالنسبة إلى الأطفال والنساء”. لقد خسر الناس كل شيء: أعمالهم ومنازلهم ومحيطهم، وتركوا في الشارع في جو بارد. وانقطع الأطفال عن الدراسة، ففي ظل ظروف النزوح، ليس بالإمكان توفير تعليم لهذا العدد من الأطفال. يعيش الناس في مخيمات متواضعة من دون مراحيض، ومكان لجمع القمامة ولا أي خدمات. وقد ارتفع مستوى العنف ضد النساء ليصل إلى أعلى معدلاته في هذه الأماكن.

العائق الأساسي في طريق المساعدات هو غياب الأمان

لم تسمح عمليات القصف قبل اتفاق وقف إطلاق النار للمنظمات الخيرية بالتحرك بأمان في الجوار. إضافة إلى أنه وبعد 9 سنوات من الحرب يحتاج 95 في المئة من السوريين إلى المساعدة. ربما دمشق واللاذقية هما المدينتان السوريتان الوحيدتان اللتان لا تحتاجان إلى مساعدات، أما بقية سوريا بخاصة إدلب فهي في حاجة ماسة إلى المساعدة. 

تقدم “هيئة الإغاثة الإنسانية وحقوق الإنسان والحريات” منازل وطعاماً ومواد النظافة، وأطرافاً صناعية، وأنظمة التدفئة، والمدارس للأطفال. فقد افتتحت المنظمة مركزاً للأيتام ليستقبل آلاف الأطفال السوريين الأيتام. يتلقى الأطفال والنساء مساعدة المعالجين النفسيين المختصين في علاج الصدمات، ويتلقون وجبات ساخنة توزع على 50 ألف شخص. تملك المنظمة مخبزين ينتجان 150 ألف رغيف خبز يومياً، توزع جزءاً منها في إدلب كذلك.

أكد عثمان أنه على رغم الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها البلاد، فلا يزال الناس ورجال الأعمال في تركيا يحاولون تخفيف المعاناة الإنسانية في سوريا.

وثق مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان وفاة ما لا يقل عن 100 مدني في إدلب، من بينهم 18 امرأة و35 طفلاً،

“لعل أهم شيء بالنسبة إلى اللاجئين هو الخبز. ولذا دعونا إلى الحشد، وتبرعت حملات تركية بالدقيق لتوفير مخابز محلية صغيرة في سوريا. ونظراً إلى أن الموجة الأخيرة من اللاجئين تدفقت خلال فصل الشتاء، فقد أعلنا عن جمع التبرعات لبناء منازل موقتة بمساحة 24 متراً مربعاً: جدرانها من الطوب، أما السقف فمصنوع من القماش القوي المقاوم للماء لتقليل التكلفة. تتسم سوريا بطقس ​شديد الحرارة صيفاً قارس البرودة شتاءً، وكثيراً ما تندلع الحرائق في الخيام. لذا اخترنا هذا التصميم للمنازل. وفي حين أعلنا عن جمع التبرعات لبناء 10 آلاف منزل، فقد تمكنا من جمع الأموال اللازمة لبناء 15 ألف مبنى”.

يرى آتالاي أنه “بعد الحرب العالمية الثانية، تُعد هذه واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية على كوكب الأرض. فقد شاهدنا المآسي التي حدثت في البوسنة، ورواندا، ولكن ما تعانيه سوريا الآن أسوأ بكثير. وستذكر كتب التاريخ هذه الكارثة”.

ينفي الروس وجود كارثة إنسانية نجمت عن العملية السورية- الروسية المشتركة في إدلب، فيما يقول الجيش الروسي إن الأرقام التي قدمتها تركيا والدول الغربية مبالغ فيها بشدة، وأنه لا يوجد أكثر من 200 ألف نازح في المحافظة، منهم 85 ألف شخص يعيشون في مخيمات اللاجئين.

آراء الخبراء

لتوضيح الوضع، تواصلت صحيفة “نوفيا غازيتا” مع مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا). وقد أجاب جينس لارك، المتحدث باسم المكتب على أسئلتنا.

كم عدد النازحين داخلياً الذين فروا إلى الحدود السورية التركية في إدلب؟

منذ الأول من كانون الأول من العام الماضي، أرغمت الأعمال القتالية العسكرية 960 ألف شخص على مغادرة منازلهم في إدلب وضواحيها (ما يقرب من 81 في المئة منهم من النساء والأطفال). وقد وجد معظمهم أنفسهم في مناطق محدودة شمال محافظة إدلب بالقرب من الحدود مع تركيا وفي المناطق الشمالية الغربية المجاورة لمحافظة حلب.

كيف تُحصي الأمم المتحدة أعداد النازحين داخلياً؟

تُقيم الأمم المتحدة أسبوعياً عمليات النزوح الأخيرة في شمال غربي سوريا، وعلى هذا الأساس تحدد حجم المساعدات الإنسانية العاجلة المطلوبة على أرض الواقع. وعند الضرورة، تُجرى أيضاً تقييمات خاصة.

يستند التقييم إلى البيانات الأولية التي تجمعها شبكة تضم أكثر من 100 مراقب في مختلف أنحاء شمال غربي سوريا، يعملون لمصلحة منظمات غير حكومية تمولها الأمم المتحدة. وتجرى مقارنة البيانات الميدانية الجديدة بالبيانات السابقة وسجلات السفر ومصادر المعلومات الأخرى لتقدير عدد الأشخاص الذين غادروا منازلهم الأسبوع السابق.

ونظراً إلى أن الوضع في شمال غربي سوريا لا يزال غير مستقر، يتم إجراء التقييم استناداً إلى المعلومات المتوفرة. فضلاً عن أن تقييم عمليات النزوح يساعد في تنظيم إيصال القدر الكافي من المساعدات الإنسانية إلى المناطق حيث يُشتد الحاجة إليها.

