شعار إرحل الذي رفعه متظاهرون في إقليم كردستان في الاحتجاجات الأخيرة، هو في وجه من وجوهه، موجه ضدّ الأزمات السياسية الخانقة التي تواجه السلطات المحلية. وهذا تحول لم يشهده الإقليم منذ تأسيس برلمانه وحكومته منذ عام 1992. كانت المظاهرات فيما مضى، تطالب بالإصلاح السياسي، الحكم التداولي، الشفافية، الحريات والديمقراطية بطبيعة الحال، ولكن الاحتجاجات هذه المرة، انطلقت بعدما وصلت محاولات السيطرة على الأزمة المالية التي تضرب كردستان إلى نهاية النفق، حيث لم يعد بمقدور الحكومة دفع رواتب الموظفين، كما أنها لم تخف عجزها عن إيجاد الحلول في العام المقبل. وفي نفس الأثناء، تلعب الحكومة الاتحادية دور المراقب المحايد البعيد، وهو دور قد يجني رئيس الوزراء حيدر العبادي من وراءه، أصوات أكثر في الانتخابات القادمة.
ومن تبعات تلك المظاهرات، إقدام السلطات الكردية على إقفال قناة NRT التلفزيونية المستقلة ومقرها مدينة السليمانية، واعتقال مالك القناة شاسوار عبدالواحد، وعدداً من العاملين فيها، في خطوة اعتبرت انتهاكاً جديداً للحريات الاعلامية في الإقليم.
يعود جزء من جذور الأزمة المالية الحالية إلى عام 2014، حيث قطعت بغداد الميزانية عن حكومة الإقليم بقرار من نوري المالكي، فيما يعود جزء آخر إلى سياسات خاطئة، مزجت بين مصالح العائلات الحاكمة، وبقاءها في الحكم، من خلال “الريعية السياسية” في كُردستان. وعلى رغم أن الحرب على داعش أخفت جانباً من أزمات كردستان الاقتصادية والسياسية في السنوات السابقة، الا أنها عادت للظهور بقوة، وقد تغيرت ملامح المشهد السياسي السائد في الإقليم، والتي ظهرت فيه سيطرة الحزبين الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني على الحكم منذ ربع قرن.
تتحدث أوساط سياسية كُردية عن معلومات مفادها، بأن الحكومة أعلنت مع البرلمان على نحو مبطن، عن عجزها في وضع برنامج للعام المقبل، دون إجراء اتفاق مع الحكومة الاتحادية، وهو ما ترفضه بغداد، قبل الوصول إلى اتفاق آخر، يمنحها السيطرة على جميع المنافذ الحدودية، وصادرات النفط. أدى تسريب هذه المعلومات التي لم تعلنها الحكومة ولم تنفها، إلى تفجير الأزمة الراكدة منذ سنين، حيث نزل المواطنون إلى الشارع رافعين شعار، إرحل، ذاك أن الأمل في انتظار إصلاح الأوضاع والذي لطالما وعدت به الأحزاب الحاكمة، ذهب مع الريح.
ومن هنا، ليس لدى الحكومة، والبرلمان الخاضع لها ضمناً، أي مشروع للخروج من الأزمة داخلياً، وأصبح الأمر متروكاً لجميع الاحتمالات، وقد يكون الإضراب العام وشلّ جميع المرافق الخدمية أحد ملامحها. اجتماعياً، هناك طاقة واستعداد هائلين، لنزع السياسات التبريرية عن السلطة وتعريتها أمام ذاتها، ذاك أن عقاب السلطة ورموزها الموغلة في الغناء الفاحش، والمحميات السلطوية في قلب المدن، ليس مجرد رغبة سياسية فحسب، بل اجتماعية وشخصية ايضاً، ولأن الفقر والعوز في البلد المليء بالخيرات والموارد لا يوازيهما سوى ثراء الغيتوهات السياسية. يشير مراقبون سياسيون من أربيل والسليمانية، الى أن حكام الإقليم وبدل الاستماع للرأي العام الداخلي، والحيلولة دون انفجار عام، يعيشون على أمل ضغط الحكومات الأوروبية على العراق، من أجل البدء بحوار من شأنه حلحلة مشكلات كردستان المالية، ورؤية الضوء في نهاية النفق. وهو ما لم يحصل إلى الآن.
استوجبت المظاهرات، التي لجأ المحتجون فيها إلى خزان ذاكرة شعبية، من تعابير وشتائم ضد رموز السلطة، ومواقف سياسية متباينة في الوسط السياسي الكُردي، منها انضمام رئيس البرلمان إلى حشد المتظاهرين.
وق طالب تحالف الديمقراطية والعدالة، الذي يترأسه القيادي ورئيس الوزراء السابق برهم صالح، بتشكيل حكومة مؤقتة خارج هيمنة السلطة الحالية واحتكارها، والبدء بحوار مع الحكومة الاتحادية وفقا لبرنامج وطني هادف الى حل مشاكل الناس، بعيدا عن التنازع حول مصالح السلطة الحالية، وإيجاد طريقة عاجلة لدفع رواتب الموظفين وتفعيل الخدمات العامة، وضمان اجراء انتخابات نزيهة وشفافة، وفق اجراءات رادعة للتزوير، وسرقة أصوات الناخبين ومصادرة إرادة المواطن. وفي المواقف السياسية ذاتها، لا تجد قيادات من الاتحاد الوطني الكُردستاني الذي يتناصف الحكم مع الديمقراطي الكردستاني، حرجاً في التحالف مع القوى الاجتماعية الساخطة من فشل حزبهم، وقد يؤدي هذا التحول إلى إنهيار دور قادة “الجبال” كما درجت التسمية.
في تفاصيل هذا المشهد السياسي، الذي تبدو فيه صورة الحكم الكُردي كنمرٍ أنهكه فصل الجفاف، يجسد شعار إرحل، حساً اجتماعياً ناتجاً عن السخط والإحباط، إلا أنه مجرّد من معانيه السياسية، ذاك أن رؤوس السلطة في الإقليم كُثر، ولكل رأس إمارته. وبالتالي، من المقصود بالرحيل، وكم رأس سلطة يشمله هذا الشعار؟[video_player link=””][/video_player]
هذا الموضوع تم انجازه بدعم من مؤسسة Rosa-Luxemburg-Stiftung’s Beirut Office