في صيف 2016 حين أُحبطت المحاولة العسكريّة الانقلابيّة في تركيّا، سُرّحت أعداد ضخمة من الجنود والموظّفين وسُجن 160 ألف شخص. هؤلاء اتُّهموا بالمشاركة، على نحو أو آخر، في المؤامرة الانقلابيّة.
الأمر بدا لكثيرين في تركيّا نفسها وفي الخارج أشبه بالنكتة. ذاك أنّ المؤامرة الإنقلابيّة لا يعرف بها ويخطّط لها إلاّ عدد محدود من الناس. إنّها بالتعريف عمل سرّيّ، وكلّ سرّ، كما يقول المأثور العربيّ، يشيع إذا جاوز الإثنين. فكيف يُعاقَب عشرات آلاف البشر على مؤامرة سرّيّة؟
كانت تلك الرواية أشبه بإدخال فيل في ثقب إبرة. لكنّ إدخال الفيلة بات، على ما يبدو، نهجاً رسميّاً معتمداً في أنقرة الإردوغانيّة. فيوم أمس، ظهرت النتيجة الأولى للانتخابات العامّة الأخيرة التي حملت رجب طيّب إردوغان إلى رئاسة الجمهوريّة وافتتحت عهد الحكم الرئاسيّ الذي امتنع حتّى كمال أتاتورك عن اعتماده.
لقد سُرّح بضربة واحدة 18 ألف موظّف وجنديّ، كما أُغلقت محطّة تلفزيون وثلاث صحف. هذا هو أوّل الغيث الرئاسيّ.
والحال أنّ تركيّا عرفت ما بين 1960، حين أُطيح رئيس الحكومة عدنان مندريس (الذي أُعدم في العام التالي) و2003 حين تولّى السلطةَ “حزب العدالة والتنمية” الإسلاميّ، طريقة مميّزة في الحاكميّة: حياة ديمقراطيّة برلمانيّة يقطعها كلّ عشر سنوات انقلاب عسكريّ يتولّى “تطهير” الحياة السياسيّة عبر “استئصال التطرّف”. بعد ذاك تُعاد الحياة إلى المدنيّين وأحزابهم. “المتطرّفون” الذين يخضعون لـ “التطهير” قد يكونون يساريّين أو إسلاميّين، أكراداً أو علويّين، لكنّ القاعدة المعمول بها تبقى إيّاها لا تتغيّر.
هذه الرقابة الأبويّة هي ما يبدو أنّ إردوغان، بوصفه رئيساً للجمهوريّة، سيعمل بموجبها: “تطهير” الحياة السياسيّة من “متطرّفين” قد يكونون غولانيّين أو أكراداً أو ليبراليّين أو مجرّد معارضين لأيّ سبب كان. وغنيّ عن القول إنّ المعارضين هؤلاء، بعد تجربتي عبد الله غُل وداوود أوغلو، قد يوجدون داخل الحزب الحاكم نفسه.
نظريّة “التطهير” هذه، أمارسها عسكريّون أم مارسها إردوغانيّون، تدلّ إلى مستوى التطوّر الديمقراطيّ المتواضع، بل مستوى الإعاقة الديمقراطيّة، في تركيّا. مع هذا يبقى فارقان يعملان، لشديد الأسف، لصالح العسكر:
فهم، أوّلاً، كانوا يعيدون الحياة السياسيّة إلى السياسيّين بعد “تطهيرها”، فيما إردوغان يحتفظ بالسلطة ويزيدها توطيداً فيما هو يمارس “التطهير”. وهم، ثانياً، ولأنّهم انقلابيّون تعريفاً، يمكن لإطاحتهم أن تبدو مشروعة، بل تقدّميّة. أمّا إردوغان، ذو الشرعيّة الديمقراطيّة، فإطاحته تبقى عملاً غير شرعيّ وغير ديمقراطيّ.
هنا يكمن سحر الشعبويّة القاتل الذي يبدو أنّ تركيّا سترزح طويلاً تحت وطأته.