كم عدد الذين لا تشملهم المساعدات الإنسانية؟

تسعى الأمم المتحدة إلى زيادة حجم المساعدات، فقد أرسلت بالفعل 444 شاحنة إلى شمال غربي سوريا خلال شهر آذار وحده، وُجهت لمساعدة أكثر من 1.8 مليون شخص من النساء والأطفال والرجال المحتاجين. أما في شباط، فقد أرسلنا 927 شاحنة مُحملة بالمساعدات، ووصل العدد إلى 1227 شاحنة مساعدات في كانون الأول.

تُقدم المؤسسات المختلفة المساعدات إلى أعداد مختلفة من الناس. على سبيل المثال، تُقدم منظمة الصحة العالمية وشركاؤها إمدادات شهرية لما يقرب من 800 ألف شخص في شمال غربي سوريا، ولكن الاحتياجات الفعلية تتجاوز قدراتها. ويقدم برنامج الأغذية العالمي مساعدات لأكثر من مليون شخص شهرياً، من بينهم ما يقرب من 500 ألف مدني نزحوا مؤخراً.

 على حافة البقاء

عبر عُمر، وهو ناشط إعلامي من إدلب، عن ثقته بأنه على رغم عودة بعض اللاجئين، فإن كثيرين منهم لن يعودوا إلى ديارهم، قائلاً: “الكثير من الناس الذين يعيشون في المخيمات من القرى والمدن التي أصبحت تحت سيطرة النظام، لا يصدقون الحكومة، فضلاً عن أن منازلهم تعرضت للدمار بسبب التفجيرات، ولذا لا مكان ليعودوا إليه، ولا يملكون مالاً، الناس يعيشون في فقر مدقع، في ظل تردي الوضع الاقتصادي”.

لاعمل ولا نقود. يضيف عُمر: “تحدثت منذ بضعة أيام مع أحد الأصدقاء يعمل طبيب أسنان في البلدة. وقال إن الناس يأتون لتلقي العلاج، ولكن ليس لديهم أي مال لتغطية تكاليفه”. أما بالنسبة إلى الأطفال، فثمة مشكلة كبيرة تتمثل في التعليم، إذ تعرضت مدارس كثيرة للدمار، وأصبحت الفصول الدراسية مكتظة بالطلاب. “في السابق كان هناك 60 طفلاً في الفصل، والآن يوجد هناك 100 طفل في الفصل الواحد. فالأطفال يعانون من إصابات نفسية مروعة”.

تتسم محافظة إدلب بأنها منطقة زراعية. “في السابق، اشتهرت إدلب بأشجار الزيتون، وكان الزيت يُصنع ويباع في الخارج. والآن لم يعد هناك مكان لبيع زيت الزيتون. ولذا ليس بوسع الناس سوى العناية بحقول الزيتون للمحافظة عليها من الدمار، إذا استطاعوا ذلك”. في أعقاب العملية العسكرية الأخيرة، أغلق رجال الأعمال القلائل أعمالهم وغادروا. والآن تعيش المنطقة على المساعدات الإنسانية وعلى الأموال التي يرسلها أقارب المقيمين من الخارج.

ترى لُبنى القنواتي أن “الناس يحتاجون إلى الحماية، ولا بد أن يتمكنوا من العودة إلى ديارهم طوعاً عندما تصبح آمنة – ومن أجل تحقيق ذلك يجب التوصل إلى حل سياسي للصراع السوري؛ لضمان الحقّ في الحياة، والحقّ في الأمن، وإمكان الحصول على عمل”.

 هل ستعيد روسيا النظر في موقفها بشأن سوريا بعد جائحة “كوفيد-19″؟

تُشير بعض آراء الخبراء التي أثيرت في الآونة الأخيرة إلى أن العواقب الاقتصادية المترتبة على الجائحة تزامناً مع انخفاض أسعار النفط، يمكن أن تفرض ضغوطاً على الحكومة الروسية تدفعها إلى إعادة النظر في موقفها بشأن سوريا، بل وحتى تقليص الدعم العسكري باهظ التكاليف، وغيره من أشكال الدعم المُقدم لبشار الأسد. مُنذ عام مضى، أجرى مركز “ليفادا سنتر” للدراسات الاجتماعية استطلاعات للرأي أظهرت أن 55 في المئة من الروس يريدون إنهاء العمليات العسكرية في سوريا. وفي الوقت الراهن، يواجه الاقتصاد الروسي أزمة غير مسبوقة، وقريباً الكثير من الأسر لن تحصل على دخل من لإطعام الأطفال، لذا من الواضح أن “النجاحات” العسكرية التي تحققت على الساحة الدولية لم تعد ذات أهمية.

فبدلاً من إنفاق المال على العمليات العسكرية التي تدمر منازل ومستشفيات الآخرين، أليس من الأفضل استثمار تلك الأموال في تحسين أحوال الروس أنفسهم؟

قال أحد المشاركين في الحوار من إدلب “من فضلك أخبر قراءكم بأننا لسنا متطرفين، بل مجرد أُناس يقفون في وجه الطاغية”. مضيفاً “لقد ذُقنا الأمَرّين من جبهة النصرة، ربما أكثر مما عانيناه من الأسد وروسيا. لذا نحث الروس على التضامن معنا ووقف آلة التدمير هذه”.

سأل أحد المشاركين الآخرين في الحوار “لماذا قررت الحكومة الروسية أن مثل هذا التدخل في هذه الحرب يصب في مصلحتها؟ فالشعب السوري لم يقاتل ضد روسيا، لماذا إذاً تشن حرباً ضدنا؟  لم يكن لدى أحد هنا أي سبب يدعوه ليكون عدواً لروسيا، والآن باتوا أعداء! ولذا من الأفضل لروسيا أن تكف عن دعم الأسد لكي يبقى في السلطة بالقوة وأن تمنح الشعب السوري الفرصة لتقرير مستقبله”.

يبدو أن روسيا وتركيا ودول الغرب والشرق الأوسط منهمكة حالياً بمشكلاتها الداخلية. إضافة إلى أن العواقب الاقتصادية المترتبة على هذه الجائحة سترغم الجميع على خفض طموحاتهم على الساحة الدولية. وهذا من شأنه أن يمنح فرصة كبيرة للأطراف الرئيسية للنظر مجدداً في المشكلة ومحاولة إيجاد حل للأزمة السورية وإحياء العمليات السياسية والديبلوماسية.

فضلاً عن أن ذلك يتيح لنا نحن المواطنين الروس، الفرصة لكي نسأل أنفسنا بجدية: لماذا نحتاج إلى هذه الحرب؟

نشر هذا الموضوع في نوفايا غازيتا ولقراءة الموضوع الأصلي زوروا الرابط هنا 

20.05.2020
زمن القراءة: 16 minutes

مع وجود نقاط التفتيش العسكرية وآلاف المقاتلين المسلحين وملايين اللاجئين وحياة يومية مُدمرة، باتت إدلب السورية المكان الأكثر عجزاً وهشاشةً على وجه الأرض في مواجهة فايروس “كورونا”.

حصد كوفيد-19 بالفعل أرواح ما يقرب من 180 ألف شخص حول العالم وتسبب في معاناة الملايين. وقد واجهت حتى أكثر المجتمعات ازدهاراً وأفضل أنظمة الرعاية الصحية صعوبة في مجاراة الأمر. ربما تُعد محافظة إدلب السورية واحدة من أكثر الأماكن هشاشة وأشدها ضعفاً على وجه الأرض. وأصبحت المدينة، التي تأوي حوالى مليوني لاجئ من مختلف أنحاء سوريا والمدمرة بفعل حرب مستمرة منذ 9 سنوات والتي تعج بنقاط التفتيش وتحتشد على أراضيها قوات عسكرية من بلدان كثيرة، وجماعات محلية مسلحة، في حالة فزع تحسباً لتفشي وباء لا يرحم. 

منطقة خالية من كوفيد-19

إلى الآن، كان عزل المحافظة التي لا يحلق في سمائها الطيران المدني ويصعب أيضاً السفر براً عبر أراضيها في صالحها. فحتى 23 نيسان/ أبريل، لم تُسجل إصابات جديدة بها. علاوة على ذلك، ساعد الفايروس في تحقيق اتفاق هشٍ لأكثر من شهر حتى الآن، إذ تم التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق نار بين تركيا وروسيا في 5 آذار/ مارس، وذلك بعد عملية عسكرية واسعة استمرت أكثر من شهرين قادتها قوات النظام السوري بدعمٍ من روسيا ضد المعارضة المسلحة في إدلب.

وثقت قلة قليلة باتفاق وقف إطلاق النار هذا، فقد كان القتال عنيفاً للغاية ولم يدم وقف إطلاق النار السابق سوى لبضعة أيام فحسب. لكن الآن أصبحت جميع الجهات الفاعلة الخارجية منشغلة في مكافحة الجائحة، وعلى رغم انتهاك وقف إطلاق النار مرات عدة، بات سكان إدلب يخلدون إلى النوم في هدوءٍ للمرة الأولى منذ كانون الأول/ ديسمبر من عام 2019 ويتمتعون بسماءٍ صافية دون مقاتلات عسكرية تحلق فوق رؤوسهم.

وفقاً لمنظمات الإغاثة، بدأ آلاف السوريين الذين يعيشون في مخيمات اللجوء بالقرب من الحدود التركية العودة إلى بيوتهم أو بالأحرى أطلال بيوتهم المهدمة في إدلب. تصور بعض أولئك المهجرين أن وقف إطلاق النار قد يستمر لفترة من الوقت، ولهذا أرادوا أن يكونوا بالقرب من منازلهم قبل بداية رمضان. في حين قرر آخرون العودة لإدراكهم أنه عندما يصل الفايروس إلى المخيمات المكتظة باللاجئين لن تتوافر وسائل وقاية من الوباء في ظل هذا الاكتظاظ مع غياب الحد الأدنى من الأوضاع المعيشية المقبولة.

إذا ما وصل كوفيد-19 إلى إدلب، سيكون من الصعب للغاية تقديم المساعدة للسكان. فقد قُصفت مستشفيات المدينة بل وحتى مراكز الإسعاف الأوليّ، إضافة إلى أن بعض الاحتياطات الأساسية مثل العزل الذاتي وغسل اليدين باستمرار، هي ببساطة إجراءات غير ممكنة في ظل أوضاع المخيم. 

عالقون في المنتصف

أصبح سكان إدلب المدنيون محاصرين بين أطراف النزاع المتناحرين بشراسة. 

فمن ناحية، تحاول قوات النظام التابعة لبشار الأسد استعادة سيطرتها على المحافظة بدعمٍ من القوات العسكرية الروسية التي تشارك بكثافة في العمليات الجوية والبرية، وبدعمٍ أيضاً من قوات مسلحة موالية لإيران.

ومن ناحية أخرى، توجد جماعات مختلفة من المعارضة المسلحة، معظمها متطرفة تسيطر حالياً على المدينة. ومن بينها جماعات كثيرة تعتبرها بلدان عدة، وأيضاً الأمم المتحدة، متطرفة.

ومن ناحية ثالثة، تدخل تركيا في تحالفٍ مع جماعات المعارضة السورية المسلحة الموالية لها، محاولةً الحفاظ على نفوذها في مناطق في إدلب لا تخضع لسيطرة النظام السوري، وسعياً أيضاً إلى وقف تدفق موجة اللاجئين الكبيرة المحتملة إلى أراضيهم. 

وثقت قلة قليلة باتفاق وقف إطلاق النار هذا، فقد كان القتال عنيفاً للغاية ولم يدم وقف إطلاق النار السابق سوى لبضعة أيام فحسب.

استقبلت تركيا بالفعل ما يزيد عن ثلاثة ملايين و600 ألف لاجئ سوري، وبسبب الوضع الاقتصادي المتدهور في البلاد وتغيُّر الرأي العام، باتت تركيا ببساطة في وضع لا يسمح لها باستقبال موجة جديدة من اللاجئين. وعلى ما يبدو فإن حكومة أردوغان تأمل مستقبلاً بإعادة توطين ولو جزء على الأقل من السوريين المقيمين حالياً في تركيا في إدلب تحت حمايتها.

في 27 شباط/ فبراير، هاجمت القوات السورية مواقع عسكرية تركية، ما أودى بحياة عشرات الجنود الأتراك. ورداً على ذلك، أطلقت تركيا عملية درع الربيع، ووفقاً لأنقرة فقد أبادت تركيا آلاف الجنود السوريين ودمرت مئات المعدات العسكرية والأسلحة.

وفي خضم هذه المعركة، يحاول المدنيون النجاة بأرواحهم. وفقاً لإحصاءات الأمم المتحدة يسكن إدلب حالياً ما يزيد عن 3 ملايين مدني. وليس لديهم ببساطة مكان للفرار إليه؛  فالحدود مع تركيا مغلقة ولا يملكون المال اللازم للرحيل إلى مكان آخر ويخافون من الانتقال إلى المناطق الخاضعة لسيطرة النظام.

يحظى النظام السوري بصيت مروع، فقد قُتل عشرات الآلاف أو عذبوا حتى الموت خلال احتجازهم، مع تنفيذ عمليات قصف واسعة النطاق على السكان المدنيين واللجوء إلى التجويع باعتباره من وسائل الحرب، ناهيك بالانتهاكات الجسيمة الأخرى. ويعرف الناس في إدلب هذه الممارسات بصورة مباشرة (في كل عائلة فرد واحد على الأقل عانى من تلك الممارسات). وهذا بالطبع لا يساعد في بناء الثقة في الحكومة الحالية.

الوضع الراهن في إدلب

تُعد إدلب آخر معاقل المعارضة السورية المسلحة. عندما فرضت قوات النظام السوري، بمساعدة روسيا، سيطرتها على المناطق الأخرى التي كانت خاضعة للمعارضة في سوريا، تم توفير ممرات إنسانية لكل من يرغب في الرحيل، وكان من بين هؤلاء أعضاء في جماعات المعارضة المسلحة وأفراد من عائلاتهم وأيضاً مواطنون مدنيون معارضون لم يرغبوا في البقاء في مناطق خاضعة لسيطرة النظام.

تمتلك المجموعات المسلحة الكثيرة في إدلب توجهات أيديولوجية مختلفة وغالباً ما تتصارع مع بعضها بعضاً. منذ منتصف عام 2017، أصبح اتحاد الجماعات المتطرفة المعروف باسم “هيئة تحرير الشام” -(وهو تنظيم محظور في روسيا) ومُصنف على أنه منظمة إرهابية من قبل دول عدة ويُعتبر تابعاً لتنظيم القاعدة (المحظور في روسيا)- هو القوة المهيمنة في إدلب، لكن الهيئة نفسها تنفي ذلك. تهيمن الهيئة أيضاً على حكومة الإنقاذ السورية (المحظورة أيضاً في روسيا)، التي تدير المدينة فعلياً.

 وفي إطار “محادثات أستانا”، تولت تركيا مهمة نزع سلاح الجماعات المتطرفة في إدلب التي تُعد إحدى “مناطق خفض التصعيد” التي ينص الاتفاق على إنشائها. 

هناك اعتقاد سائد في روسيا مفاده أن جميع المقيمين في إدلب يدعمون المجموعات المتطرفة الدولية. لكن هذا ليس هو الحال. جميع السوريين الذين حاورتهم في إدلب هم معارضون لحكومة بشار الأسد لكنهم في الوقت ذاته لا يدعمون المجموعات المتطرفة، مثلهم مثل معظم السكان. على سبيل المثال، قصفت “هيئة تحرير الشام” وغيرها من الجماعات المتطرفة المسلحة مراراً ومن دون تمييز، أحياءً مدنية. ما يحدث هو أن تلك الجماعات تشن هجمات على المناطق الخاضعة للنظام، موقعة ضحايا في صفوف المدنيين وهو ما يشجع الحكومة على تنفيذ عمليات انتقامية عشوائية، ويؤدي هذا بدوره إلى معاناة المدنيين في إدلب. 

وفقاً للجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن الجمهورية العربية السورية، تؤثر أنشطة هيئة تحرير الشام تأثيراً بالغاً في حياة السكان المدنيين. تتحكم “هيئة تحرير الشام” في فرصة الوصول إلى خدمات الرعاية الصحية والتعليم، كما أدى وجودها إلى مغادرة منظمات الإغاثة الدولية للمنطقة، والتي تُعد مساعداتها بالغة الأهمية للسكان، نظراً لأن اقتصاد المحافظة يكاد يكون مدمراً بالكامل. وفضلاً عن ذلك، أدت مساعي “هيئة تحرير الشام” إلى خلق سلطة مركزية -في قرية كفر تخاريم على سبيل المثال- إلى رفع أسعار الخبز والوقود، وتسببت الضريبة التي فرضتها الهيئة على إنتاج زيت الزيتون في اندلاع تظاهرات في المدينة. ونتيجةً لذلك، هاجمت الهيئة المتظاهرين،  ما أسفر عن مقتل ثلاثة وإصابة 10 آخرين من بينهم مراهق. 

تضطهد “هيئة تحرير الشام” معارضيها والنشطاء والصحافيين وتروعهم وتعذبهم وتقتلهم. 

تمكنتُ من مقابلة أحد هؤلاء الصحافيين في إسطنبول. وقال لي، “لا يمكنني العودة إلى إدلب. لقد انتقدت تنظيم القاعدة في الإعلام وفجرَّوا منزلي، وحتى الآن لا يمكنني الذهاب إلى هناك”. 

وفي 2018،  قُتل رائد الفارس الصحافي والناشط الشهير المدافع عن حقوق المرأة في محافظة إدلب. وكان رائد قد انتقد بشدة ديكتاتورية كلٍ من بشار الأسد والتنظيمات المتطرفة التي تتخذ من سوريا مقراً لها. ونتيجةً لانتقاد رائد جبهة النصرة (فرع تنظيم القاعدة في سوريا والمحظور في روسيا)، اختطف رائد وتعرض للتعذيب، لكنه واصل عمله حتى 23 تشرين الثاني/ نوفمبر، عندما أطلق عليه مسلحون النار هو وصديقه. 

احتج سكان إدلب أكثر من مرة ضد “هيئة تحرير الشام”، لكن الجماعات المتطرفة المسلحة أصبحت اليوم أقوى من السكان المحليين الذين أنهكتهم الحرب. 

العمليات العسكرية في شتاء 2019/ 2020 

بدأت المرحلة الثانية من هجمات الجيش السوري العربي على إدلب بدعم من القوات الجوية الروسية في 19 كانون الأول/ ديسمبر 2019. ونُفذت المرحلة الأولى من عملية فجر إدلب في الفترة ما بين نيسان/ أبريل وآب/ أغسطس 2019.  وفقاً لمفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، لقي 1089 مدنياً على الأقل مصرعهم من بينهم 304 أطفال، بين 29 نيسان و29 آب. ومن بين هذا العدد 1031 شخصاً قتلوا جراء قصف القوات الحكومية وحلفائها، بينما لقي 58 حتفهم على يد الجماعات المسلحة. وقد نشرت صحيفة “نوفيا غازيتا” الروسية عن تلك العملية في تقاريرها السابقة. 

بدأت الهجمات الجديدة باستهداف مراكز الجماعات المتطرفة المسلحة في قرية أم جلال جنوب شرق المحافظة. وخاضت الجماعات المتمردة المسلحة معارك ضارية ضد الجيش السوري، دفاعاً عن القرى الواقعة جنوب مدينة معرة النعمان، وسعى الجيش السوري إلى السيطرة على قطاع كبير من الطريق السريع الاستراتيجي الذي يصل بين حماة وإدلب إلى جانب جزء من منطقة جبل الزاوية. 

استقبلت تركيا بالفعل ما يزيد عن ثلاثة ملايين و600 ألف لاجئ سوري

وفي اليوم التالي مباشرةً، اتجه الآلاف إلى الحدود التركية فراراً من القصف. وبعد أسبوع من القصف، تحولت معرة النعمان إلى مدينة أشباح شوارعها خالية إلا من أنقاض المنازل. وفي ضواحي المدينة، تشكلت صفوف من السيارات تمتد لكيلومترات متعددة. 

بحلول 22 كانون الأول/ ديسمبر، أُطلقت حملة عسكرية شاملة تضمنت قصفاً كثيفاً على قرى ومناطق ريفية في محافظة إدلب.  

شهادات 

يقول يزن، أحد سكان إدلب، الذي غادر سوريا منذ شهرين ويعيش الآن في تركيا، “لا يدخل الجيش المدينة مباشرةً،  بل يدمر المنطقة أولاً، وتتساقط القذائف فعلياً كل دقيقة. يفر الناس،  وبعد مغادرة جميع السكان، يدخل الجيش القرى”. 

وتقول لبنى القنواتي، وهي ناشطة تعمل في منظمة مدافعة عن حقوق المرأة، “عندما يبدأ القصف، كانت القذائف تنهال فوق رأسي كالمطر، كان قصف كالجحيم. كان لدينا فرق محلية على الأرض، جميعها من النساء، واضطررنا إلى إجلائها بطريقة ما. كان ذلك رعباً حقيقياً”. 

وفي كانون الثاني/ يناير، كانت تظهر معلومات تفيد بمقتل مدنيين كل يوم تقريباً. وفقاً لـ”هيومن رايتس ووتش”، أطلقت القوات الحكومية قذيفة باليستية محملة بقنابل عنقودية في الأول من كانون الثاني. وسقطت هذه القنابل على مدرسة، ما أسفر عن مقتل 12 مدنياً، بينهم 5 أطفال تتراوح أعمارهم بين 6 و13 سنة. أصيب أيضاً 12 طفلاً ومدرسهم أثناء هجوم على مدرسة في مدينة سرمين. وفي 11 كانون الثاني، لقي 17 شخصاً حتفهم وأصيب 40 أثناء قصف شنته الطائرات الحربية السورية، وفقاً لمنظمات معنية بحقوق الإنسان ومصادر إعلامية. 

في 23 كانون الثاني، شن المتمردون هجمات على القوات الحكومية في منطقة خفض التصعيد جنوب شرقي إدلب وقتلوا حوالى 40 جندياً سورياً. رداً على ذلك، أطلق الجيش السوري في 26 كانون الثاني عملية عسكرية للسيطرة على القطاع الغربي من محافظة حلب، ما أدى إلى موجة جديدة من النزوح، ففي ظل استمرار القصف اندفع آلاف المدنيين إلى الحدود التركية. 

يقول مصطفى، أحد أبناء كفرنبل الذي وصل إلى تركيا مع أسرته بعد بدء العملية الأخيرة في إدلب، “تقصف الطائرات المستشفيات والأسواق والمدارس، فهم يريدون إثارة الخوف لدى الناس قبل أن يحكموا سيطرتهم”.  

ويضيف يزن، “كنا نعيش في طبقة يقع نصفها تحت الأرض. فقد أحجم الناس عن العيش في الطبقات المرتفعة، وأصبحوا يعيشون في الأقبية أو الطبقات الأولى. لم تكن في منازلنا نوافذ زجاجية لفترة طويلة، كنا نصنع النوافذ من مواد لا تنكسر عند الاصطدام مثل الزجاج. وأخيراً، قمت بتغيير زجاج النوافذ على الأقل 50 مرة، إذ أضطر إلى تغييره بعد كل غارة جوية. ومنذ أول يوم في حياة ابني البالغ 3 أشهر، وهو معتاد على القصف. فقد بدأ القصف فور ولادته، وتحتمت علينا مغادرة المستشفى بسرعة”. 

في 31 كانون الثاني، أعلنت منظمة “أطباء بلا حدود” عن إغلاق أكبر مستشفى في جنوب إدلب بسبب القصف. وقبل ذلك بفترة وجيزة، وبالتحديد في 29 كانون الثاني، استولى المتمردون على المستشفى المركزية في إدلب وسخروها لأغراضهم الخاصة. وفقاً لـ”أطباء بلا حدود”، في كانون الثاني 2020، اضطرت 53 مؤسسة طبية للتوقف عن العمل بسبب القصف. 

وقطعاً، بعد هذه الضربة القاصمة، ليس بإمكان مرافق الرعاية الصحية الأساسية في إدلب مواجهة الوباء. 

رأى يزن أن السوريين تعلموا في السنوات الأخيرة التفريق بين الطيران الروسي والطيران السوري. بحسب ما ذكره، القنابل الروسية أكثر دماراً. لأنها تدمر المباني التي تستهدفها بشكل كامل، في حين تدمر الطائرات السورية جزءاً منها فقط. إضافة إلى أن لدى السوريين نظام إنذار ابتكره الشعب. عندما تقلع طائرة من القاعدة العسكرية الروسية ينشر السكان الذين يقطنون بالقرب منها الخبر على مجموعات واتساب خاصة ويذكرون الاتجاه الذي حلقت فيه كذلك، فيما يُبلغ آخرون يقطنون في المسار الذي تمشيه الطائرة عن تحركاتها. يسمح هذا للمدنيين بمتابعة عمليات القصف والقائمين عليها، والأهم أنهم يستطيعون الاحتماء قبل وصول الطائرات.

بدأت الشرطة العسكرية الروسية في 3 آذار/ مارس القيام بدوريات في مدينة سراقب ذات الأهمية الاستراتيجية والمهجورة والتي سيطر عليها الجيش السوري.

في 5 آذار توصلت روسيا وتركيا إلى اتفاق وقف إطلاق نار،  في الوقت الذي كان فيه مليون شخص بحسب ما ذكرته بيانات الأمم المتحدة عالقين عن الحدود، 80 في المئة منهم كانوا من النساء والأطفال. وكانت أزمة النزوح القسري هذه الأزمة الأكبر منذ بداية الحرب السورية قبل تسع سنوات. فقد هجر مليون شخص – بمن فيهم الأطفال والمرضى وكبار السن – منازلهم وأسرهم وعملهم في برد شباط/ فبراير القارس، فارين إلى الحدود التركية المغلقة. ما زالت المعلومات عن عدد القتلى والجرحى من المدنيين غير متاحة.

وثق مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان وفاة ما لا يقل عن 100 مدني في إدلب، من بينهم 18 امرأة و35 طفلاً، إضافة إلى الجرحى الذين خلفهم قصف  القوات الروسية والسورية، وهناك 7 مدنيين قتلوا في هجمات برية نفذتها مجموعات مسلحة سورية. وبحسب مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، قُتل ما مجموعه 1750 مدنياً بين نيسان/ أبريل 2019 وشباط 2020 أغلبهم بيد النظام السوري وحلفائه.

ستخلّد كتب التاريخ هذه الفاجعة

عثمان أتالاي عضو في “هيئة الإغاثة الإنسانية وحقوق الإنسان والحريات”، وهي واحدة من أكبر المؤسسات الخيرية التركية، القريبة أيديولوجياً من العدالة والتنمية، الحزب الحاكم في تركيا. قدمت الهيئة المساعدات الإنسانية إلى سوريا منذ اليوم الأول في الصراع. وقبل الحجر الصحي المفروض بسبب كورونا كان 500 من موظفي المؤسسة يعملون في إدلب. 

يؤكد عثمان أنه بحسب البيانات المتوفرة، فر مليون سوري إلى الحدود التركية قبل ثلاثة أشهر من اتفاق وقف إطلاق النار. وعلى رغم وجود مخيم للاجئين عند الحدود مسبقاً، لم تكن هناك أماكن إيواء كافية، ليس فقط ما لا يكفي من الخيم بل ما لا يكفي أيضاً من الأماكن لوضعها. يشرح عثمان: “هذه أراض زراعية يستحيل إقامة مخيم فوقها، لأنها عبارة عن طين رطب. المنطقة القريبة من الحدود صغيرة جداً، ولهذا السبب نعاني من الاكتظاظ في المخيمات”. عندما فر الناس تم إيواؤهم في المدارس والمساجد والملاعب والحافلات القديمة. نام كثيرون في السيارات، ونصب آخر الواصلين بطانيات تحت أشجار الزيتون. كان الشتاء بارداً جداً، كان الناس يتجمدون ومات أطفال جراء انخفاض الحرارة. يقول عثمان “بدأنا في جلب مواد التدفئة مثل الزيت والوقود والغاز”.

تؤكد لُبنى القنواتي أن “الوضع في المخيم مروع، لا سيما بالنسبة إلى الأطفال والنساء”. لقد خسر الناس كل شيء: أعمالهم ومنازلهم ومحيطهم، وتركوا في الشارع في جو بارد. وانقطع الأطفال عن الدراسة، ففي ظل ظروف النزوح، ليس بالإمكان توفير تعليم لهذا العدد من الأطفال. يعيش الناس في مخيمات متواضعة من دون مراحيض، ومكان لجمع القمامة ولا أي خدمات. وقد ارتفع مستوى العنف ضد النساء ليصل إلى أعلى معدلاته في هذه الأماكن.

العائق الأساسي في طريق المساعدات هو غياب الأمان

لم تسمح عمليات القصف قبل اتفاق وقف إطلاق النار للمنظمات الخيرية بالتحرك بأمان في الجوار. إضافة إلى أنه وبعد 9 سنوات من الحرب يحتاج 95 في المئة من السوريين إلى المساعدة. ربما دمشق واللاذقية هما المدينتان السوريتان الوحيدتان اللتان لا تحتاجان إلى مساعدات، أما بقية سوريا بخاصة إدلب فهي في حاجة ماسة إلى المساعدة. 

تقدم “هيئة الإغاثة الإنسانية وحقوق الإنسان والحريات” منازل وطعاماً ومواد النظافة، وأطرافاً صناعية، وأنظمة التدفئة، والمدارس للأطفال. فقد افتتحت المنظمة مركزاً للأيتام ليستقبل آلاف الأطفال السوريين الأيتام. يتلقى الأطفال والنساء مساعدة المعالجين النفسيين المختصين في علاج الصدمات، ويتلقون وجبات ساخنة توزع على 50 ألف شخص. تملك المنظمة مخبزين ينتجان 150 ألف رغيف خبز يومياً، توزع جزءاً منها في إدلب كذلك.

أكد عثمان أنه على رغم الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها البلاد، فلا يزال الناس ورجال الأعمال في تركيا يحاولون تخفيف المعاناة الإنسانية في سوريا.

وثق مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان وفاة ما لا يقل عن 100 مدني في إدلب، من بينهم 18 امرأة و35 طفلاً،

“لعل أهم شيء بالنسبة إلى اللاجئين هو الخبز. ولذا دعونا إلى الحشد، وتبرعت حملات تركية بالدقيق لتوفير مخابز محلية صغيرة في سوريا. ونظراً إلى أن الموجة الأخيرة من اللاجئين تدفقت خلال فصل الشتاء، فقد أعلنا عن جمع التبرعات لبناء منازل موقتة بمساحة 24 متراً مربعاً: جدرانها من الطوب، أما السقف فمصنوع من القماش القوي المقاوم للماء لتقليل التكلفة. تتسم سوريا بطقس ​شديد الحرارة صيفاً قارس البرودة شتاءً، وكثيراً ما تندلع الحرائق في الخيام. لذا اخترنا هذا التصميم للمنازل. وفي حين أعلنا عن جمع التبرعات لبناء 10 آلاف منزل، فقد تمكنا من جمع الأموال اللازمة لبناء 15 ألف مبنى”.

يرى آتالاي أنه “بعد الحرب العالمية الثانية، تُعد هذه واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية على كوكب الأرض. فقد شاهدنا المآسي التي حدثت في البوسنة، ورواندا، ولكن ما تعانيه سوريا الآن أسوأ بكثير. وستذكر كتب التاريخ هذه الكارثة”.

ينفي الروس وجود كارثة إنسانية نجمت عن العملية السورية- الروسية المشتركة في إدلب، فيما يقول الجيش الروسي إن الأرقام التي قدمتها تركيا والدول الغربية مبالغ فيها بشدة، وأنه لا يوجد أكثر من 200 ألف نازح في المحافظة، منهم 85 ألف شخص يعيشون في مخيمات اللاجئين.

آراء الخبراء

لتوضيح الوضع، تواصلت صحيفة “نوفيا غازيتا” مع مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا). وقد أجاب جينس لارك، المتحدث باسم المكتب على أسئلتنا.

كم عدد النازحين داخلياً الذين فروا إلى الحدود السورية التركية في إدلب؟

منذ الأول من كانون الأول من العام الماضي، أرغمت الأعمال القتالية العسكرية 960 ألف شخص على مغادرة منازلهم في إدلب وضواحيها (ما يقرب من 81 في المئة منهم من النساء والأطفال). وقد وجد معظمهم أنفسهم في مناطق محدودة شمال محافظة إدلب بالقرب من الحدود مع تركيا وفي المناطق الشمالية الغربية المجاورة لمحافظة حلب.

كيف تُحصي الأمم المتحدة أعداد النازحين داخلياً؟

تُقيم الأمم المتحدة أسبوعياً عمليات النزوح الأخيرة في شمال غربي سوريا، وعلى هذا الأساس تحدد حجم المساعدات الإنسانية العاجلة المطلوبة على أرض الواقع. وعند الضرورة، تُجرى أيضاً تقييمات خاصة.

يستند التقييم إلى البيانات الأولية التي تجمعها شبكة تضم أكثر من 100 مراقب في مختلف أنحاء شمال غربي سوريا، يعملون لمصلحة منظمات غير حكومية تمولها الأمم المتحدة. وتجرى مقارنة البيانات الميدانية الجديدة بالبيانات السابقة وسجلات السفر ومصادر المعلومات الأخرى لتقدير عدد الأشخاص الذين غادروا منازلهم الأسبوع السابق.

ونظراً إلى أن الوضع في شمال غربي سوريا لا يزال غير مستقر، يتم إجراء التقييم استناداً إلى المعلومات المتوفرة. فضلاً عن أن تقييم عمليات النزوح يساعد في تنظيم إيصال القدر الكافي من المساعدات الإنسانية إلى المناطق حيث يُشتد الحاجة إليها.

كم عدد الذين لا تشملهم المساعدات الإنسانية؟

تسعى الأمم المتحدة إلى زيادة حجم المساعدات، فقد أرسلت بالفعل 444 شاحنة إلى شمال غربي سوريا خلال شهر آذار وحده، وُجهت لمساعدة أكثر من 1.8 مليون شخص من النساء والأطفال والرجال المحتاجين. أما في شباط، فقد أرسلنا 927 شاحنة مُحملة بالمساعدات، ووصل العدد إلى 1227 شاحنة مساعدات في كانون الأول.

تُقدم المؤسسات المختلفة المساعدات إلى أعداد مختلفة من الناس. على سبيل المثال، تُقدم منظمة الصحة العالمية وشركاؤها إمدادات شهرية لما يقرب من 800 ألف شخص في شمال غربي سوريا، ولكن الاحتياجات الفعلية تتجاوز قدراتها. ويقدم برنامج الأغذية العالمي مساعدات لأكثر من مليون شخص شهرياً، من بينهم ما يقرب من 500 ألف مدني نزحوا مؤخراً.

 على حافة البقاء

عبر عُمر، وهو ناشط إعلامي من إدلب، عن ثقته بأنه على رغم عودة بعض اللاجئين، فإن كثيرين منهم لن يعودوا إلى ديارهم، قائلاً: “الكثير من الناس الذين يعيشون في المخيمات من القرى والمدن التي أصبحت تحت سيطرة النظام، لا يصدقون الحكومة، فضلاً عن أن منازلهم تعرضت للدمار بسبب التفجيرات، ولذا لا مكان ليعودوا إليه، ولا يملكون مالاً، الناس يعيشون في فقر مدقع، في ظل تردي الوضع الاقتصادي”.

لاعمل ولا نقود. يضيف عُمر: “تحدثت منذ بضعة أيام مع أحد الأصدقاء يعمل طبيب أسنان في البلدة. وقال إن الناس يأتون لتلقي العلاج، ولكن ليس لديهم أي مال لتغطية تكاليفه”. أما بالنسبة إلى الأطفال، فثمة مشكلة كبيرة تتمثل في التعليم، إذ تعرضت مدارس كثيرة للدمار، وأصبحت الفصول الدراسية مكتظة بالطلاب. “في السابق كان هناك 60 طفلاً في الفصل، والآن يوجد هناك 100 طفل في الفصل الواحد. فالأطفال يعانون من إصابات نفسية مروعة”.

تتسم محافظة إدلب بأنها منطقة زراعية. “في السابق، اشتهرت إدلب بأشجار الزيتون، وكان الزيت يُصنع ويباع في الخارج. والآن لم يعد هناك مكان لبيع زيت الزيتون. ولذا ليس بوسع الناس سوى العناية بحقول الزيتون للمحافظة عليها من الدمار، إذا استطاعوا ذلك”. في أعقاب العملية العسكرية الأخيرة، أغلق رجال الأعمال القلائل أعمالهم وغادروا. والآن تعيش المنطقة على المساعدات الإنسانية وعلى الأموال التي يرسلها أقارب المقيمين من الخارج.

ترى لُبنى القنواتي أن “الناس يحتاجون إلى الحماية، ولا بد أن يتمكنوا من العودة إلى ديارهم طوعاً عندما تصبح آمنة – ومن أجل تحقيق ذلك يجب التوصل إلى حل سياسي للصراع السوري؛ لضمان الحقّ في الحياة، والحقّ في الأمن، وإمكان الحصول على عمل”.

 هل ستعيد روسيا النظر في موقفها بشأن سوريا بعد جائحة “كوفيد-19″؟

تُشير بعض آراء الخبراء التي أثيرت في الآونة الأخيرة إلى أن العواقب الاقتصادية المترتبة على الجائحة تزامناً مع انخفاض أسعار النفط، يمكن أن تفرض ضغوطاً على الحكومة الروسية تدفعها إلى إعادة النظر في موقفها بشأن سوريا، بل وحتى تقليص الدعم العسكري باهظ التكاليف، وغيره من أشكال الدعم المُقدم لبشار الأسد. مُنذ عام مضى، أجرى مركز “ليفادا سنتر” للدراسات الاجتماعية استطلاعات للرأي أظهرت أن 55 في المئة من الروس يريدون إنهاء العمليات العسكرية في سوريا. وفي الوقت الراهن، يواجه الاقتصاد الروسي أزمة غير مسبوقة، وقريباً الكثير من الأسر لن تحصل على دخل من لإطعام الأطفال، لذا من الواضح أن “النجاحات” العسكرية التي تحققت على الساحة الدولية لم تعد ذات أهمية.

فبدلاً من إنفاق المال على العمليات العسكرية التي تدمر منازل ومستشفيات الآخرين، أليس من الأفضل استثمار تلك الأموال في تحسين أحوال الروس أنفسهم؟

قال أحد المشاركين في الحوار من إدلب “من فضلك أخبر قراءكم بأننا لسنا متطرفين، بل مجرد أُناس يقفون في وجه الطاغية”. مضيفاً “لقد ذُقنا الأمَرّين من جبهة النصرة، ربما أكثر مما عانيناه من الأسد وروسيا. لذا نحث الروس على التضامن معنا ووقف آلة التدمير هذه”.

سأل أحد المشاركين الآخرين في الحوار “لماذا قررت الحكومة الروسية أن مثل هذا التدخل في هذه الحرب يصب في مصلحتها؟ فالشعب السوري لم يقاتل ضد روسيا، لماذا إذاً تشن حرباً ضدنا؟  لم يكن لدى أحد هنا أي سبب يدعوه ليكون عدواً لروسيا، والآن باتوا أعداء! ولذا من الأفضل لروسيا أن تكف عن دعم الأسد لكي يبقى في السلطة بالقوة وأن تمنح الشعب السوري الفرصة لتقرير مستقبله”.

يبدو أن روسيا وتركيا ودول الغرب والشرق الأوسط منهمكة حالياً بمشكلاتها الداخلية. إضافة إلى أن العواقب الاقتصادية المترتبة على هذه الجائحة سترغم الجميع على خفض طموحاتهم على الساحة الدولية. وهذا من شأنه أن يمنح فرصة كبيرة للأطراف الرئيسية للنظر مجدداً في المشكلة ومحاولة إيجاد حل للأزمة السورية وإحياء العمليات السياسية والديبلوماسية.

فضلاً عن أن ذلك يتيح لنا نحن المواطنين الروس، الفرصة لكي نسأل أنفسنا بجدية: لماذا نحتاج إلى هذه الحرب؟

نشر هذا الموضوع في نوفايا غازيتا ولقراءة الموضوع الأصلي زوروا الرابط هنا